• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الميزان.. معيار تقاس به الحقوق

د. محمد أحمد خلف الله

الميزان.. معيار تقاس به الحقوق

للعدالة تمثال، امرأة معصوبة العينين، تحمل في يدها ميزان. والميزان في التمثال، هو الرمز للأداة التي يتحقق بها العدل في كل زمان، وفي كل مكان. ولابد للعدل من معيار تقاس به الحقوق، وإلا كان الهوى والغرض هو المعيار. والله سبحانه وتعالى هو الذي يقول: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) (الأنبياء/47) وهو الذي يقول: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) (المؤمنون/ 71) ولابد من معيار للعدل تقاس به الحقوق. وهذا المعيار قد يكون أداة مادية: كالميزان في الموزونات، والمكيال في المكيلات، والمقياس في المقيسات، وما إلى ذلك. وقد يكون هذا المعيار شريعة من الشرائع، أو قانوناً من القوانين، أو لائحة من اللوائح ونظاماً من النظم، وعرفاً من الأعراف، وما إلى ذلك.
والعدل إنما يتحقق على أساس من هذا الرمز وهو الميزان، عندما تكون الكفتان اللتان توزن فيهما الحقوق متعادلتين، وعندما تكون الساق التي تحمل الكفتين مستقيمة وغير ممالة إلى أعلى أو إلى أسفل. من حيث إنّه في مثل هذه الحالة تكون الحقوق متماثلة أو متساوية. أما عندما تشيل إحدى الكفتين وتتحط الأخرى فإنّ الذي سوف يتحقق لن يكون العدل، وإنما هو الظلم والبغي والعدوان. هذا ما يرمز إليه الميزان.
أما ما ترمز إليه المرأة في التمثال، فهو الحَكَم العدل الذي يجلس مجلس القضاء للفصل في الخصومات والمنازعات. يجلس ليحكم بالعدل على أساس من الحق. وجعلت المرأة في التمثال معصوبة العينين لتكون العصابة رمزاً للكيفية التي لن يتحقق العدل إلى على أساس منها. إنّ العصابة على العينين إنما تشير إلى أنّ المرأة لن ترى أحداً من المتنازعين في الحق.وهذا إنما يرمز إلى حقيقة أنّ القاضي يجب ألا يتأثر بالناس، وبأوضاعهم الاجتماعية، عند جلوسه مجلس القضاء. إنّ العصابة إنما تحمي المرأة من التعرف على أقدار الناس، وعلى أوضاعهم الاجتماعية، من حيث إنّ هذا التعرف هو الذي سوف يجعل الميزان يضطرب في يدها. واضطراب الميزان واهتزازه كفيلان بأن يباعدا بين العدل وتحقيقه. وكفيلان أيضاً بأن يكون الذي قد يتحقق هو الظلم والبغي والعدوان. يجب أن يحمي القاضي نفسه من كل ما يؤثر في ميزان العدالة حتى لا يضرب في يده الميزان.
والذين يقرءون القرآن الكريم، ويفكرون في هذه الآيات التي وردت في العدل والعدالة، حين تكون الوظيفة هي الفصل بين الناس في المنازعات، وإعطاء كل ذي حق حقه، يدركون إدراكاً واضحاً أنّ هذه الآيات إنما ترسم الخطوط البارزة في هذا التمثال. يقول الله تعالى: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (الأعراف/ 181) والأمة هنا هي الأمة الإسلامية، والعدل بالحق في هذه الآية، هو الغاية التي يجب أن يستهدفها جميع المسلمين. والآيات القرآنية التي تطالب المسلمين بتحقيق العدل في الأحكام، وفي الأقوال، وفي الأعمال، إنما تدور فيما نعتقد حول ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أنّ تحقيق العدل في أية صورة من صوره وفي أي مجال من مجالات الحياة، إنما هو من المسؤوليات التي ألقى بها الله سبحانه وتعالى على عاتق المرسلين من الأنبياء. إنّ الرسالات السماوية التي أمر الله الأنبياء المرسلين بحملها إلى الناس، وتبليغها إياهم، وبيانها لهم، إنما كانت تشتمل على المبادئ الدينية والأخلاقية، والتي من أهمها العدل. يقول الله تعالى: (فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ) (الشورى/ 15) ويقول تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد/ 25) ويبدو لنا من قراءة القرآن الكريم أنّ هذه المهمة كانت شاقة وعسيرة على الأنبياء المرسلين. فقد كان أصحاب النفوذ والسلطان الذين يحكم عليهم يكرهون هذا الموقف، ويرون فيه اعتداء على حقوقهم. ومن هنا كانوا ينظرون إلى المقسطين العادلين نظرة العداوة والبغضاء التي قد تدفع إلى قتلهم. يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (آل عمران/ 21).
ويذهب الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده عند تفسيره للآية: إلى أنّ الذين يأمرون بالقسط بين الناس، هم الحكماء الذين يرشدون الناس إلى العدالة العامة في كل شيء والذين يجعلون العدالة روح الفضائل وقوامها.

الأمر الثاني: أنّ الآيات القرآنية تطالب الناس جميعاً بتحقيق العدل ومقاومة الظلم، مهما يكن شأن الظالم يقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (النحل/ 90) ويقول: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) (الأعراف/29-30) ويقول: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ) (النساء/58).

الأمر الثالث: أنّ العدالة يجب أن تتحقق مهما تكن العلاقة بين المتنازعين، أو بين أحدهم ومَن يجلس مجلس القضاء والحكم في المنازعات. إنّ العدالة يجب أن تتحقق حتى ولو كان أحد الأطراف عدواً لنا، أو قريباً من أقربائنا. إنّ العدالة القرآنية لا تعرف المحاباة ولا المجاملة، وإنما تعرف شيئاً واحداً هو النزاهة في الحكم والإخلاص للحق. يقول الله تعالى من سورة النساء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء/135) ويقول من سورة المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة/8) ويقول من سورة الأنعام: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الأنعام/ 152).
ويقول الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده عند تفسيره لآية سورة النساء السابقة ما يلي: عمم الأمر بالقسط لأنّ العدل حفاظ النظام، وقوام أمر الاجتماع، بما فيه من الشهادة لله بالحق، ولو على النفس أو الوالدين والأقربين. وعدم محاباة أحد في ذلك لغناه، أو مراعاة لفقره. إنّ العدل والحق مقدمان على الحقوق الشخصية، وحقوق القرابة وغيرها. والقوامون بالقسط هم الذين يقيمون العدل بالإتيان به على أتم الوجوه، وأكملها، وأدومها... وكان ينبغي أن يكون المسلمون بمثل هذه الهداية أعدل الأمم، وأقومهم بالقسط، وكانوا كذلك عندما كانوا مهتدين بالقرآن كما في قوله تعالى: (أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (الأعراف/159).
ووظيفة العدل في القرآن الكريم لا تقف عند حدود الفصل في المنازعات والخصومات، وإنما تتجاوزها إلى وظيفة أخرى أسمى، وأقدر على تحقيق السعادة لكل الناس ـ وتلك هي وظيفة تحقيق الخير العام.
إنّ العدالة في الحياة الآخرة ـ أي يوم الحساب ـ إنما تتحقق على أساس من وزن الأعمال التي يقوم بها الإنسان. الأعمال الصالحة التي يصلح بها حال الفرد وحال المجتمع. والأعمال السيئة التي تسوء بها حياة الفرد وحياة المجتمع. وعلى أساس من ناتج عملية الوزن هذه يكون الجزاء: يكون الثواب أو العقاب. يقول الله تعالى من سورة الزلزلة: (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة 6 ـ 8).
والأساس في هذه العمليات كلها هو ما صرح به القرآن الكريم حين قال: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ) (فصلت/ 46).
العدل في الحياة الآخرة قائم حتماً على أساس من الأعمال التي يقوم بها الإنسان في هذه الحياة الدنيا. والثواب المتمثل في نعيم الجنة هو الجزاء عن العمل الصالح الذي به يتحقق الخير في هذه الحياة الدنيا. والناس جميعاً يرجون ثواب الله ونعيم الجنة. وهذا الرجاء هو الذي يدفع بهم إلى العمل الصالح الذي يتحقق به الخير العام في الدنيا، ونعيم الجنة في الآخرة.
إنّ وظيفة العدل هنا إنما هي دفع الناس إلى مثل هذا العمل الصالح الذي به يتحقق الخير العام. وهناك صيغة ثالثة للعدل الشكلي يتحدث عنها القرآن الكريم، ويتحدث عنها في ميدان الذم لها والتنفير منها. هذه الصيغة هي التي يعادل فيها بعض الناس بين المولى سبحانه وتعالى وغيره من آلهة الوثنية. إنّهم يجعلون هذه الآلهة مماثلة أو مساوية لله في عبادتها، والتقرب إليها، أو في المكانة والمنزلة الدينية. يقول الله تعالى، مسجلاً هذه الصيغة من صيغ العدالة، في سورة الأنعام: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (الأنعام/1) ويقول من سورة النمل: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (النمل/ 60).
إنّ العدل هنا قائم على أساس من المماثلة والمساواة بين الحق والباطل ـ الأمر الذي جعله القرآن الكريم ظلماً لا عدلاً. إنّ الحديث عن آلهة الشرك بنفس المماثلة والمساواة في الحديث عن الله الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، هو الظلم العظيم. هو الظلم الذي تحدث عنه لقمان حين قال لابنه: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان/ 13). إنّ هذا اللون من العدل ليس إلا الاعتداء على حقوق الله. وليس هناك ظلم أعظم من الاعتداء على حقوق الله.
ويقص علينا القرآن الكريم من الآيات القرآنية ما يكشف لنا عن الأعمال التي يقوم بها الناس معتدين فيها على حقوق الله، وما يؤكد لنا أنّ هذه الأعمال لم تكن إلا الظلم العظيم يقع من هؤلاء الناس على الله. جاء في القرآن الكريم من سورة الزمر: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ) (الزمر/ 32). وجاء من سورة البقرة: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا..) (البقرة/ 114).
الإنسان قد يتجاوز حدوده ويتعدى على حقوق الله. ومن هنا يكون ظلمه لله، ولا يكون هناك مَن هو أظلم منه.
وهذا الموقف من الإنسان يؤذن بمواقف أخرى، من حيث إنّ الذي يقدم على ظلم الله يقدم على مَن هو دون الله في الحقوق المقدسة. فيقدم على ظلم الأنبياء، ويقدم على ظلم غيره من الناس، ويقدم على ظلم نفسه. والقرآن الكريم قد سجل على الإنسان كل هذه الأنواع من الظلم. يقول الله تعالى من سورة الفرقان بصدد الظلم الذي وقع على النبي العربي محمد بن عبدالله (ص): (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا رَجُلا مَسْحُورًا) (الفرقان/ 4 ـ 8)
ويقول الله تعالى من سورة النساء ـ بصدد الظلم الذي يقع على اليتامى من الأولياء أو الأوصياء: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء/ 10). ويقول الله تعالى من سورة آل عمران بصدد الظلم يوقعه الإنسان بنفسه: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (آل عمران/116-117).
وينقل الراغب الأصفهاني في كتاب (المفردات في غريب القرآن) عن بعض الحكماء مقولتهم في الظلم وأنواعه، فيقول عند حديثه عن مادة الظلم، ما يلي: قال بعض الحكماء الظلم ثلاثة:
الأول: ظلم بين الإنسان وبين الله تعالى، وأعظمه الكفر والشرك والنفاق. ولذلك قال الله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (لقمان/13) وقال: (أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (هود/18).
والثاني: ظلم بينه وبين الناس وإياه قصد الله بقوله تعالى: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) (الشورى/ 42).
والثالث: ظلم بينه وبين نفسه، وإياه قصد بقوله: (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) (فاطر/32) وقوله: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (البقرة/231).
والمادة اللغوية التي جاءت منها كلمة العدل هي: ع د ل تقول عدل الرجل كضرب: ركب معه في المحمل فوازنه. وتقول: عدل الشخص الحمل: وازنه بما يساويه. ومنه جاء العدل والعديل.
والذي يعدل الشيء أو الحمل: يميله هنا وهناك حتى يستقيم ويعتدل.
وتختلف معاني الفعل باختلاف حروف التعدية.
فتكون، عدل به: سواه بغيره ووازنه به.
وتكون، عدل عنه: مال وانصرف.
وتكون، عدل إليه: مال نحوه، وعاد إليه.
ويقول الراغب في كتابه المفردات تحت مادة: ع د ل (العدالة والمعادلة: لفظ يقتضي معنى المساواة.. ويقول: العدل والعدل: بفتح العين وكسرها، يتقاربان لكن العدل بالفتح يستعمل فيما يدرك بالبصيرة كالأحكام.. العدل بالكسر، والعديل فيما يدرك بالحاسة، كالموزونات والمعدودات، والمكيلات.. فالعدل هو التقسيط على سواء.. والعدل ضربان: مطلق يقتضي العقل حسنه.. وعدل يعرف كونه عدلاً بالشرع..) ويقول الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في العدل:
العدل: ما تحرى به الحق من غير ميل إلى طرف من الطرفين، أو الأطراف المتنازعة فيه أو المتعلقة به. ويدخل في هذا الأصل:
أ ـ الدعوة إلى الحق والخير.
ب ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ج ـ التضحية العامة والخاصة.
د ـ الإصلاح بين الناس.
والمادة اللغوية التي جاءت منها مادة الظلم، هي: ظ ل م تقول: ظلم المكان كسمع: ذهب نوره.
وتقول: أظلم الليل.
وتقول: أظلم الشخص: دخل في الظلام.
وتقول: أظلم فلان المكان: جعله مظلماً.
والظلمة من هذا، والجمع ظلمات.
والظلام اسم يجري مجرى المصدر كالسواد والبياض.
وقالوا في شديد السواد مظلم.
ويعبر القرآن الكريم بالظلام عن الشرك والكفر والفسق، كما يعبر عن أضدادها بالنور. (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) (البقرة/257).
ويمكن أن يكون من الظلام: اختلاط الأشياء فيه، وعدم تميزها.. يقولون: الظليمة والمظلوم: اللبن قبل أن تخرج زبدته، ويبلغ الروب. ومنه يقال: ظلم السقاء ـ إذا أخذ لبنه وهو على هذه الحالة. وظلم القوم: سقاهم هذا اللبن.
ومنه يكون الظلم بمعنى الإعجال. فكل ما أعجلته عن أوانه فقد ظلمته.
ومنه يقال: الظلم ـ في وضع الشيء في غير موضعه ـ مادياً كان هذا الشيء أو معنوياً..
والمعنى الشائع في الظلم، أنّه: وضع الشيء في غير موضعه المختص به ـ إما بنقصان أو زيادة، وإما بعدول عن وقته ومكانه.
فالظلم هو مجاوزة الحق، ويقال فيما يكثر وفيما يقل من التجاوز، ويستعمل في الذنب الكبير وفي الذنب الصغير.
فالمجاوزة بين الإنسان وربه ظلم.
والمجاوزة بين الإنسان وغيره ظلم.
والمجاوزة بين الإنسان ونفسه ظلم.

 المصدر: كتاب مفاهيم قرآنية

ارسال التعليق

Top