• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

تأملات قرآنية في قصة يحيى وزكريا/ ج1

مائدة عبد الحميد

تأملات قرآنية في قصة يحيى وزكريا/ ج1
زكريا ويحيى (ص) قدوتان يُقدّمهما لنا القرآن الكريم لكلّ إنسانٍ يريد أن يسير على طريق الكمال، وشمعتان تُنيران الطريق لمن أراد الوصول إلى المحبوب الأوحد. ودعامتان أساسيتان لمريم وعيسى – عليهما السلام – في طريقهما الشائك لهداية البشرية، وإنقاذ بني إسرائيل ممّا كانوا فيه من المتاهات الفكرية والانحرافات العقائدية وطغيان طبقة قليلة عليهم بإسم الدين وتعاليم الرب فكوَّن هؤلاء الأربعة – كما شاء لهم ربّهم وقدّر – قوّة جبارة – في عين بساطتهم وتواضُعهم – تمدّ من يُريد الخلاص من هذه العصابة الباغية بأسباب الدعم، والثبات، فتجعله لا يتزعزع ولا يتراجع في سبيل القيم الإلهية والمثل الربانية الحقّة، لا المصطنعة التي يقدّمها لهم الباغون ليتسلّطوا عليهم ويستنزفوا دماءهم ويستحوذوا على أرزاقهم، فما أحوجنا نحن في هذا الوقت الحرج بالذات، ونحن نرى أنّ هذه العصابة – الموجودة خلف الكواليس دائماً وعلى المسرح أحياناً – تكيل لنا اليوم تلو الآخر أنواع المصائب وتتربّص بنا الدوائر وتحشد لنا الصفوف غير مُخفية حقدها ولا متورّعة عن إبراز ضغائن صدورها، وإن كانت تتلبس أحياناً بلباس الحمل الوديع الذي سرعان ما يسقط زيفه، ويبدو خداعها عندما تُرينا أنياب الذئب المفترس الذي يتحيّن الفرص للانقضاض على فريسته الغافلة. فما أحوجنا في هكذا ظروف إلى أن نراجع القرآن الكريم ليكون لنا عوناً فيكشف لنا عن ملابسات تلك الأيّام التي أحاطت بولادة عيسى (ع) وكيف استطاعت هذه القلّة المؤمنة المؤيّدة من السماء الانتصار – بمقاييس السماء طبعاً – على كلّ الطغيان. هنا نجد بوضوح أنّه كما أنّ لكل معسكر مبادءه وأفكاره، فإنّ لكل معسكر آليّاته وسلاحه، فمعسكر الشيطان يحتال ويكيد ويحقد ويُطبّل ويبثّ سمومه. ومعسكر الحقّ يستخدم آليّاته الخاصة التي تفيض نقاءً وصفاءً وطيبةً وحقيقة. فلا يمكن لأيّ عاقل أن يتصوّر بأنّ معسكر الحقّ سوف يستخدم الخبث والمكائد الشيطانية ليصل إلى طريق النور ومن ثمّ لقاء الكمال المطلق في هذا الوجود، فهنا – بالطبع – سوف يكون نقضاً للغرض، فالذي يدعو إلى الهدى والحق لا يستخدم أساليب الضلالة والباطل لنجاح دعوته، والعكس صحيح أيضاً. أرجو أن نكون بهذه المقدّمة قد وضّحنا الخطوط العريضة التي رسمها لنا القرآن الكريم لإستعراض جنباتٍ مشرقة من هذه الشخصيات العظيمة التي يخصّها سبحانه بالذكر ويبرزها لنا نموذجاً يحتذى به من النماذج التي تُنير طريق الهدى والحق لمن يسلكه.     - القسم الأوّل: شخصية زكريا (ع): قد يكون الشخص في مجتمع يطغى عليه الجهل والحرمان ويكون له حظ قليل من العلم فيبرز ويشار إليه بالبنان كعالم لا يشق له غبار ولا يدانيه عالم آخر فيكون مُتّبعاً فإذا صادف أن مرَّ على هذا المجتمع شخص له حظ ولو أكثر بقليل من الإطلاع والمعرفة، نجد أنّ هذا العالم، لا يكاد يبين من ضحالة معلوماته. وعلى العكس من هذا تماماً، تجد عالماً قد ارتقى سلّم العلم فبلغ مبلغاً تتهاوى عنده همم المجدين المجتهدين ولكنه إلى جانب علمه قد كسب من الفضائل الأخلاقية والحالات المعنوية الراقية ما يجعله مؤهلاً لأن يفيض المولى جلّ وعلا عليه من الهالات القدسية ليعرّف الناس على ما ستره هذا العالم الورع – تواضعاً وعبودية – (من تواضع لله رفعه)[1] فيعطيه حقه من المديح ويبين للناس مقامه ليتخذّوه قدوة ويكون عليهم حجة (لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء/ 165). وبلا شك فإنّ أفضل من هذا وذاك ما إذا كان عالم بين علماء أجلاء كلّهم قد بلغوا درجات عالية من العلم والتقوى، وتحلوا بالفضائل الأخلاقية، وتنزّهت نفوسهم عن كل شائبة يمكن أن تشين النفس البشرية فتتردى بها إلى مهاوي الإنحطاط، بل هم في سباق لنيل الدرجات الرفيعة في أعلى عليين فيكونون ممن يشير إليهم سبحانه في كتابه الكريم بأنّهم (حُسن الرفيق) وبأنّه سبحانه أنعم عليهم – وفي استخدامه عزّ وجلّ صيغة أفعل (أنَعَمَ) بالماضي ما فيها – (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء/ 69)، وفي هذه الآية فقط نجد أنّه سبحانه وتعالى يشير إليه بخمس من عناوين المدح فأي تقييم يمكن أن نقيّم هذه الشخصية، وأي مقام يمكن أن نتصوره قد وصلت إليه، وأي رفعة وأي فضيلة حازتها هذه الشخصية بعلمها – ونقصد بالعلم هنا العلم الإلهي لأنّه هو العلم الحقيقي – وتقواها وجهادها وصبرها ولكن كل ما ذكرناه هو ما فهمناه من السياق القرآني وما توصلنا إليه بعقولنا الناقصة، لم يكن كافياً للتنويه بفضل هذه الشخصية فنجده سبحانه يسلّط عليه الأضواء مشيراً إليه بالإسم، وملقباً إياه بلقب عظيم طالما لقب به خاتم أنبيائه وصفوة مرسليه، إضافة إلى أنبياء عظام آخرين. لقب يشعر بمقام آخر وصلت إليه هذ الشخصية المبجلة المكرمة فنجده سبحانه يبتدأ بها حفل التكريم الذي أراد به ذكر عدد من الشخصيات الفذة ومواقفها الممتازة ناصباً إياهم أعلاماً لهدايته ومنالاً يلتمس به الراغبون السبيل إلى الصراط المستقيم فنراه جلّ وعلا يذكرنا برحمته التي سبقت لعباده الصالحين مفتتحاً هذا السجل المُشرّف مخاطباً نبيه الكريم بأنّ هذا ذكرٌ لرحمة ربك لعبده زكريا (ع). نعم، هو زكريا (ع)، هذا العبد المطيع لربه، المخلص له جلّ وعلا في جميع أموره وفي كل أحواله. هذه هي الشخصية المؤمنة العالمة المشار إليها بالبنان، ولكن ليس من بين الجهال ولا أنصاف العلماء ولا حتى العلماء العاملين المجتهدين بل بين الأنبياء والشهداء والصالحين ومن هم حسن الرفيق. تعالوا معي إخوتي المؤمنين لنلتمس – على قدر ما تسعه أوعيتنا – بعضاً من الأنوار الساطعة من هذه الشخصية ولنرى بعض الذي إستحقت عليه التكريم والتبجيل منه سبحانه حتى أشار إليها في كتابه الكريم وخصها بالذكر العلي وأعطاها هذه المكانة لكي تكون أوّل من ذكر في هذه السورة المباركة، سورة مريم.   - أوّلاً: الرحمة الإلهية: أوّل ما يجذب الإنتباه في هذه السورة الكريمة – كما في غيرها من السور القرآنية الكلام البليغ المنقطع النظير وهو ما حيّر عقول البلغاء في عصر نزول القرآن وفي كل عصر وما يهمنا هنا هو لطافة وعذوبة الألفاظ التي أوردها سبحانه عند الحديث عن عباده المصطفين المخلصين والتي تفيض محبة وحناناً وعناية. فهو سبحانه يبدأ الكلام في هذا المقطع – الذي يخص التكريم لأوليائه الصالحين – بالقول (ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) (مريم/ 2)، فهو سبحانه يذكر الرحمة وهو لفظ – إذا أردنا أن نبدأ فهم المعنى من فهم اللفظ – يبعث في النفس البشرية الطمأنينة والإنشراح مما يجعلها تشتاق لمعرفة باقي الكلام؛ ما هي هذه الرحمة؟ ولمن توجّهت ولماذا؟ ومن هي هذه الرحمة؟ فإذا بتتمة الكلام تأتي لتقول إنها رحمة الرب، الرب الخالق، الرب المربي، الرب الرحيم ثمّ هو ربك يا نبي الرحمة يا من يخاطبك الله في قرآنه فيقول: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107)، إذا قلنا أنّ الخطاب موجّه للنبي الأكرم (ص) ومختصّ به ومن ثم هو رب كل من يقرأ القرآن الكريم (إن قلنا أنّ الخطاب موجّه له (ص) ولكنه غير مختص به، فهو موجّه لكلّ من بلغه الخطاب) وهو رب الرحمة وهو الرحمان الرحيم. هذه الرحمة تشمل هنا في هذه الآيات هذا العبد المكرّم منه سبحانه فما هي هذه الرحمة وكيف شملته ولأي شيء شملته؟؟ علم هذا عند الرحيم العليم ولكن هناك عدة صور أشار إليها سبحانه في هذه الآيات يلاحظها المتأمل لها فلاحظ معي:   - الصورة الأولى: العبودية: هذه الصفة العظيمة التي متى ما استطاع الإنسان أن يتّصف بها، ويتلبّس بها، ويحسّ بها، بكل وجوده أو صلته أكثر فأكثر إلى الكمال الذي يبتغيه ويريد الوصول إليه ألا وهو كمال العبودية، فهي حلقة الوصل بينه وبين معبوده الأوحد فمتى ما كان عبداً توجّه إلى ربه ووصل إليه فيرحمه وتتغشّاه الرحمة فينعم ويهنأ وإن كان يُنشر بالمناشير (كما يروى بأن زكريا (ع) نال الشهادة عن هذا الطريق). وهذه الصورة تذكرنا بمناجاة أمير المؤمنين (ع): "مَولاي يا مَوْلاي أنتَ الموْلى وأنا العبدُ وهل يَرحَمُ العبدَ إلّا المولى...، مولاي يا مولاي أنت الغَنيُّ وأنا الفَقيرُ وهل يَرْحَمُ الفقير إلا الغَنيُّ، مولاي يا مولاي أنت المُعْطِي وأنا السَّائِلُ وهل يَرْحَمُ السائِل إلّا المُعْطِي...، مولاي يا مولاي أنت الرَّازِقُ وأنا المَرزُوقُ وهل يَرْحَمُ المَرزُوق إلّا الرّازِقُ...، مولاي يا مولاي أنت الرَّبُ وأنا المَربُوبُ وهل يَرْحَمُ المَرْبُوبَ إلّا الرَّبُّ"[2]. فمتى ما تحققت هذه المعادلة ومتى ما توفّرت هذه المقدّمة ألا وهي إحساس العبد بعبوديته لمولاه الحق، فإنّ النتيجة لا تتخلّف أبداً عن مقدّمتها وهي هنا حصول الرحمة من الرب الرحيم. فالرّب سبحانه وتعالى هو رب دائماً ولكن عباده لا يحسون بعبوديتهم ولا يقومون بما تمليه عليهم هذه العبودية دائماً لذا لا يحصل الوصل والإتصال. فالرب الرحيم يغذّيهم بالرحمة في كل آن ولولا ذاك لاندكّ كلّ شيء ولكن العباد بإعراضهم عن مولاهم، وبإنشغالهم وتشغالهم عنه، وبإغلاقهم منافذ نفوسهم عن هذه الرحمة النازلة المتواصلة يجدون أنفسهم محرومين منها، فلمّا كان السبب في كل ما يلاقونه من حرمان هو من عند أنفسهم فلا يلومون إلّا أنفسهم (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (يونس/ 44)، نعم، إنّ الإنسان بظُلمه لنفسه يصبح بعيداً عن الرحمة الإلهية فالرب الرحيم الذي خلق الناس للرحمة فقد خلق الإنسان ليبتليه ووفّر له أسباب الهداية، وتكفّل برزقه، وضمن حل كل مشاكله، وعلّمه كيف يحيى أفضل حياة وكيف يموت أفضل ممات، فإذا ما حيا كما أراد له خالقه ومات كما شاء له بارئه، فإذا به يرد عالم البرزخ، ومن ثمّ عرصة القيامة وهو محفوف ببشرى الملائكة وتتغشاه الرحمة وترى على وجهه نضرة النعيم، فيكون راضياً مرضياً حتى يدخل جنة الخلد فيكون خالداً في رحمة ربه فيالها من سعادة وطوبى له وحسن مآب. هذه اللوحة الربانية التي ترسمها لنا يد القدرة الإلهية عن الراحة النفسية واللذة الروحية لعباد الله الصالحين في محياهم ومماتهم، نجدها بأبدع صورها وأنقى ألوانها في أنبياء الله العظام وأول ما يذكر في هذا المقام وفي هذه السورة بالذات – سورة مريم (ع) – نبي الله زكريا (ع). فما أبهاها من لوحة!! ولكن كيف؟ وما هي تفاصيل هذا الموقف الجليل. هذا ما نشاهده في الصورة التالية.   - الصورة الثانية: الدعاء: قلنا أنّ العبودية صفة عظيمة ولكن، كيف يتصف الإنسان بها؟ يجب أن تكون هناك مقدّمات – شأنها في ذلك شأن أيّة صفة أو فضيلة، أو حتى رذيلة، أخلاقية – ولكن ما هي هذه المقدّمات كما تدلنا هذه الآيات الكبيرة في معانيها الصغيرة في حجمها وعدد حروفها. أوّلاً: الإحساس بالفقر والإحتياج المطلق أمام الغني المطلق (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ) (الأنعام/ 133)، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر/ 15)، أن يحس الإنسان أنّه في أدنى درجات الذل أمام الرب الجليل. فإذا أحس بهذا حقيقةً جعله هذا الإحساس محتاجاً إليه تعالى في جميع أموره. ثانياً: أن يعلم بأنّه سبحانه قادر على أن يحقّق له ما يريده، بل لا قادر سواه، فإذا علم بهذا، توجّه إليه ولم يتوجّه إلى سواه، ولن يطلب شيئاً من غيره. ثالثاً: أن يعلم بأنّه سبحانه عالم بضعفه وفاقته، فإذا علم بهذا لانت نفسه وانقادت. رابعاً: أن يعلم بأنّه سبحانه رحيم ودود، فإذا علم بهذا اطمئن بأنّه لن يردّه خائباً. فإذا تمت هذه المقدّمات توجه إلى ربه الغني القادر العليم الرحيم فإذا به يناديه ويطلب منه ويرجوه (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا) (مريم/ 3)، فهو سبحانه موضع الشكوى، والشكوى إليه إفتخار للمؤمن فيبدأ يبث شكواه مبينا ضعفه مسترحماً إياه بذكر الشيب وحاله التي هو عليها وفي نفس الوقت مستحضراً ما مضى من ساعاته في أيامه ولياليه التي كان يدعو فيها ربه ويلتذّ بدعائه ومناجاته فيسعد ويهنأ، فهذا العبد – زكريا (ع) – هو عبد تكرر وقوفه على باب ربه ولم يكن من الأشقياء ولا من أهل الجفاء. ثمّ يسترسل بوصف حاله وما آل إليه أمره، فيعرضها على الرب العليم، فهو لا يمل من التضرّع والحديث مع المولى عزّ وعلا فحاجته ذريعته للحديث مع المحبوب، فهو لا يريد أن يأخذ الحاجة ويولّي وجهه عنه سبحانه، بل يريد أن يقول ويقول من غير ملل ولا كلل، ويريد رب العزة أن يسمع صوت عبده لأنّه صوت يحب سماعه. ولكن ما هي هموم هذا العبد؟   - الصورة الثالثة: هموم المؤمن الرسالي: الإيمان الحقيقي بالله سبحانه وتعالى حالة قلبية ومقام تصل إليه النفس البشرية بعد إدراك سلسلة من الحقائق – حقيقة وجودها، حقيقة خالقها، نقصها واحتياجها وغناه وكماله، وحقائق أخرى يطول بنا المقام إذا أردنا ذكرها كما أنّ الكثير منها يُعد من الأمور الغيبية التي يحتاج البحث فيها إلى تعمّق وتوسّع – وبعد تنبّهٍ ويقظةٍ. فإذا وصلت النفس إلى هذا المقام أحسّت براحة ولذة عظيمة لا تقاس إلى هذا المقام أحسّت براحة ولذة عظيمة لا تقاس بها لذة من اللذائذ المادية وكلّما أحسّ الإنسان بحقيقة هذا الإيمان نراه يتوغّل فيه فيملأُ شغافَ قلبه ويسدُ ثغرات روحه ويغشى كيان نفسه ويستوعبُ دقائق أفكاره، فهو لا يكاد يحسّ بشيء ولا يفكر بأمر ولا يحلم ولا يتمنّى إلّا في هذا الإطار الإيماني فتكون نظرته للأمور من هذا المنظار لذا فهي نظرة رحمانية حقّة، كما يروى عن سيد الموحّدين وأمير المؤمنين علي (ع) "ما رأيت شيئاً ألا رأيت الله فيه أو قبله أو معه"[3] وهذا ما نجده في أروع صورة في أولياء الله المنتجبين وعباده المخلصين ولهذا ورد في الحديث النبوي عن النبي الأكرم (ص): "أنّ الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها" لأنّ فاطمة (ع) لا تغضب ولا ترضى إلّا له سبحانه. من هنا، نجد أنّ الإنسان المؤمن الذي وصل في الإيمان إلى مراحل عالية وحصّل كمالات عظيمة، نجده لا يهتم ولا يحزن إلا من واقع إيمانه الذي يعيشه. فهذه الرسالة التي يحملها هي التي تحرك مشاعره وتثير أحزانه فهو لا يرى نفسه شيئاً ولا يريد لها خيراً أو شراً إلّا في هذا الإطار. فوجوده وكيانه كله ليس إلا وسيلة لتحقيق الأهداف الإلهية، في هذا المثال القرآني الذي يقدمه لنا سبحانه وتعالى في صورة دعاء زكريا (ع). فهو هنا يدعو ربه لأن يرزقه الولد ولكن لماذا؟ هل يريد ولداً ليفتخر به بين الناس ولكي لا يضيع إسمه وليحفظ نسبه؟ أم أنّه يريده لهوى في نفسه؟ هل أراد زكريا (ع) أيّ ولد؟ أم أنّه أراد ولداً معيّناً بصفات معيّنة ما هي تلك الصفات؟ الجواب على هكذا أسئلة نحصل عليه إذا تأملنا في الآيات القرآنية التي تحكي لنا كيفية دعاء زكريا (ع) فلنتأملها جيِّداً كي نتعلّم إذا أردنا أن ندعو كيف ندعو، وماذا نقول في دعائنا. (قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) (آل عمران/ 38).   - المحور الثاني: ملامح من شخصية زكريا (ع): يُفهم من سياق الآيات التي تُذكر فيها قصة زكريا (ع) ودعاؤه لله سبحانه وتعالى طالباً الذرية، أنّه (ع) كان مستجاب الدعوة، وهذا بحد ذاته دليل على مقام عالٍ ورفيع، ولكن ما يلفت الإنتباه هو أنّه لم يدعو إلا بعد وهن عظمه وإبيضاض شعره، ونريد هنا أن نستلهم بعض الدروس التي يهديها لنا القرآن الكريم من خلال إستعراض مواقف أولياء الله المقرّبين ومنهم زكريا (ع)؛ فلنتوقّف عند محطّتين من هذه المحطّات مستلهمين بعض الدروس منها.   - المحطة الأولى: علاقة زكريا بالله سبحانه: الدرس الأوّل: الصبر الصبر وسام تَزيّن به عباد الله المقربين فهم مع مكانتهم من الله سبحانه وتعالى ومع أنّهم واثقون من إستجابته عزّ وعلا (قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) (آل عمران/ 38)، فهم مترددون على بابه في كل حين، لا يكلّون ولا يملّون من مناجاته، يقضون ساعات ليلهم ونهارهم مستأنسين بذكره وتسبيحه مع هذا نراهم لا يطلبون منه مثلما يطلب غيرهم حيث أنهم لا يتوجهون إليه سبحانه إلا إذا كانت لديهم حاجة. وهذا ليس بالأمر المستقبح في ذاته لأنّ الإنسان يجب أن يفزع إلى ربه عند المهمات ولكن المستقبح أن لا يكون التوجه إليه سبحانه إلا في هكذا حالة – ولكن مثل زكريا (ع) يُفضِّل أن يصبر ويرضى بما أراده وقسمه سبحانه وتعالى له. الدرس الثاني: وقت الدعاء توقيت الدعاء: بعد صبر طويل وإنقضاء عنفوان الشباب حتى كهولة السن، نرى زكريا (ع) يقرر أن يدعو ربه ليرزقه الذرية فما الذي جعله (ع) يختار هذا الوقت بالذات. هل كان المقام المعنوي الذي كان يشاهد آثاره في الأرزاق الإلهية التي كان يجدها عند تلميذته ومكفولته مريم (ع) هو الباعث لزكريا (ع) في أن يشرع بالدعاء؟ أم أن كلمات هذه القديسة العالمة المهذّبة هي التي أثارت في معلّمها وكافلها ما دفعه لأن يطلب ويتضرع لبارئه؟ أم أنّ زكريا (ع) العالم العابد قد استشف من كل ما يرى من حالات مريم (ع) قرب تحقّق الوعد الإلهي بولادة المسيح الموعود؟ وهو العالم بأنّه سيكون من آل يعقوب فأراد أن يطلب منه سبحانه أن يعجّل في ولادته؟ أم أنّه كان يعلم أنّه سيكون من صلبه من يؤازر ويحمي هذا الموعود؟ فهو يطلب تحقّق هذه الكرامة؟ تساولات يثيرها السياق القرآني، وما هو متيقن هو وجود إرتباط وثيق بين الأرزاق الإلهية لمريم (ع) وبين دعاء زكريا (ع)، وما يؤيد هذا كلمة – هنالك – التي تفتح بها الآية 38 من سورة آل عمران (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) وهنا يمكن أن نستشف بعضاً من ملامح شخصية زكريا (ع) وأن طلبه هذا لم يكن فيه من الـ"أنا" شيء وإنّما جاء هذا الطلب لما كان يرى من علامات تبشّر بقرب تحقّق ما تصبو إليه نفس المؤمن الإلهي فجاء الطلب مميزّاً. وقد يكون هذا التوقيت إشارة إلى أنّ أحد أوقات الدعاء هو وقت رؤية النعم الإلهية حيث دعا زكريا (ع) ربه بعدما رأى الرزق الإلهي عند مريم (ع) وهذا ما يذكرنا بما جاء في بعض الروايات من أن وقت نزول المطر هو وقت مناسب للدعاء. ومن مواطن استجابة الدعاء. الدرس الثالث: تقديم الأهم على المهم: تعلمنا الآيات التي هي محل بحثنا هنا – والتي تخص شخصية زكريا (ع) – أنّ المؤمن يعرف كيف يختار طريقه إذا وصل إلى مفترق الطريق بين الصبر وطلب الحاجة من الله سبحانه وتعالى. فكلا الأمرين حسن، ولكن المؤمن يجب أن يقدم الأهم على المهم. فهنا لما أحسّ زكريا (ع) أنّ الأهم هو أن يدعو فقام به ولكن مع التوكل على الله سبحانه في جميع أموره ومع الثقة الكاملة بإستجابة دعائه إن كان فيه مصلحة وأنّ المصلحة هي في ما قدّر الحكيم العليم. الدرس الرابع: أدب الدعاء: من آداب الدعاء أن يعرف الإنسان مَن الذي يتوجّه إليه بدعائه، وممن يطلب قضاء حاجاته. فكما أنّ الإيمان يجب أن يكون حاضراً في كل أحوال الإنسان المؤمن فكذلك العلم. فهنا نجد علم زكريا (ع) وإيمانه في كل مفردة ينطق بها مع أدب عظيم، وخلق رفيع، ويقين ثابت بالقدرة الإلهية، وهذه الأمور من الأمور التي تؤكد عليها الروايات التي في أيدينا والتي ترشدنا إلى الكيفية المرضية عند الله سبحانه للدعاء، فعندما ندعو يجب أن نعرف أوّلاً لمن نتوجه في دعائنا وهذا ما نلمسه بوضوح في هذه الآيات التي تعرضنا لها سابقاً في سورة آل عمران وسورة مريم والتي تصف لنا كيفية دعاء زكريا (ع)، بالإضافة إلى حالة الداعي وكيف أنّه يجب أن يكون بين الخوف والرجاء أو فلنقل بين الثقة بأنّ الله سبحانه لن يخيّب عبده بماله من قدرة وبما جرّبه العبد من رحمته جلّ وعلا، وبين ألّا يحتّم العبد على مولاه أن يستجيب دعائه وهذا درس آخر من دروس العبودية يجب على كل عبد أن يتعلمه وهو درس مشترك بين العبودية والدعاء وفي هذا ما قد يُفسر لنا ذكر زكريا (ع) لكبره وعقم زوجته مرتين: مرّة في دعائه، وأخرى بعد إشارة الملائكة له بإستجابة الله سبحانه لدعائه وأنّه سيُرزق الولد.

وللحديث بقية...

الهوامش:
[1]- كامل الزيارات، ابن قولويه: 456، الوسائل ج14 – 516. [2]- مفاتيح الجنان، عباس القمي، 399-400 مناجات جامع الكوفة الكبير.

[3]- عن الإمام علي (ع): "لم أعبد رباً لم أره، ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله فيه أو قبله أو معه": موسوعة العقائد الإسلامية الشيخ محمدي ري شهري: ج، ص75، شرح الأسماء الحسن للسبزواري: 189؛ الأسفار الأربعة: ج1، ص117.

  المصدر: مجلة الكوثر/ العدد 26 لسنة 2012

ارسال التعليق

Top