• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

«وبشِّر الصابرين»

أحمد نصيب المحاميد

«وبشِّر الصابرين»

قال تعالى في كتابه العزيز: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة/ 155).

أيّها المؤمنون لقد خلق الإنسان هدفاً للبلايا، عرضة للنوازل والمصائب، وما سمعنا بأحد من الناس أخذ على الدهر عهداً أن يكون كما يريد، وأن يسير معه حسب ما يرغب، وأن يكون من حوادثه في أمان واطمئنان، والله تعالى يقول: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) (البلد/ 4)، أي في شدائد وآلام متتابعة، يكابد الأمور، ويعالجها في أطواره كلّها، من حمله إلى أن يستقر به القرار في نهايته المحتمة.

تلك هي الحالة الطبيعية التي خلق عليها الإنسان، تعب لا راحة معه، وكدر لا صفاء فيه، ومن ابتغى من أيامه خلاف ذلك فقد حاول المستحيل، وطلب ما لا يكون. ورحم الله القائل:

طبعتْ على كدر وأنت تريدها **** صفواً من الأقذار والأكدار

ومكلف الأيام ضد طباعها **** كملتمس في الماء جذوة نار

ومما ينبغي أن يعلم أنّ المصائب والنوازل التي تصيب الأفراد أو الأسرة أو الأُمّة، لا تدل أبداً على سخط الله عليها، أو بغضه لها، أو هو إنّها عنده، كما يتوهم ذلك كثير من الناس؛ بل إنّ الأمر على العكس من ذلك، فكلّما إنهالت المصائب، وتوالت الرزايا، عظم الثواب، وعلت المنزلة متى تسلح الإنسان بالصبر، وتجمل بالرضا، وشحذ العزم على متابعة السير في الكفاح والنضال.

قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمّد/ 31).

رواه ابن ماجه عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثمّ الأمثل فالأمثل: يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة.

وعن أبي سعيد الخدري (رض)، أنّه دخل على رسول (ص)، وهو موعوك عليه قطيفة، فوضع يده فوق القطيفة، فقال: "ما أشد حمَّاك يا رسول الله؟!" قال: "إنّا كذلك يشدد علينا البلاء، ويضاعف لنا الأجر. ثمّ قال: يا رسول الله من أشد الناس بلاء؟ قال: الأنبياء. قال: ثمّ مَن؟ قال: العلماء: قال: ثمّ مَن؟ قال: الصالحون، وكان أحدهم يُبتلى بالفقر، حتى ما يجد العباءة يلبسها، ولأحدهم كان أشد فرحاً بالبلاء، من أحدكم بالعطاء".

لذلك يخاطب الله تعالى عباده المؤمنين بقوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ) (البقرة/ 214).

وقد أصيب الرسول (ص) وأصحابه بأنواع البلايا والمحن، وهم كانوا يحملون رسالة الله، ويجاهدون في سبيله، ومع هذا فقد أخرجوا من ديارهم، وتغربوا عن أوطانهم، وكثر عناهم، واشتد بلاهم، وتكاثر عليهم أعداؤهم، وقتل منهم بأُحد وبئر معونة من قتل، وجرح رسول الله فشجَّ وجهه الشريف، وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وقتل أعزاؤه وعمه حمزة ومثِّل بهم، وابتلوا يوم الخندق وزلزلوا زلزالاً شديداً، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، ثمّ يصاب الرسول نفسه بآخر حياته بموت ولده الوحيد فيتألم ويحزن، وتدمع عينه كأب رحيم، ويستغرب بعض أصحابه أن يبكي رسول الله على ولد يفقده، فيسألة قائلاً: "وأنتَ يا رسول الله تبكي؟" فيقول: "نعم، إنّ القلب يحزن، والعين تدمع ولكنّنا لا نقول ما يغضب الله، إنّا لله وإنّا إليه راجعون".

هكذا يعلّمنا الرسول (ص)، أنّ الرحمة في القلب هي من صفات المؤمنين، ومن لا يَرحم لا يُرحم، غير أنّ الرحمة والعطف والحنان ينبغي ألا تخرج بنا عن حدود الأدب مع الخالق العظيم.

ولكن الأُمّة الحيّة والمؤمنين الصادقين، لا تفعل المصائب، من عزمهم، ولا تحد من جهادهم ومضائهم، بل يثبتون أمام الأحداث، ويصمدون صابرين مطمئنين أمّا النوازل، حتى إذا نفّذ أمر الله، ومضى قضاؤه، استأنفوا السير، وتابعوا الجهاد، وهكذا كلّما مات سيِّد قام سيِّد، وكلّما ذهبت جماعة قامت أخرى، حتى يصلوا إلى الغاية المنشودة، ويحققوا لأُمّتهم العزّة والكرامة.

وعلى هذا الشكل يصف الله تعالى المؤمنين بقوله: (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (آل عمران/ 146-147).

هكذا يصف الله المؤمنين الأوّلين ليكونوا قدوة للآخرين.

وبعد، أيّها الأخ المؤمن لقد أعطاك الله سلاحين ماضيين قويين، لهما أثرهما الطيّب ونتائجهما الحسنة، تستعين بهما على نكبات الدهر ومشاق الحياة، وتواجه بهما الشدائد، وتذلل بهما الصعاب. فهل عرفت مستمعي الكريم هذين السلاحين؟ إنّهما الصبر والصلاة، يرشدنا الربّ عزّوجلّ إليهما بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا...) (البقرة/ 153).

 

المصدر: كتاب من وحي المنبر

ارسال التعليق

Top