◄يقول تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران/ 96-97).
صلة الآية بما سبقها:
لقد سُبقت الآية الكريمة الآنفة بقوله تعالى: (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران/ 95)، ثم جاء قوله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ...) (آل عمران/ 96)، والذي يدلنا على هذا الترتيب انّ خطاب الآية ينصرف إلى اليهود الذين كانوا يزعمون أنّهم على دين إبراهيم الخليل، فجاء القرآن يحاججهم: لو أنكم على ملة إبراهيم الخليل فعلاً وحقاً، إذاً لعظمتم البناء الإِبراهيمي، واتخذتموه قبلةً ومطافاً.
شبهة أهل الكتاب:
نستفيد من ظاهر الآية أيضاً انّها جاءت ناظرة لشبهة كان يُلقي بها أهل الكتاب على المسلمين، ومفاد الشبهة:
أولاً: لا مجال للباطل أن ينفذ إلى دين إبراهيم الخليل (ع). لذلك لا يصح القول بالنسخ الذي يذهب إليه المسلمون واتخذوا بمقتضاه الكعبة قبلة بدلاً من بيت المقدس.
فبيت المقدس لا زال – في زعم أهل الكتاب – هو قبلة المسلمين التي يجب أن يتولوّها كما كانوا يتولونها فعلاً قبل الهجرة إلى المدينة، وإنّ تحوّلهم عنه إلى الكعبة بذريعة النسخ لا يعدو أن يكون ضرباً من الوهم والخيال، لأنّ النسخ لا يجوز في حكم الله!
ثانياً: لقد أتيتم باطلاً في قولكم: إنَّ هذا السلوك هو من دين إبراهيم؛ وفي زعمكم انَّ إبراهيم (ع) كان مسلماً وانكم مُتّبِعوهُ. فأنتم إذاً اجترحتم الباطل مرتين؛ مرَّة حين قلتم بالنسخ؛ ومرَّة حين نسبتم تصرفكم في تحويل القبلة إلى إبراهيم وقلتم انكم تبعٌ له في ذلك!
معالجة شبهة أهل الكتاب:
إنَّ أول ما يمكن أن يقال في جواب الشبهة انَّ النسخ جائز وليس ثمة ما يدل على استحالته.
ثم انَّ الحكم الأصلي للقبلة كانَ يختص بالكعبة، يقول تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ...) (آل عمران/ 96)، فإبراهيم (ع) كان قد اضطلع بمهمة بناء الكعبة ورفع قواعدها واتخاذها قبلة ومطافاً قبل أن يقوم سليمان (ع) ببناء بيت المقدس في فلسطين.
لذا فإنَّ رجوع المسلمين إلى الكعبة قبلةً وترك بيت المقدس، إنما هو عودٌ إلى السيرة الإبراهيمية ورجوع إلى القبلة الأُولى التي تولاّها إبراهيم ومن اقتفى آثره من أنبياء الله.
هذه الحقيقة يحدثنا بها القرآن حين يعرض سبحانه إلى سيرة إبراهيم. فإبراهيم (ع) حين ترك ابنه وزوجته في أرض مكة القفرة دعا ربّه: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ...) (إبراهيم/ 37)، ثم أبان (ع) مُراده من ذلك بقوله: (.. رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ...) (إبراهيم/ 37)، فالقصد إذاً هو إقامة الصلاة في أشرف بقعة من بقاع الأرض، أي انّ أفضل ذرية اُمرت أن تقيم الصلاة في أعظم أرض.
الموقع الإِعرابي لكلمتي "مباركاً" و"هدى":
انَّ (مباركاً) و(هدىً) إما أن تكون منصوبة على الحال، وهي متعلقة (ببكة) فيكون المعني؛ انَّ البيت في حال البركة والهداية. وإمّا ان تكون "حالاً" للضمير "وضع" فيكون المعنى: "وضع مباركاً وهدى" أو "للناس مباركاً وهدىً" أو (.. لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى...) (آل عمران/ 96).
وما يعنينا التأكيد عليه انَّ جميع هذه الاحتمالات نافذة قابلة للتطبيق، لأنَّ الكعبة منار هداية لجميع الناس، بحيث يستطيع البشر كافة أن ينالوا قسطاً من هداية الكعبة وبركاتها.
مواقع استعمال "الأولية" في القرآن:
لقد استعمل القرآن الكريم مصطلح "الأولية" في مواطن كثيرة تدل على النسبة بيد انَّ الاستخدام لهذه اللفظة في قوله: تعالى: (.. أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ...) (آل عمران/ 96)، هو استعمال نفسيّ.
أما في قوله تعالى من سورة التوبة (.. لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا...) (التوبة/ 108)، حكاية عن نهي النبي من الإقامة في مسجد ضرار وحثه في المقابل للإقامة في مسجد قبا حيث يصفه سبحانه بقوله: (.. لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ...) (التوبة/ 108)، فانَّ استعمال (أول يوم) في الآية يكون نسبياً لا نفسياً، والمعنى: أنَّ المسجد أُسس يوم بُني، على التقوى.
ولقد ذكر الشيخ الطوسي (رحمه الله) عند تفسير الآية: "أول الشيء ابتداؤه، ويجوز أن يكون المبتدأ لهُ آخر، ويجوز أن لا يكون له آخر، لأنَّ الواحد أول العدد، ولا نهاية لآخره، ونعيم أهل الجنة لَهُ أول ولا آخر له، فعلى هذا انما كان أول بيت، لأنّه لم يكن قبله بيت يحج إليه".
وقد ذهب مفسرّون آخرون إلى أنَّ الأول لا يستلزم دائماً وبالضرورة أن يكون لَهُ ثانٍ، فقد يقول المرء: هذا سفري الأول إلى بيت الله الحرام، دون أن يستلزم كلامه ضرورة أن يوفق لحج البيت مرةً أخرى. وعلى هذا يكون معنى الأولية هنا، انّه لم يكن قبله شيء. وعليه؛ حين يقال أول بيت، فلا يستلزم القول أن يكون ثمة بيت ثانٍ وهكذا.
وهذا الكلام لا يتعارض مع وجود بيوت أخرى للعبادة، تكون ثانية وثالثة وهكذا؛ من زاوية: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ...) (النور/ 36)، بيد أنَّ وجود هذا البيوت لا يكون في مقابل وجود الكعبة. وكلام الشيخ الطوسي وإن كان صحيحاً في نفسه، إلاّ أنّ مصداقه غير صحيح. فما يقوله من أن تنعم أهل الجنة له أول ولا آخر له لا يصح، رغم انَّ لهذا النعيم أولاً. ووجه عدم الصحة انّ هذه النعم بنفسها لا أول لها ولا آخر، فالجنة موجودة الآن – لا أنها تخلق بعد الدنيا – ونعمها دائمة ثابتة دون انقطاع، خصوصاً تلك الجنة التي يقول عنها تعالى: (.. عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (القمر/ 55).
الأولية بالذات وبالغير:
انَّ الأولية بالذات تختص بالله سبحانه فـ "هو الأول والآخر". وفيوضاته غير محدودة إذ "وَكلّ مَنّه قديم" وهو "دائم الفضل" لا أوّل لها ولا آخر، لكنه أول بالعرض لا بالذات فانَّ بدايته ترتبط بـ "هو الأول" ونهايته بـ "هو الآخر" وذلك خلافاً لذات الله تعالى التي لا أول ولا آخر لهان وانما هو سبحانه بالذات، الأول والآخر.
الكعبة أول معبد:
إنَّ الآية الكريمة تدل على أنَّ الكعبة هي معبد بني على سطح الأرض. أما أن تكون دلالة الآية على أنَّ الكعبة كانت أول بيت بني للسكن، فهو أمر مستبعد، ومثل هذا الاستنباط محفوف بالمشكلات خصوصاً وانَّ الأولية مقيّدة بكون الكعبة بنيت "مسجداً".
بيد انَّ ذلك لا يمنع من القول: إنَّ مكة هي أول أرض تكوّنت من سطح اليابسة بعد أن انزاح عنها الماء. اما ان تُفيد الآية أنّ الكعبة كانت أول بيت فالأمر ينطوي على أشكال.
إلاّ انَّهُ علينا أن نذكر انَّ الآية مثلما لا تثبت فهي لا تنفي أيضاً، ومَرَدُّ ذلك انَّ الجملة الوصفية أو المقيّدة لا مفهوم لها – بالمعنى الأصولي – وما لا مفهوم له لا إطلاق له أيضاً. والذي نقصدهُ بانَّ الجملة لا مفهوم لها، انَّ الجملة الوصفية واللقبية ليسَ بمقدورهما أن يقيِّدا الدليل إذا كانَ مطلقاً، لا انَّهُ بمقدورنا أن نقتنص الإِطلاق منهما. وبه يتضح الفرق بين قولنا: إنّ الجملة لا مفهوم لها وبين كون الدليل مطلقاً.
فالجملة الوصفية أو اللقبية لا مفهوم لها بمعنى لا تثبت ولا تُفيد الإطلاق، وانما يكون لها مفهوم في مقام التحديد وَحسب لذلك إذا دلّ دليل من الخارج – من خارج الآية – انَّ الكعبة هي أول بيت بني على سطح الأرض، على أساس "دحو الأرض" فأنَّ الآية لا تخالف ما يدل عليه مثل هذا الدليل. وانما يصعب استظهار مثل هذا المعنى من الآية نفسها.
بناء الكعبة:
إنَّ المقصود من "البيت" هو خصوص الكعبة، حيث يقول تعالى في سورة المائدة: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ...) (المائدة/ 97).
"قياماً" هي مفعول ثان للفعل "جعل". والمعنى: انَّ الله جعل الكعبة أو البيت الحرام يتصف بكونه عنصر قيام لجميع الناس.
وستتضح العلاقة بين هذه الصفة، وبين ما رأيناه في الآية مورد البحث، من انَّ البيت ينطوي على سرّ البركة والهداية للناس كافة.
وما ينبغي ان نشير اليه انَّ البيت كانَ موجوداً قبل إبراهيم (ع)، الاّ انَّ عوامل كثيرة اثَّرت عليه من قبيل الطوفان، فلم يبق على هيئته الاولى.
وحين قام إبراهيم (ع) بتشييد البيت ورفع قواعده، أصبحنا منذ تلك اللحظة أمام معالم واضحة لتاريخ البيت ومساره على مرّ العصور.
واحدة من هذه المعالم، يحدثنا عنها ما يحكيه سبحانه على لسان إبراهيم، في سورة إبراهيم، حيث يقول عليه السلام: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ...) (إبراهيم/ 37)، فحينَ ترك الخليل زوجته هاجر وولده اسماعيل (ع)، في هذه الأرض القفرة وَهمَّ بوداعهما، سألته هاجر: "الى من تدعني؟" فاجاب: الى ربّ هذه البنية.
لذلك يقول إبراهيم (ع): (ربنا اني اسكنت...) ثم بينَّ ما يقصده بما يحكيه القرآن على لسانه: (.. رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم/ 37)، لانك انت "مقلب القلوب". ولقد قال إبراهيم (.. أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ...) (إبراهيم/ 37)، وإلاّ لو كان الخليل (ع) قد قال – كما يذكر الطبري في تفسير الآية – : (افئدة الناس) لحج جميع الناس سواء منهم اليهودي والنصراني واصحاب الملل الأخرى.
لم تكن مكة أرضاً مواتاً يمكن استصلاحها لتعمر بالنبات والزرع وانما كانت أرضاً جبلية صخرية تفتقر الى الماء. لذلك عبَّرت الآية في دعاء الخليل (ع) عن وادي مكة بانَّهُ (غير ذي زرع) وَلم تعبّر عنه بانَّهُ "لم يزرع" اذ لو كانت الأرض صالحة للزراعة بيد انها مهملة بانصراف الجهد الإنساني عنها، لقيل عنها "لم تزرع" من باب "عم الملكة" أما أنّها غير صالحة للزراعة والاعمار أصلاً فقد عبر عنها بانها "غير ذي زرع".
الاّ انَّ الخليل (ع) العارف بقدرات الله غير المتناهية، قال معَ ذلك: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ...) (إبراهيم/ 37)، وقد أوكل الأمر اليه – سبحانه – في ان يفعل ما يشاء.
لقد تضمن هذا المقطع من الدعاء بيان المقاصد التالية:
1- انَّ القصد الأساس هو ان يقيموا الصلاة (ربنا ليقيموا الصلاة) وإن كان ثمة مقاصد اخرى في السياق.
2- طلب (ع) ان يعطف قلوب وعقول شطر من الناس إليهم.
3- ثم أراد من ربّه ان يشملهم من الثمرات رزقاً (.. لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (إبراهيم/ 37).
لقد تكرَّرت مضامين هذا الدعاء الإبراهيمي في سورة البقرة، حيث قال (ع) فيما يحكيه القرآن على لسانه: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) (البقرة/ 126).
فانبثقت بعد فترة عين زمزم ببركة هذا الدعاء وباستغاثة هاجر (ع) وبصرخات اسماعيل (ع) وبكائه. وهو طفل صغير.
ولما انبثق الماء حلت الطيور حوله، واخذت القوافل تحط رحالها عنده، فتحولت مكة إلى "بلد" واجيبت الدعوة.
حينما جاء إبراهيم الخليل (ع) ورأى الوادي قد تحوَّل إلى بلد، اعادَ (ع) ودعاءه مع تغيير السياق: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) (إبراهيم/ 35)، فقد دخلت هنا (الألف واللام) على كلمة (بلد) بينما بقي طلب (الأمن) ثابتاً لكلا الحالتين.
لقد حقق سبحانه لإبراهيم دعوته وحلَّ الأمن في مكة، حتى تميَّزت عما حولها من البلاد، إذ يقول تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) (العنكبوت/ 67).
إنّ استعمال (يتخطّف) ينطوي على دلالة عميقة في رسوخ الأمن، فالخطفة تعني انقضاض الصقر على فيسته في حال غفلتها، ومكة في أمان من ذلك.
لقد استجيبت دعوة إبراهيم وأضحى الحرم آمناً، حتى عيد صعيد الحكم الفقهي، ذلك انّ (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) (آل عمران/ 97).
إنّ جملة (عند بيتك المحرّم) تدل دلالة واضحة على انّ للبيت وجوداً قبل إبراهيم (ع). وإنما غاية ما هناك انّه تعرض لحوادث طبيعية وغير طبيعية، جعلت البيت عرضة للهدم والخراب. حصل ذلك قبل إبراهيم وبعده أيضاً، حيث تهدمت الكعبة أثر السيول، وفي عصر الإسلام قام الحَجاج برميها بالمنجنيق من على جبل أبي قبيس.
لذا فإنّ الصخور السوداء التي تعلو جدران الكعبة الآن، هي ليست نفس الصخور التي كانت عليها قبل عدة قرون.
والذي يظهر انّ الكعبة كانت في صدر البعثة النبوية، لا يتجاوز ارتفاعها ضعف طول الإنسان المتوسط. نستفيد ذلك من واقعة ارتقاء الامام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع) على كتفي رسول الله (ص)، حيث رمى الأصنام وقذف بها نحو الأرض أثناء فتح مكة.
أما الجانب المعنوي في هذه الواقعة فله حسابه الآخر، حيث عبَّر الامام عليّ (ع): انّه حين كان على كتف رسول الله (ص) لو رام ان ينال الثُريا لنالها.
ما نستفيده من هذا العرض انّ الكعبة كانت عرضة للهدم والتخريب أكثر من مرّة. وفي هذا السياق جاء الخطاب إلى إبراهيم الخليل: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) (الحج/ 26)، حيث تكفل سبحانه بيان المكان ووضع التصميم الهندسي والمعماري للكعبة، ثمّ كان على إبراهيم ان يضطلع بمهمة التنفيذ والبناء، حيث جاء في تتمة الخطاب الإلهي: (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (الحج/ 26).
بين الكعبة وبيت المقدس:
إنّ لبيت المقدس قدسيته ومكانته، إلّا اننا لا نجد في القرآن انّ الله – سبحانه – ينسبه إلى نفسه في الكيفية، التي نتلمسها في الكعبة والتي تختص بها دون غيرها، كما في قوله تعالى: (بيتي) و(بيت الله).
بعد ان أقام إبراهيم البيت، جاءه الخطاب الإلهي: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا) (الحج/ 27)، انّ جملة (يأتوك) هي جواب الامر، بمعنى سيأتون في المستقبل. وهؤلاء سيأتون بأي كيفية ممكنة، فمنهم المشاة، ومنهم من يأتي (وعلى كل ضامر) أي الهزيل من النوق وغيرها.
وبه يتضح انّ الملبين للنداء الإبراهيمي، منهم من يأتي مشياً، ومنهم من يأتي راكباً على كل ضامر. أما أولئك الذين لهم القدرة ان يركبوا على غير الهزيل الضامر، فان حظّهم في الاستجابة للنداء أقل من غيرهم.
وفي كل الأحوال، فإنّ الملبين للنداء سينطلقون من كل مكان يقصدون البيت. (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (الحج/ 27).
يتضح من سياق الآيات انّ إبراهيم (ع) طوى مراحل متعدّدة بأمر الله تعالى. فبادئ الأمر تعرف على أرض مكة، ثمّ ترك فيها زوجته وولده، وطلب من ربه ان تكون لهما بلدة آمنة.
وحين عاد إليها مجدداً رآها وقد آلت إلى أن تكون "بلدة" فكرّر دعوته في ان يجعلها أمناً وأماناً. ثمّ جاءه الخطاب بتشييد قواعد البيت، وفي الأثناء توجه إلى ربّه بدعائه: (تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة/ 127).
وحين بُنيت الكعبة وصفها تعالى بقوله: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) (المائدة/ 97)، ولم يقتصر الأمر على الكعبة وحدها في أن تكون حراماً، وعنصر قيام للناس، وانما اتسع المكان ليشمل الحرم، وامتد الزمان ليستوعب الشهر الذي يتم فيه الحج، فكل ذلك، وما يتخذ الناس من الهدى والقلائد أصبح شعاراً وقياماً للناس. (وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) (المائدة/ 97)، لقد ذكر الطبري في تفسيره للآية، أنّ البيت كان قواماً للناس في الجاهلية، حتى وهم لا يرجون جنة ولا يخافون ناراً، فشدَّد الله ذلك بالإسلام. ثمّ أضاف: "كان الرجل لو جرّ كل جريرة، ثمّ لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يُقرب. وكان الرجل لو لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه".
بل زاد الأمر على ذلك بعدم التعرض للحيوان إذا قُلَّد بقلادة، اذ يصبح في أمان حتى وهو يأكل من علف غير صاحبه.
وبشكل عام، كانت معالم الأمن ظواهر واضحة، يمكن تلمسها والإحساس بها لزوّار البيت الحرام.
القبلة إلى بيت المقدس:
ليس ثمة شك، أن بيت المقدس أضحى قبلة من عصر سليمان (ع) فما بعد، فسليمان هو الذي وضع تصميم بيت المقدس وقام ببنائه.
لقد كان رسول الله (ص)، حين كان في مكة، يتوجه على خطٍ واحد إلى الكعبة وبيت المقدس، حيث كان يقف في كيفية تجمع بين القبلتين.
ومثل هذا الجمع كان سهلاً في مكة؛ لأنّ بيت المقدس يقع في شمال غربي الكعبة، ورسول الله (ص) يقف في جنوب الكعبة فيكون بمقدوره ان يجمع القبلتين على خطٍ واحد.
أما في المدينة فقد اختلف الأمر تماماً، لذلك كان يقصد بيت المقدس قبلة حين الصلاة بعد ان تعذّر الجمع بينه وبين الكعبة، بل كانت الكعبة تقع إلى وراء ظهره.
بيد اّ الحال لم يدم، حيث تم تحويل القبلة إلى الكعبة ورسول الله (ص) واقف يصلي في مسجد القبلتين، فاستدار وهو في الصلاة نحو الكعبة.
المسجد الحرام والمسجد الأقصى:
جمعت الآية الكريمة من سورة الإسراء بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، حيث يقول تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ...) (الإسراء/ 1).
إنّ عوامل الأرض والمناخ والماء ساهمت جميعاً في إعطاء مزايا لأطراف المسجد الأقصى، كانت سبباً في كثرة النعم والخيرات. ومع ذلك فقد قُدّر لمكة أن تنعم بكل هذه الثمرات والخيرات أو أكثر، رغم أرضها ومائها ومناخها. والسر في وفور الخيرات والثمرات دائماً في مكة هي دعوة الخليل المستجابة (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ).
الفوارق بين الكعبة والمسجد الأقصى:
لقد اضطلع بمسؤولية بناء الكعبة إبراهيم الخليل وهو (ع) من أولي العزم. بينما اضطلع سليمان (ع) ببناء بيت المقدس، وهو ليس من أولي العزم، وانما من الحفّاظ لشرائع أولي العزم.
بيد انّ هذا الفارق ليس هو الوحيد بين الكعبة والمسجد الأقصى، وانما ثمة فارق آخر يتمثل بالوعد الإلهي، بحماية الكعبة وحراستها من الأعداء؛ هذا الوعد الإلهي تحوَّل إلى سيرة عملية، في حين لا نجد ما يناظر هذا الوعد بالنسبة لبيت المقدس.
فلو أراد أحد أن يتعرض للكعبة لعرّض للإستئصال، كما حماها سبحانه بطيرٍ أبابيل وصانها بمعجزات أخرى. أما عملياً فلا نجد مثل هذا الوعد بالنسبة لبيت المقدس، إذ استطاع "بخت نصر" ان يهدم بيت المقدس تماماً، إلّا انّه لم يتعرض لما تعرض إليه أبرهة الحبشي.
بناء الكعبة لمنفعة الناس:
ما نستفيده من ظاهر الآية الشريفة – مدار البحث – انّ أول بيت وضع لعبادة الناس كان في مكة، وقد وضع لينتفع منه الناس، حيث يقول تعالى: (وضع للناس) وان كان التعبير في مورد التكليف بالحج جاء قريناً بحرف الجر "على" حيث يقول تعالى: (لله على الناس) الّا اننا سنوضح انّ العبادة والتكليف لا يمكن أن يكونا ضدّ الناس ابداً، بل هما لصالحهم دائماً.
لذلك تجد أهل السلوك يعبرون عن التكليف بالتشريف. فالرجل حين يبلغ السادسة عشرة من عمره والمرأة حين تبلغ العاشرة يثعبِّرون عنهما انهما قد بلغا سنَّ التشريف (ويعنون به التكليف) وأصبحا أهلاً للخطاب الإلهي، في حين لم يكونا قبل ذلك اهلاً لتلقي ما ينطوي عليه الخطاب من أحكام نظير قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) (النور/ 56).
وعن الأحكام الإلهية عموماً بما تنطوي عليه من تكليف يقول تعالى: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) (النور/ 27). وانطلاقاً من هذه الزاوية بالذات عُبِّر عن العبادة بـ"اللام".
معبد الأنبياء:
ظاهر ما عليه الآية من الإطلاق انّ البيت الحرام والكعبة المشرّفة كانا أول معبد في تأريخ البشر، بحيث لم يكن لنبي قبلة غير الكعبة.
هذا الاستنتاج نستطيع أن نؤيده من آيات في سورة "مريم". ففي هذه السورة نقرأ عن المسيح: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) (مريم/ 31). وذلك علاوة على ما في السورة من وصايا لأنبياء آخرين، حيث يقول – تعالى – بعد ان ذكر عدداً من الأنبياء: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) (مريم/ 58). فمسار الأنبياء – عليهم السلام – من آدم حتى نوح، ومن نوح حتى ابراهيم، وما بين هؤلاء الأنبياء ومن ذراريهم يمدحهم الله بقوله: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)، ومن الواضح أنّ السجود يستلزم وجود الجهة، سواء أكان المعني السجود بنفسه أو السجود في إطار الصلاة، حيث تقام الصلاة لقبلة بعينها.
على انّ الراجح هو قيامهم بالصلاة، كما تؤيد ذلك الآية التي تليها، حيث يقول تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) (مريم/ 59).
يتضح مما تقدم انّ الأنبياء كانوا من أهل الصلاة، وانّ الصلاة والسجود يستلزمان جهةً وقبلة.
وفي مسألة القبلة إما أن نستند إلى قوله – تعالى – فنقول: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) (البقرة/ 115)، وهو قول بعيد. وإمّا ان نقول بجهةٍ خاصة كانت قبلة لهم.
وما نستفيده من ظاهر الآية في إطلاقها، انّ الكعبة كانت قبلة الصلاة والسجود لجميع أنبياء الله من آدم حتى النبي الخاتم – عليهم السلام - . أما احتمال غير الكعبة قبلة لهم، فهو ما لا يتسق مع ما عليه الآية من اطلاق.
يتبع..
المصدر: مجلة ميقات الحجّ/ العدد 1 لسنة 1415هـ
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق