◄فيما عدا مسألة القدرة والتحكُّم في الطبيعة، ومسألة بناء المجتمع، وتشكيل المجتمعات الإنسانية، توجد مجموعة من المسائل الأخرى التي لها علاقتها بماهية الإنسان وهي روابط الإنسان بالإنسان.
ترى هل صاحب هذا التطور في وسائل الإنتاج، تطور عظيم آخر في البناء والتشكيلات الإجتماعية، بمعنى حصول تقدم في الروابط الإنسانية أم لا؟
ولو كان هذا التطور واقعاً، فهل يمكن أن يسمّى تكاملاً حقّاً، وتعالياً حقيقياً. بمعنى إننا إذا وجدنا الإنسانية تحولت في مجال الإحساس بالتعاون مع الآخرين، وإن مستوى الإحساس بالمسؤولية تجاه الآخرين قد ارتفع، أمكننا أن نحكم بحصول التقدُّم المذكور؟
فلنلاحظ إذن مستوى التحول في العواطف الإنسانية، وهل انمحت حالات التسخير والاستغلال الإنساني؟ أو أنّ ما حدث لم يكن إلّا تغييراً في شكل الإستغلال الذي زاده بدوره درجات مضاعفة فارتفع مستوى إعتداء الإنسان على الآخر؟ وهل هناك تناسب بين الرقي في الوسائل الإنتاجية، والتعقُّد والتنوُّع في البناء الإجتماعي وانخفاض مستوى الإعتداء على الحقوق الإنسانية؟
ينكر البعض أي تقدُّم إنساني بشكل كلّي، فهو متشائم من ذلك تماماً، بل وحتى إنهم يقولون إنّ ملاك التقدُّم إن كان هو السعادة الإنسانية فمن الصعب أن نطلق اسم التقدُّم على هذا التعقُّد الصناعي. بمعنى إنّ تكامل هذه الوسائل لا يعتبر تقدماً من حيث السعادة والهناء الإنسانيين.
ولنضرب على ذلك مثالين:
1- يعتبر عنصر السرعة من الموارد التي تمَّ فيها تقدُّم هائل، بمعنى إنّ الإنسان تقدَّم في مجال وسائل الإنتاج بحيث أوصل السرعة إلى حدّها الأقصى.
ترى هل كان من الممكن قبل مئة عام أن تقوم مجموعة من طلبة الجامعة بدعوة أستاذ، وتتحق الدعوة خلال دقيقة واحدة (عبر الهاتف)، ويتحقق المجيء إليها خلال ساعة واحدة (بالطائرة)؟ كلا بالطبع. إنّ السرعة قد خطت خطوات عملاقة ولكن هل يمكننا أن نعدّ هذا تقدُّماً بالمعيار الإنساني أم لا؟ إنّ السرعة كما إنها قدّمت للإنسان راحته في بعض المجالات، فقد سلبته تلك الراحة في مجالات أخرى. ذلك أنّ السرعة ليست إلّا وسيلة قد يستعملها الإنسان بحسن نيّة لمقصد خير فيصل إلى مقصده وقد يستخدمها بسوء نيّة لتحقيق مقاصد سيِّئة فيحققها بسرعة.
إنّ الإنسان السالم حسن النيّة إذا قويت يده واشتدت عضلاته وكانت خطاه أسرع وأقوى قدر على تحقيق أهدافه الإنسانية، وفي قبال ذلك إذا كان هذا الإنسان سيِّئ النيّة حقوداً على الإنسانية قاتلاً لها، فإنّه يستطيع خلال ساعات أن يعبر الأرض من أقصاها إلى أقصاها ليقتل الآلاف من البشر.
فما هي النتيجة النهائية إذن؟ إنّ البعض قد تردد، وأُوضِّح هنا سرّ الترديد!
2- هل إنّ التقدُّم في المجال الطبي، تقدُّم إنساني؟ الظاهر هو الإيجاب. فعندما أُركِّز على نفسي وولدي وأجد إنّ ولدي لو ابتلي بالدفتيريا مثلاً، فالدواء حاضر على الفور والعلاج ناجع، فإنه لن يبقى لدي أدنى ريب في إنّ ذلك تقدُّم. إلّا إنّ البعض من أمثال (الكسيس كارل) عندما يعملون مقاييسهم الإنسانية، يرون إنّ التقدُّم الطبي قد أخَّر النسل الإنساني وتركه يضعف بالتدريج. لقد كان الأفراد يصارعون الأمراض في الماضي، فيفنى الضعفاء ويبقى الأقوياء، وهكذا يقوى النسل الإنساني بالتدريج على إنّ الأرض سوف لن تكتظ بالمجموعات الهائلة من أبناء آدم.
فإذا عمل الطب – بشكل صناعي – على إبقاء إنسان مشرف على الموت (ومثل هذا الإنسان محكوم عليه بالموت طبيعياً)، فإنّ الجيل الآتي منه سوف لن يكون الأصلح والأقوى، وهكذا نصل بالنهاية إلى ضعف تدريجي في الأنسال المتوالية.
إنّ الطفل الذي يولد لسبعة شهور محكوم عليه بالموت طبيعياً، إلّا إنّ التقدُّم الطبي يحتفظ به بوسائله المتقدِّمة.
ولكن الكلام في النسل الآتي ماذا سيكون؟
بعد ذلك يأتي هذا التراكم البشري الهائل، فما أكثر ما يفنى أناس كانوا الأصلح للبقاء الإنساني والأكثر ملاءمة لتحسين النسل البشري، في حين يبقى أناس لا يصلحون لذلك. وهكذا يتردد هؤلاء في التقييم العام للطب.
مثال آخر: وسائل الإعلام العام.
إنّ الإنسان يرى إنّه ليس هناك أفضل من أن يجلس في بيته ويستمع إلى ما يعجبه من أخبار في الوقت المحدَّد. ولكن علماء الشرق والغرب يلفتون نظر الإنسان إلى ما ينتجه هذا التطوُّر من أنماط القلق والاضطراب والتألُّم للإنسان. فما أكثر ما تكون المصلحة الإنسانية قاضية بأن لا يعلم الإنسان بكثير من الأخبار.
إذن، فبالنسبة للعلاقة بين الإنسان والإنسان الآخر، إما إنّنا لا نستطيع الإذعان بحصول رشد تكاملي من خلال تطور وسائل الإنتاج والحياة، أو إنّنا إذا أذعنا بذلك قلنا بعدم مواكبة التقدُّم في العلاقات الإنسانية للتقدُّم في الوسائل.
علاقة الإنسان بذاته:
والموضوع الآخر، هو علاقة الإنسان بذاته وهو ما يُدعى بـ(الأخلاق).
وإذا لم ندع إنّ السعادة الإنسانية كلها رهينة لإقامة العلائق الحسنة بين الإنسان وذاته (وطبيعي إننا لا نقول بذلك لأنه نوع من الإغراق)، فإنه بالإمكان أن نقول: إننا إذا قارنا بين موجبات السعادة الإنسانية، فإنّ النسبة الأكبر من السعادة الإنسانية ترتبط بعلاقة الإنسان بذاته أو بنفسه أو فلنعبِّر بالعلاقة بين إنسانية الإنسان وحيوانية الإنسان، ذلك إنّ الإنسان في ذات الوقت الذي يحمل فيه إنسانيّته ومجموعة من القيم الإنسانية في أعماقه، فإنه حيوان أيضاً؛ بمعنى إنّ الحيوان هنا يحمل خصائص إنسانية: حيوان عاد إنساناً، أي حيوان اتصف بالإنسانية مع الاحتفاظ بحيوانيته. وتحدد علاقة الإنسان بذاته عبر معرفة ما إذا كانت إنسانيته في ظل حيوانيته أو كانت حيوانيته تابعة لإنسانيته.
(قَد أفلَحَ مَن زَكّاها * وقَد خَابَ مَن دَسّاها) (الشمس/ 9 – 10).
إنّ هناك أهميّة كبرى لمسألة إصلاح الذات، والنفس وتزكيتها، وعدم وقوعها في أسر المطامع والشهوات النفسية والخصال الحيوانية. وما لم يتكامل الإنسان من الناحية الأخلاقية ويتحرَّر في أعماقه من حيوانيته، لم يكن بمستطاعه إقامة علاقات حسنة مع الأناس الآخرين فيتحرر من الآخرين، كما لا يدخل الآخرين في أسره.
وهكذا بحثنا في أربعة أقسام – في الواقع – :
1- علاقة الإنسان بالطبيعة، حيث تقدَّمت بالمقدار المذكور.
2- علاقة الإنسان بمجتمعه، حيث تقدَّمت من حيث البناء والتشكيلات الإجتماعية.
3- علاقة الإنسان بالآخرين من أبناء نوعه، حيث تعني في الواقع معنوية الإنسان، وترتبط بها حقيقة إنسانيته.
وهنا ذكرنا التردُّد في حصول تقدُّم فيها، في حين لم نرتب في إنها لم تطرد بأطراد أنماط التقدم الأخرى بعد أن كنّا نبحث في أصل حصول تقدم أم لا؟
4- علاقة الإنسان بنفسه وذاته واسمها الأخلاق. فهل ابتعد الإنسان اليوم أكثر عن حيوانيته وتحققت فيه قيم إنسانية؟ وبعبارة أخرى هل إنّ تكامل الإنسان في ماهيته الإنسانية اليوم أكثر من الأمس؟ إنها مسألة هامة. وفي نفس هذا المجال يبدو لنا دور الأنبياء في تكامل التاريخ الإنساني. فما هو دورهم في هذا التكامل التاريخي؟ وما هي الأدوار التي يمتلكونها بالنسبة للمستقبل؟ ما هو دور الدين في الماضي؟ وما هو دوره المرشح له في المستقبل؟
نعم، نستطيع هنا أن نعرف دور الدين في الماضي، ونكتشف أثره في المستقبل، كما يمكننا أن نحدس فعلاً ومن خلال القرائن العلمية والاجتماعية، مدى حاجة البشرية إلى الدين لتحقيق تكاملها المستقبلي. ذلك إنّ كل موجود يتبع في بقائه وعدمه، الضرورة التي يشكلها. وهذا مبدأ أكَّده القرآن الكريم وأيَّده العلم. يقول القرآن الكريم: (... فأمَّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفاءً وأمّا ما يَنفَعُ النّاسَ فَيَمكُثُ في الأرضِ) (الرَّعد/ 17)، يضربه مثلاً للحق والباطل.
فمسألة بقاء الدين وعدمه متوقفة على دور الدين في التكامل الإنساني، أي تكامل ماهية الإنسان، ومعنوية الإنسان وإنسانية الإنسان. إنّ الدين لوحده يؤمن حسن علاقة الإنسان بذاته وحسن هذه العلاقة بالأناس الآخرين. ولذا فلا يتمكّن أي شيء أن يحل محل الدين (لا في الماضي ولا في المستقبل).
فالمسألة إذن تنحصر في الأمر التالي:
هل ينقرض المجتمع الإنساني في المستقبل، فيقضي الإنسان بنفسه على نفسه عبر عملية إنتحار جماعية تنمحي بها الإنسانية من على وجه الأرض؟ أو إنّ الإنسانية تتجه نحو مصيرها الواقعي وهو التكامل في جميع الجوانب، أي التكامل في علاقتها بالطبيعة، التكامل في الوعي، التكامل في القدرة، التكامل في الحرّية، التكامل في العواطف والتكامل في الإحساسات الإنسانية، حيث يتحقق التكامل في كل هذه الأبعاد وهو ما نعتقده وقد استلهمنا هذا الاعتقاد – بالدرجة الأولى – من تعليماتنا الدينية؟
فليس هناك – إلّا الدين – عامل يستطيع أن يؤمن هذا الجانب الأكبر من عملية التكامل البشري، أي تكامل البشرية في ماهيتها الإنسانية. ►
المصدر: كتاب المجتمع والتاريخ
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق