• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

المدونة بين التنصيص والتطبيق

خديجة صبار

المدونة بين التنصيص والتطبيق

لا يمكن لأي مجتمع أن يتقدم إلا بتحرير نصف طاقته المعطلة، لأنّ له دور حيوي في الأسرة والمجتمع، وبتحقيق المساواة في الحقوق والواجبات، في كافة مجالات العمل والإنتاج والممارسة. وتحرير المرأة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً لا يمكن أن يتم وهي مقيدة بقيود شبه استعبادية في علاقتها بأسرتها. فالعادات والتقاليد لها خلفية، والخلفية الفعلية تكمن في قانون مدونة "الأحوال الشخصية" المعمول به حالياً.
وإذا كنا فعلاً نسعى إلى تحقيق الديمقراطية في ظل التحولات العالمية الجديدة فإنّ قضية المرأة بجميع خصوصياتها هي قضية اجتماعية، وهي جزء أساسي من قضية الديمقراطية. وإن كانت بعض بنود الدستور تنص على حقوق تصون للمرأة كرامتها وتحفظ لها إنسانيتها دون اللجوء إلى المحاكم، فإنّ تطبيق هذه البنود يبقى منعدماً في الحياة العامة، وذلك لتهاون المسؤولين، إضافة إلى أنّ الإجراءات الإدارية المتبعة في محاكمنا الشرعية تعرض المرأة لأبشع صور الاستغلال والابتزاز والمذلة وضياع الحقوق.
ومحاكمنا الشرعية تعد مسرحاً للمآسي اليومية التي تعيشها الأسر، ويرث المجتمع أعباء المحرومين والملكومين والمنبوذين "ضحايا لعبة الكبار" وبين أيدينا ثروة تشريعية عظمى قائمة بذاتها، تأمرنا أن نحفظ الانسان ونصونه، ونوفر له البيئة الأسرية الصالحة، قوامها الطمأنينة والسلام حتى قبل أن يولد عن طريق اختيار الأبوين. يقول الرسول (ص): "تزوجوا في الحجز الصالح فإنّ العرق دساس".
وأن نرعاه في طفولته، ونتابع رعايته وتعليمه وتربيته على مبادىء الإسلام، ونفتح له باب العلم والعمل ما دام قادراً عليهما، وباب الرعاية حين يفقد القدرة في حالة المرض أو العجز. يقول الرسول (ص): "أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم" "فوحدة الوجود البشري تكشف عن نفسها من خلال وجهين: وجه ذكري وآخر أنثوي. وهذا الوجهان يتقدمان معاً ويتراجعان معاً، يتعثران معاً، ويتطوران معاً، لأنّهما يعيشان نفس المصير، ويكتشفان في النهاية عن الحقيقة الإنسانية الواحدة.
ومادامت المرأة ومن ورائها المجتمع لا يتصدى لما هو سائد من الآراء المحافظة، والممارسات التقليدية التي تحدث الخلل، وتخلق انعدام التوازن بين العناصر المكونة لهذا المجتمع، فإنّه لا يمكن الإطمئنان إلى أي تغيير إيجابي لأنّ الواقع المعيش ليس سوى انعكاس لتطور القوى الفاعلة داخل المجتمع، وعدم الوصول حتى الآن إلى إدماجها في الحياة الاجتماعية اليومية. ويرجع ذلك أيضا إلى واقع التصورات والمعتقدات الأيديولوجية السائدة، والمبنية على نصوص دينية تجعل من كل تأويل واجتهاد هدفاً في النهاية إلى الحفاظ على حالة السكونية بعد مرور قضيتها بمرحلة تاريخية ماضية تختلف معطياتها وحاجاتها عما يوافق المرحلة المعاصرة.
وقد أصبح من الواجب اليوم البحث عن أساليب للتوفيق بين الثوابت الدينية واحتياجات العصر الحديث. وإنّ فهماً حقيقياً لرسالة الإسلام من شأنه أن يوفق بين متطلبات العصر الحديث ومبادىء الإيمان خصوصاً وأن إحدى معجزات القرآن الكريم هي احتفاظه بجدته ونضارته وفتوته، وتوجهه إلى حاجاته وكأنه ينزل في ذلك العصر.
يقول تعالى: (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن) (النساء/32).
فالله عز وجل لم يميز بين الذكورة والأنوثة في حق تعاطي الأعمال الكسبية المباحة شرعاً. والحصول على ثمراتها. وهي تستطيع أن تمارس جميع الأنشطة الاقتصادية من تجارة وفلاحة وصناعة إلى جانب وظيفتها الطبيعية المتمثلة في الحمل والوضع والرضاعة... لكن الاحكام الفقهية تحد من حريتها في استعمال هذا الحق المشروع. وهي مساوية لشقيقها الذكر في الإنسانية لأنّها مساوية له في أصل الفطرة والخلقة يقول تعالى:
(الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم). (النساء/ 34)
فالآية لا تقرر مبدأ التفاضل في الخلقة، بل تشير إلى واقع قائم قررته الأجيال وشروط الحياة البشرية في الأزمنة الغابرة. أما وحدة الأصل وتساوي الجنسين في البشرية فهما من الركائز التي تقوم عليها الشريعة الإسلامية السمحاء.
يقول تعالى:
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً) (النساء/1)
وفي الحديث الشريف "النساء شقائق الرجال في الأحكام". فالتفاوت لا يتجلى في الدين بل في الواقع التاريخي الاجتماعي. وإذا كانت شروط الحياة في العصور الماضية قد أفضت إلى تقرير سيادة الرجل، وذلك لأسباب كانت قائمة، وأهمها كونه كان المسؤول وحده على الكيان المادي والأدبي والإجتماعي للأسرة لحفظ بقائها، واستمرارها في الجماعة البشرية، فهل من المنطقي أن تبقى هذه السيادة قائمة بعد أن أصبحت المرأة مضطرة، بحكم متطلبات العيش التي أصبحت معقدة إلى الانفاق على البيت مثلها مثله؟ إضافة إلى المهام الأخرى المتصلة بالحمل والوضع والرضاع وصيانة البيت ورعاية الذرية وتهيئها للإندماج في المجتمع، وتدبير العيش وتسهيل المعاشرة؟!
إذن فالتقدم والتأخر في النواحي الإجتماعية صبغات زائلة وصفات متنقلة، والتفاوت بين الجنسين عرض لا مساس له بالجوهر. وما هو إلا وليد حالات مكتسبة وموروثة، والتاريخ نفسه عرف في مرحلة من مراحله عصر سيادة المرأة (العصر المعروف بنظام الأمومة). فالقوامة للرجال ناتجة عما ينفقون من أموالهم التي هي نتيجة قوة عملهم التي يقيمها قانون السعر.
الإسلام لا يفرق بين المرأة والرجل من حيث الذات والإحساس والعقل. فالفروق القائمة في الواقع فروق طارئة وليست أصيلة. كما أنّه لم يستنقص من ذاتها، فهي كيان اجتماعي، لكن يلاحظ أن هناك تفاوت كبير بينهما في الأحكام المتعلقة (بالوصاية والزواج والطلاق والتعدد...) ومع أنّ الأحكام المتعلقة بهذه الحالات تقرير للواقع وتماش مع مقتضياته. فهي من فصول الشريعة وليست من روحها، وهي تتطور حسب مقتضيات ومتطلبات العصر. ومجتمعنا يعرف في هذه المرحلة بالذات متغيرات كبيرة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية والتربوية، نتجت عنها مشاكل بأحجام مختلفة تفرض نفسها يوماً بعد يوم، وتدعو إلى فتح باب الاجتهاد لكونه المصدر الثالث بعد القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. والتهرب منها بِخلق مبررات أو مناقشات لفظية، أو صراعات، إنما هو هروب من واقع الحياة التي نحياها، والعصر الذي نعيشه. وتبسيط الحلول لمشاكل ذات حجم كبير لا يقدم النتائج المنتظرة. "ومنهج القرآن في ذكر الأحكام هو تفصيل مالا يتغير، وإجمال ما يتغير، لضرورة خلود الشريعة الإسلامية ودوامها. فليس من المعقول أن تعرض شريعة جاءت على أساس الخلود والدوام لتفصيل أحكام الجزئيات التي تقع في حاضرها ومستقبلها، لأنّها مع كثرتها الناشئة عن كثرة التعامل متجددة بتجدد الزمن وصور الحياة".
فلا يعقل وقد تغيرت شروط الحياة الاجتماعية بما في ذلك العلاقات الأسرية التي أفرزت مجموعة من المشاكل التي تعوق حركة تقدم المجتمع، أن نقف أمام الجسد المريض نعالجه بالتضرعات والابتهالات، والخطب الرنانة، والمشادّات الكلامية، وانتظار الحلول الوهمية، في حين أن هذا الانقلاب المفاجىء من شأنه أن يدفعنا إلى الأخذ برخص الإسلام الممنوحة.
فإذا كانت العبادات وهي من الثوابت، تطبق بمرونة تقتضيها ظروف الصحة والمرض، والإقامة والسفر، والقدرة والضعف، فكيف بالأحكام التي تتعلق بحياة الأسرة ومصيرها!!
وضع المرأة يبقى رهيناً بالعديد من العوامل. ومشاكلها تتجلى في انعدام التوازن بين ما يفرض عليها من مسؤوليات وما هو متاح لها من حقوق وتسهيلات. ويؤدي هذا كله إلى شعورها بعدم الحرية التي هي مسؤولية، والاطمئنان والأمان على جميع المستويات: الاقتصادية منها والاجتماعية والنفسية والجسدية.
ويبدو عدم التوازن منذ الزواج وانطلاقاً من قانون المدونة الذي يحدد العلاقة بينها وبين شريكها بشكل يجعل النفوذ كله في يده. فيعطيه الحق في أن يغير شكل العلاقة القائمة بينهما سواء بتطبيق أبغض الحلال إلى الله، أو بالتعدد دون أن يكون لها علم بذلك، وكم من زوجة لم تكن تعرف أنّ لها "ضرة" إلا أثناء تشييع جنازة زوجها، فتفاجأ بالزوجة الثانية والأطفال، وقد تكون على علم بذلك، وتعرف أنّه يؤثر الزوجة الثانية عليها بوده وعطفه فتعيش في ذل وهوان، وتتحمل ظلمه وتستسيغ جوره، لأنّها لا تجد قوة مادية لردعه ولا قانوناً يناصرها. وتعرف أنّ خروجها من هذا الوضع المزري قد يعرضها لوضع أسوأ منه.
وإذا لم تذق لهيب نار الوضع الأول أو الثاني، فإنّها تعيش في قلق دائم واضطراب نفسي خوفاً عليها وعلى أبنائها من مستقبل مجهول مليء بالمخاطر. والرجل حين يقوم بعملية "الاستبدال" هذه، لا يبالي بالقيود المادية والمعنوية التي وضعها الله عز وجل... ويعلم علم اليقين أنّ لا قوة ولا قانون يقف ضده ويحاسبه، إضافة إلى أنّه هو سيد الأسرة والقوة المادية كلها مركزة في يده، ولا أحد يشاركه فيها ليستطيع محاسبته أو تقييد تصرفاته.
وأمام هذا الوضع الذي تتعرض فيه الأسرة للتصدع والتفكك باسم الدين، فإنّ العلماء والمسؤولين يتحملون مسؤوليات جسيمة. لأنّ الإسلام يجب أن يفهم كعقيدة وشريعة ملائمتين لظروف العصر ومتطلباته. كما يجب أن تكون لهم الشجاعة والقدرة على صياغة حياتنا الدينية والفكرية صياغة مبدعة ومثمرة.

المصدر: الإسلام والمرأة واقع وآفاق

ارسال التعليق

Top