• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإنسان أوّلاً..

د. سلمان بن فهد العود

الإنسان أوّلاً..

ركب إلى جواري في الطائرة ذات مرة شاب غريب، بدت عليه ملامح الحزن والكآبة والانعزال عن الآخرين، وكأنّه يتوجس خيفة من كلِّ أحد يجالسه أو يحادثه أو يصافحه.. ويتساءل عن نوع الأذى الذي ينوي إلحاقه به!

خطر في بالي أنّ هذا الشاب هو بيت مغلق بأقفال، ولكي تلج إلى هذا البيت لأي غرض؛ كان عليك أن تبحث عن المفاتيح.

ربما تريد أن تدخل مع هذا الإنسان أو غيره في مشاركة تجارية، أو في مشروع تقني، أو منجز ثقافي، أو تطمع في دعوته إلى خير، أو حمايته من شر، أو تريد أن تنتفع منه بحكم وجود حالة إيجابية لديه يمكن توظيفها.. وهب أنك تريد أن تقدم له خدمة ما يحتاجها..

أنت هنا أمام ثري، أو مبدع، أو قارئ، أو منحرف، أو شحاذ، أو ما شئت.

هو إنسان قبل أن يكون أياً من ذلك، ويوم ولد لم يكن له لون ولا شيء معه (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا) (النحل/ 78)، (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (الأنعام/ 94).

وأي محاولة تواصل تتجاوز مبدأ الإنسانية ستمنى بالفشل.

ومن حُسن الحظ أنك أنت إنسان أيضاً، فلديك الكثير من المعرفة المفصلة والواقعية عن الإنسان وحاجاته وضروراته ومداخله ومشاعره وأحاسيسه..

لم يكن بمعزل عن الحكمة الإلهية العظيمة أن يبعث الله رسله من الناس، مثلهم يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويتزوجون وينجبون، ويصحون ويمرضون، تصيبهم اللأواء.

ولكلِّ إنسان أسوار لا ينبغي اقتحامها ولا تجاوزها ومداخل تناسبه، بيد أنها تحتاج إلى اللطف والبصيرة وحسن التأتي.

وحين قال الرسول (ص): "فَمَنْ أحَبَّ أن يُزَحزَحَ عن النار ويدخُلَ الجنَّةَ فَلْتَأتِهِ مَنيَّتُهُ وهو يُؤمِنُ بالله واليَوم الآخر وَلْيَأتِ إلى الناس الذي يُحِبُّ أن يُؤتَى إليه.." (رواه مسلم)، كان يرسم منهجاً نبوياً رائعاً في التعامل مع الآخرين، أن تضع نفسك في موضع الإنسان الذي أمامك وأنت تتعامل معه، ما الذي يروقه ويعجبه منك؟

أن تثني عليه بخير، ولا أحد إلا ولديه من الخير ما يمكن أن يثنى به عليه، وبصدق، دون خداع أو تزيّد.

أن تعرب له عن محبتك وتقديرك لشخصه الكريم.. وكيف لا تقدّر إنساناً كرّمه ربه واصطفاه وأحسن خلقه، (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) (الإسراء/ 7)، (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (فاطر/ 32)، (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين/ 4).

انظر في عينيه، وابتسم له بصفاء، وصافحه بحرارة، وتحدث إليه وأنت منبسط هاش باش، واختر الكلمات الجميلة السحرية.

أضاحك ضَيفي قَبلَ إنزال رحله *** ويُخصَب عندي والمَحَلُّ جَديب

وما الخَصبُ للأضياف أن يَكثُر القرى *** ولكِنَّما وَجه الكريم خَصيب

قبل أن تعطيه المال، أو توفر له الاحتياج، أو تجود عليه بما يطلب، أعطه وجهك وقلبك واحترامك وتقديرك، (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى) (البقرة/ 263)، اصنع هذا لزوجك الذي تدوم معه عشرتك طوال الحياة، واصنعه لولدك الذي خرج منك فأصبح كياناً مستقلاً له شخصيته وتكوينه وحسابه ومسؤوليته الكاملة في الدنيا والآخرة، واصنعه مع زميلك في العمل أو شريك أو جارك الذي تلقاه كلّ يوم أو كلّ صلاة، واصنعه مع الخادم أو السائق دون ازدراء لإنسانيته أو تحقير لشخصيته، واعتقد في داخلك أنّه إن كان الله فضّلك عليه في الدنيا بمال أو منصب فربما يكون فضّله عليك في الآخرة بتقوى أو إيمان أو سريرة من إخلاص أو عمل صالح.

واصنعه مع الغريب الذي تراه لأوّل مرّة، وربما لا تراه بعدها لتوفر لديه انطباعاً إيجابياً عنك، وعن الفئة أو الجماعة التي تنتمي إليها، ولتمنحه قدراً من الرضا والسرور والفرح والاغتباط، وتبعث إليه برسائل من السعادة سوف يكافئك الله العظيم بما هو خير منها عاجلاً، فالمعطي ينتفع أكثر من الآخذ؛ وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً.

واصنع ذلك بصفة أساسية لأولئك الناس الذين تريد أن توجههم أو تنتقدهم أو تقدم لهم نصحاً يحميهم من ردى، أو يحملهم على هدى وأنت عليهم مشفق بارّ راشد.. فإيّاك أن تتعسف أو تتهم أو تجفو في أسلوبك؛ فتحكم على محاولتك بالفشل المحتم حتى قبل أن تشرع فيها، وكان الإمام أحمد يقول: "قلما أغضبت أحداً فقبل منك".

فإلى أولئك الذين يتبوؤون مقام التعليم والدعوة والإصلاح والاحتساب.. نهدي هذه الكلمات النورانية النابغة من عمق التجربة، والمتوافقة مع هدي الأنبياء ومنهجهم، ونص القرآن ودعوته، رزقنا الله الحكمة والبصيرة وكفانا شر نفوسنا الأمارة بالسوء.

 

المصدر: مجلة المجتمع/ العدد 1932 لسنة 2010م

ارسال التعليق

Top