تمثّل نبوة إبراهيم (ع) النبوة التشريعية العامة الثانية من نبوات أولي العزم، وقد جاءت بعد تغلغل الانحراف في المجتمع البشري، ولجوء السماء في ثلاث مرات سابقة إلى عقوبة الاستئصال على ما حكاه القرآن الكريم في قصص أقوام عاد وثمود ونوح (ع). وقد مثّلت نبوة إبراهيم (ع) مصداقاً لما أوحي به إلى نوح بعد الطوفان، كما في قوله تعالى: (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) (هود/ 48).
ولقد شكّل تجدد الانحراف ووصوله إلى حدود الالجاء لعلاج الاستئصال ثلاث مرات قبل نبوة إبراهيم (ع)، شكّل دافعاً للدخول في عصر تشريعي جديد ونبوة عامة جديدة هي نبوة إبراهيم (ع). ويعتقد في المناهج الحديثة للتاريخ أنّ إبراهيم الخليل ولد سنة 1996 ق. م، في أور الكلدانيين في الجهة الشرقية من العراق، وعلى أثر بعثه بالنبوة ترك العراق وسكن حرّان غربي البلاد الواقعة ما بين النهرين، ثمّ ألهم الخروج من حرّان، فأخذ معه لوطاً وعاش في البوادي سنين كثيرة قبل أن يذهب إلى مصر. وإبراهيم (ع) هو جد العبرانيين، وابنه اسماعيل جد العرب المستعربة[1]. وتمتد ولاية رسالته على العالم ما بين 4 إلى 7 قرون على اختلاف المصادر التاريخية التي تؤرخ لبعثة النبوة اللاحقة له وهي نبوة موسى (ع). - نبوة إبراهيم وقضية التوحيد: يعتبر التوحيد القضية المركزية لكل النبوّات والرسالات، لأنّه قاعدتها، وهو الأساس في التصور الصحيح للكون والحياة، والأساس في المنهج الصحيح المطلوب للتعامل معهما. ولذا كان تعاقب الرسالات، وانتقال البشرية من عصر تشريعي إلى عصر تشريعي آخر، يتم في ضوء ما تواجهه قضية التوحيد من أخطار ومنزلقات على الصعيد الإنسان. فظهور نبوة نوح (ع) وبعده إبراهيم (ع) ثمّ موسى (ع)، وهكذا عيسى (ع) ونبينا محمد (ص)، كان نتيجة لأسباب تأتي قضية التوحيد ومعالجة المخاطر والمنزلقات التي تواجهها في مقدمتها. فكلما اتسع نطاق الشرك، وتعمقت الوثنية، يكون الدافع لظهور عصر تشريعي جديد قد اشتدّ، ويكون المجتمع الإنساني على أبواب نبوة عامة جديدة، ولم تختم السماء عهد النبوات إلا بعد جعلها للإسلام القدرة التوحيدية العالية على ضرب قواعد الشرك في الأرض، بما يجعل التوحيد عقيدة غالبة ظاهرة على ما سواها. وقد عبر القرآن الكريم عن الموقع المركزي لقضية التوحيد في اهتمام أهداف النبوّات بقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء/ 25). وقد عرفت نبوة إبراهيم (ع) بدرجات إضافية من الاهتمام والتركيز في هذا المجال، إلى حدود قد تشعر البعض – ممن لا ينتسبون للفكر الديني – بأن عقيدة التوحيد بدأت في عهده (ع). ومن الواضح في القرآن الكريم أنّ هذه النبوة تُمثّل الفصل الأهم في معركة التوحيد مع الوثنية، فليس هناك من الأنبياء من استأثرت المعركة مع الأصنام بأعمال نبوته بالقدر الذي كان لإبراهيم (ع)، فهو محطم الأصنام. ورائد التوحيد في الأرض: نراه يجاهد ويحاجج قومه، ويصارع طاغوت زمانه، ويهجر موطنه، وينتقل بين عدة نقاط من الأرض، ويقدم على امتثال الأمر بذبح ابنه، ويضع القواعد للبيت الحرام، بدافع واحد مباشر هو حماية التوحيد. ومن هنا كانت نبوته الشجرة التي تفرّغت منها النبوّات التوحيدية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام. ومن الواضح أنّ العقائد لا تنفصل عن الحياة الاجتماعية للإنسان بحال، فإن كانت تلك العقائد سماوية، فقد جاءت لتعالج مشاكل الإنسان، وإن كانت وضعية، فقد نبعت منها وتولدت في ضوئها، وعلى كلا التقديرَين تكون العقائد وعاءً يحمل طابع الحياة الاجتماعية أو انعكاساتها، لذا يتوجب علينا باستمرار دراسة المدلولات الاجتماعية للعقائد المختلفة، وفي مقدمتها عقيدة التوحيد، خصوصاً مع ملاحظة التشديد والتأكيد الذي تلقاه من قبل التخطيط السماوي، كما نتحسس ذلك واضحاً في نبوة إبراهيم (ع). فما هي المدلولات الاجتماعية لعقيدة التوحيد؟ لدى الإجابة على هذا السؤال لابدّ من ملاحظة عنصر المطابقة في الأهمية بين عقيدة التوحيد ومدلولاتها الاجتماعية. فحيب أنّ هذه العقيدة تحظى بموقع مركزي في النبوّات والديانات السماوية، وتلقى تأكيداً متزايداً من قبلها، فلابدّ أن تكون تلك المدلولات تحمل الطابع نفسه والأهمية والمركزية على الصعيد الإنساني، وبالتالي فإننا لابدّ وأن نبحث عن تلك المدلولات في أهم القضايا الإنسانية. - المدلول العالمي للتوحيد: لو نظرنا إلى الإنسان المتجرد عن التوحيد، وتساءلنا عن النوازع التي تتملكه، والأفكار التي تهيمن عليه – وهو في هذه الحالة – فسنجد انتماءه الأرضي والمادي يمثل حجر الزاوية في اتجاهه الفكري والنفسي، ويهيمن على نظرته للوجود والمجتمع، بما يجعل سلوكه مادياً ينطلق من الذات المادية الأرضية ولا يتوسع إلا في حدود ذلك الانتماء. وفي مثل هذا المناخ تذر الأنانية والعصبية للذات والكبرياء قرنها، ثمّ تتوسع من دائرة الذات إلى دائرة الأسرة، ومنها إلى القبيلة، فتنشأ العصبية القبلية القائمة على أساس التعصب للنسب – الانتماء الأرضي – والمضطرمة نيرانه بمنافخ الأنانية والتكبّر والعجب والفخر. ونتيجة لذلك تتصارع العصبيات، وتتحول الأرض إلى ساحة لتناطح الأنساب. وفي ظل هذا الصراع تتحول القبيلة إلى رمز في الحياة الاجتماعية، ونتيجة للتأكيد المتلاحق عليه – بفعل تواصل حلقات الصراع سنوات مديدة – يتحول هذا الرمز إلى إله يُعبد من دون الله، وهذا ما حصل للإنسانية قديماً عبادتها للطواطم، وحديثاً في تقديسها للقومية والعنصرية. وهكذا يؤدي الابتعاد عن التوحيد إلى مشكلة اجتماعية: هي العصبية القبلية. وهذه بدورها تنتهي إلى مشكلة اعتقادية: هي الوثنية على نحو ما يحصل من ابتعاد رب الأسرة عن أفراد أسرته حيث يدب الصراع بينهم، وبمرور الزمن تتحول الأنانية في كل منهم إلى مبدأ ومنطلق يتشابه مع الوثنية في جوهره الاجتماعي. وفي ضوء هذه العلاقة بين العصبية والوثنية، نفهم العلاقة بين التوحيد والعالمية، فالوثنية وليدة العصبية، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (الزخرف/ 23)، والعالمية وليدة التوحيد، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء/ 107). إذاً، فالتوحيد ضرورة حضارية، يحتاجه الإنسان لمكافحة العصبية كمشكلة اجتماعية كبرى، وكمشكلة اعتقادية كبرى أيضاً. ومن هنا جاءت إشارة القرآن الكريم إلى أنّ الله سبحانه وتعالى لم يرسل رسولاً إلا بالتوحيد، ولم يبعث نبيّاً إلا وكانت العصبيات العقبة الكبرى في طريقه. وإذا كان القرآن قد سلّط الضوء على هذه العقبة الإبراهيمية من جهة معركة التوحيد مع الوثنية، فلأنها الجهة التي تعنيه مباشرة بحكم المنطق الديني، الذي ينطلق في معالجاته من المثل العليا، وينتهي بالإنسان – خلافاً للفكر الوضعي الذي ينطلق من الإنسان وينتهي بالمثل –، ومثال ذلك العصبية التي تؤدي إلى مُثُل الذات والصنم والقومية والوطنية. - المدلول التاريخي لاهتمام النبوة الإبراهيمية بالتوحيد: من كل ذلك يتبين لنا أن اهتمام النبوة الإبراهيمية بقضية التوحيد يكشف من الناحية الاجتماعية عن وصول المجتمع الإنساني آنذاك إلى مرحلة خطيرة من العصبية، أو عن ظهور تطور جديد ينذر بمثل هذا الاحتمال، وهو تطور قد حصل بالفعل منذ زمن – وقد تمثل بتوسع المجتمع البشري وظهور نظام الامبراطوريات التي تقوم على أساس التوسع بالقوة على حساب المقاطعات المجاورة – الأمر الذي يعني توسعاً مماثلاً في العصبيات، وعبادة الأصنام، وهذا ما لا يمكن أن تسمح به السماء، فكان لابدّ لها من الاهتمام بقضية التوحيد، والتأكيد عليها لمعالجة محاذير ذلك التطور، وهذا ما جسّدته نبوة إبراهيم (ع). وقد ظهرت انجازات هذه النبوة على هذا الصعيد واضحة للعيان، بينما تصرّ المناهج الحديثة في التاريخ على تجاوز هذه الحقيقة، حيث تعتبر أن أخناتون – أحد فراعنة مصر – الذي جاء إلى الحكم سنة 1380ق. م قد أحدث ثورة دينية على عبادة الأصنام، ودعا إلى توحيد عالمي يقوم على فكرة الإله الواحد الذي أسماه "أتون – الشمس"، والذي اعتبره رمزاً لوحدة العالم، وتعتبر أنّ توحيد دول البحر المتوسط والشرق الأوسط تحت الحكم المصري في عصر الامبراطورية المصرية قد أوحى له بتوحيد الآلهة على نمط التوحيد السياسي[2]. فقد كانت مصر إذاً إحدى محطات رحلة التوحيد لرمز التوحيد الديني في تاريخ إبراهيم الخليل (ع)، ثمّ جاء من بعده موسى (ع)، ثمّ يوسف (ع) الذي كان يدعو إلى التوحيد وهو في السجن كما حكاه القرآن على لسانه: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) (يوسف/ 39)، مما يدل على أنّ تعدد الآلهة ظاهرة كانت قائمة إلى أيامه (ع)، فإذا كان أخناتون معاصراً ليوسف فمعنى ذلك أن ثورته الدينية كانت بوحي من دعوة وزيره يوسف إلى التوحيد، وإن كان أخناتون هذا متقدماً على يوسف فإنّ النص القرآني السابق يشير إلى استمرار ظاهرة تعدد الآلهة إلى ما بعد عهده، وعلى أي حال فإن أخناتون قد تأخر عن عصر إبراهيم (ع) بسبعة قرون، وإذا كان التاريخ يتضمن شواهد على قيام ثورة توحيدية في مصر، فلابدّ من نسبة جذور هذه الثورة إلى أول نبوة سماوية ذات علاقة بمصر وهي نبوة إبراهيم (ع). - إبراهيم (ع) وقضية الحج: تشير العديد من الروايات إلى وجود فريضة الحج منذ آدم (ع)، وأوثقها ما عن أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة[3]. غير أن نبوة إبراهيم (ع) قد أجرت عليها من التطوير والتوسيع، وأولَتها من الاهتمام والتأكيد ما جعلها وكأنها من إنجازات هذه النبوة ومعالمها الخاصة، إلى حد أنّ القرآن الكريم لم يقرن الحج بغير إبراهيم (ع) ونبينا محمد (ص)، قال تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة/ 125-127). ومعلوم أن فريضة الحج مزيج رائع من الأبعاد السياسية والاجتماعية والعبادية، وذات تعبئة عالية بالمفاهيم والمدلولات العالمية: فلباس الاحرام يعني خلع الزي القومي وارتداء الزي العالمي التوحيدي، وأداء الشعائر بلغة واحدة هي اللغة العربية يعني ضرورة التمسك بهذه اللغة كلغة عالمية ونبذ القدسية المُدّعاة للغات المحلية، كما أنّ التقاء المسلمين من الأوطان والقوميات المختلفة في مكة المكرمة، وإيمان المسلم غير المكي بقدسية مكة وأفضليتها على مسقط رأسه وبلده، من شأنه الحد من غلواء العصبية للأوطان والقوميات. ويبدو أن إبراهيم (ع) قد حرص على إبراز المضمون العالمي للحج في دعائه، حيث قال كما مرّ في الآية: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) ثمّ توقف في عنوان الأهل – الذي لو بقي على عمومه يعطي مفهوماً عصبياً وكأن الدعاء ناظر إلى الرابطة القومية – فاستدرك قائلاً: (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)، فمكة مركز التوحيد، ويجب أن تكون محوراً للمجتمع العالمي الإسلامي، وذلك بتركيز الرابطة الإيمانية فيه، ونبذ الروابط الأخرى. - إبراهيم وعمه: لم يكتف إبراهيم (ع) في دعوته إلى الله سبحانه وتعالى بطرح الجانب النظري والتشريعي، بل عمد إلى صهر الذات في بوتقة الإيمان، ليقدّمها قدوة حسنة على طريق التغيير الاجتماعي. قال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) (الممتحنة/ 4). ومن معالم الأسوة في حياته أنّه كان حاسماً دقيقاً في تعامله مع وشائج النسب والعلاقات العرقية، وهذا هو الجانب الذي بيّنته الآية من حياته. فقد جاء في تتمتها: (إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (الممتحنة/ 4). وذكر القرآن نموذجين من حياة إبراهيم وسيرته في ذلك: النموذج الأوّل في علاقته مع عمه، والنموذج الثاني في علاقته مع أبنائه. ومعلوم أن هذين النموذجَين يجسّدان أقوى الوشائج العاطفية والنسبية. والموقف المبدئي منهما يجعل صاحبه قدوة في عالم الطاعة والامتثال. ولنتحدث الآن عن موقفه من عمه أو حسب تعبير القرآن الكريم من أبيه. قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الأنعام/ 74)، فهو يخاطب أباه أولاً، وبعده ينطلق في مخاطبة قومه. ويصارحه بالقول: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ...) (مريم/ 43)، فلا يحجبك عن الله ما تراه من صغر سني بالنسبة إليك (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) (مريم/ 43)، وفي كل المواقف نجد إبراهيم (ع) يجمع في الخطاب بين أبيه وقومه[4]. وبعد جهد ومعاناة حصل إبراهيم على وعد من أبيه بالإيمان، وهنا – انطلاقاً من الإيمان لا النسب – (قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) (مريم/ 47). ثمّ طلب المغفرة لأبيه فعلاً: (وَاغْفِرْ لأبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ) (الشعراء/ 86). ولما لم يفِ الأب بوعده تبرّأ منه (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ) (التوبة/ 113-114). - إبراهيم وأبناؤه: ولكي تتكامل الصورة لابدّ من دراسة موقفه (ع) من بنيه أيضاً وعلاقته بهم، حيث اهتم القرآن الكريم بشرح هذه العلاقة، والنصوص القرآنية تعرضت لذلك: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (البقرة/ 128-129). (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (إبراهيم/ 35-36). (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (البقرة/ 132). (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الزخرف/ 28). (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ...) (إبراهيم/ 37). (... قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات/ 102). (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) (إبراهيم/ 40). (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة/ 124). ومن مجموع هذه النصوص نستخلص حرص إبراهيم الشديد على أن يكون أبناؤه قدوة المؤمنين، ونموذج الموحدين من بعده، ويستعين على إنجاز هذا الهدف بالدعاء، والتضرّع إلى الله سبحانه وتعالى. فهو يريد من أبنائه أن يكونوا أمّة مسلمة لله تعالى، تجتنب عبادة الأصنام، فيوصيهم بالاستمرار على هذا الطريق لئلا يموتوا إلا وهم مسلمون، ويسكنهم بوادٍ غير ذي زرع ليقيموا الصلاة هناك، ثمّ يدعو الله أن يجعل ذريته مقيمة للصلاة، اهتماماً منه بتربية أولاده على التوحيد الخالص الصحيح، وحرصاً على مصلحة الرسالة التي تتطلب باستمرار قدوات ونماذج حسنة. ثمّ يدعو الله تعالى أن يستمر خط الإمامة والرسالة في نسله، مؤكداً في الوقت نفسه منطلقاته الإيمانية في هذا الدعاء. فهو على استعداد للقيام بذبح ابنه إسماعيل إذا تطلب رسم العبودية منه ذلك، وللبراءة من الأبناء الذين ينحرفون عن خط التوحيد (.. فَمَنْ تَبِعَنِي (منهم) فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (إبراهيم/ 36). لقد كان إبراهيم (ع) يتعهد أبناءه بالاعداد الروحي والتربوي الخاص لهدف كبير لم يقف عند حدود التأهيل لمسؤوليات اعتيادية، بل لا يصالهم إلى موقع الشهادة "النبوة – الإمامة" الخطير، وقد تطابقت هذه الرغبة مع نهج سماوي في العمل النبوي كان قد أقرّ أن يكون الوصيّ على الرسالة من بين الأفراد المتحدّرين نسبياً عن الرسول. قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ) (الحديد/ 26)، (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ...) (الأنعام/ 84). يقول السيد محمد باقر الصدر: "ليس هذا من أجل القرابة بوصفها علاقة مادية تشكل أساساً للتوارث، بل من أجل القرابة بوصفها تشكل عادة الاطار السليم لتربية الوصي، وإعداده للقيام بدوره الرباني، وأما إذا لم تحقق القرابة هذا الإطار فلا أثر لها في حساب السماء: (لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة/ 124)[5]، ومن هنا فإن طلب إبراهيم جَعْل الإمامة في ذريته، لم يكن المنطلق فيه عصبياً بل كان رسالياً". ويقول العلامة الطباطبائي: "إنما كان سأل الإمامة لبعض ذريته لا لجميعهم، فأجيب بنفيها عن الظالمين من ولده، وليس جميع ولده ظالمين بالضرورة حتى يكون نفيها عن الظالمين نفياً لها عن الجميع. ففيه إجابة لما سأله مع بيان أنها عهد، وعهده تعالى لا ينال الظالمين"[6]. الهوامش:[6]- تفسير الميزان، ج1، ص176.
المصدر: مجلة نور الإسلام/ العددان 45 و46 لسنة 1994م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق