• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

كيفية حصول العلم في القلب

الشيخ صباح الرّكابي

كيفية حصول العلم في القلب

◄أقول: إنّ القلب هو الذي يحفز الدماغ على الاتصال بالعالم الخارجي عن طريق الحواس الخمس – أو لعلها تكون أكثر مستقبلاً –، حيث يتم هذا الاتصال عن طريق الدم، السفير الروحي للقلب إلى كافة أعضاء الجسم وما يحيط به، فيرسل القلب أوامره التي تلقاها أو أوجدها إلى الدماغ وبقية أعضاء الجسم، ولكني أخص الدماغ هنا لأنّ الاعتقاد السائد بأنّه محل التفكّر والتعقل فنقول:

يحصل العلم في القلب بأحد طريقين:

الأوّل: عن طريق الله تعالى، وهذا لا يمكن أن يثبت تجريبياً، لأنّ الله تعالى ليس محلاً للحوادث ولا هو من الماديات، وإنما يكون بالقذف في القلب، وهو يشبه تماماً الإيحاء إلى الأنبياء من غير وساطة الملائكة، وإثبات هذا فقط بالأحاديث النبوية والروايات الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، كما في حديثه (ص): "القلب عرش الرحمن"[1]، وعن طريق تغيير الرأي ونقض الهمم وفسخ العزائم كما قال الإمام عليّ (ع): "عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم وحل العقود ونقض الهمم"[2]، وهذا الطريق ليس فيه خطأ على الإطلاق، وهو ما كان عليه الأنبياء والأوصياء أو من يختارهم الله تعالى كما في أم موسى (ع)، قال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) (القصص/ 7)، وهذا يعني أنّ أم موسى (ع) قد أوحي إليها، وهذا الوحي لم يكن على شكل ملك بل إلقاء في القلب، ولو لم يكن القلب فيه جنبة التجرد لما كان محلاً لاستقبال وحي الله تعالى، وهذه هي جهة التشابه بين العرش والقلب، فما يجري في العرش من إلقاء الإيحاء إلى الملائكة لتجردهم في القلوب لوجود جنبة التجرد.

وأمّا العرفاء فهم ما كانوا ليكونوا كالأنبياء، ولكنهم لهم من العلم الشهودي، إلا أنّه ليس العلم المطلق أو الكامل كما هو عليه المعصوم (ع)، ولذلك ما وجدنا أحداً يقول كما قال الإمام عليّ (ع): "سلوني قبل أن تفقدوني فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً"[3]، فهو علم لدني، وكلّ إنسان له القدرة على أن يصل إلى مستوى تلقي العلم اللدني بنسبة صغرت أم كبرت.

إنّ الحصول على هذا العلم يتم بواسطة تصفية القلب وإخلاص النية لنفس العلم، أي أنّ الإنسان تارة يكون خلوصه لله تعالى، وهو المطلب الأعظم لأنّه يتضمن الإخلاص التام، قال الإمام الصادق (ع): "إنّ القلب إذا صفا ضاقت به الأرض حتى يسمو"[4]. وتارة يكون لنفس العلم أو للإنسانية فقط وليس لله فيه تقرباً أو دخلاً، فهذا أيضاً من العمل الخالص ولكن نسبته أقل من الأوّل، ولكن صاحبه يوفق، وهذا ما عليه كثير من العلماء الملحدين، لأنّ عملهم من أجل خدمة الإنسانية، والله تعالى يقول: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى) (آل عمران/ 195)، صحيح أنّ سياق الدعاء في الآية بلسان المؤمنين ولكن الجواب بلسان العموم من جهة العمل والثواب لا من جهة الجنة والنار لأنها أصلاً لا تشمل الكافرين، فالمورد لا يخصص الوارد، قال تعالى: (وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (الشورى/ 20).

إنّ هذا الطريق إلى العلم هو الطريق إلى الكليات التي تنفتح من خلال العمل والإخلاص على الجزئيات أكثر فأكثر، وهذا يتطلب من الإنسان شحذ الهمم وزيادة العمل كمّاً ونوعاً بقيد الإخلاص كما قلت، وتدريب الحواس الخمس – أو الأكثر – على تلقي العلوم النافعة والإكثار منها ومن العبادة العملية.

إنّ هذا الطريق غير منحصر بالمؤمنين فقط، نعم تمامه وكماله منحصر بهم، وأنّ الله لا يضيع عمل عامل منكم.

قد يشكل على هذا البحث في كيفية تلقي القلب الأوامر من الله تعالى وليس بين الله تعالى والقلب مسانخة؟ فنقول: إنّ القلب فيه جنبتان كما هو الرسول (ص)، جنبة المادة وجنبة التجرد، فبالتجرد يتلقى العلوم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا) (الأنفال/ 29).

إنّ تسمية القلب أو توصيفه بعرش الرحمن يدل على أنّ القلب فيه هذه الجنبة القادرة على تلقي الوحي، وحديث النبيّ (ص) ليس جزافاً ولا هو – كما يقول بعضهم: إنّ كلام الله تعالى وكلام رسوله (ص) وكلام أهل البيت (عليهم السلام) – كلام مجازي، هؤلاء لا يعلمون أنّ القرآن قوله فصل وليس بالهزل، وكلامه بيان وتبيان لكلِّ شيء، فالمجاز من جهة اللفظ لا من جهة المعنى، ومن جهة اللغة لا من جهة التحقق، فإنّ الأشياء متحققة قبل المعنى، والمعنى متحقق قبل اللفظ، فما نراه مجازاً فبحسب الذوق اللغوي ليس إلا. أما الكناية والاستعارة، فهي حقيقة أيضاً لأنّ الكناية تعبير عن تحقق شيء ولو من جهة واحدة، وأما الاستعارة، فهي كالكناية ولكنها أبلغ.

إنّ وصف القلب بعرش الرحمن وصف حقيقي لا مجازي، لا من الناحية اللغوي ولا من أصل الواقع، المجهول عند غير أهله، وإلا فهناك قول آخر عن الإمام الصادق (ع): "أنّ القلب حرم الله فلا تسكن في حرم الله غير الله"[5].

الطريق الثاني: هذا الطريق يشترك فيه كلّ الناس، ولا فرق بين مؤمن وغيره وصغير وكبير، لأنّه من البديهي، وهذه البداهة في خلق الإنسان كما قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الرّوم/ 30)، وهذه البديهة هي: (النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان) فهي أم البديهيات كلها، حتى بداهة العلة والمعلول والكل والجزء فإنها ترجع إلى هذه البديهة، وهذه البديهة في خلق الإنسان، ولا تتبدل مطلقاً، حتى الذي نراه لا يؤمن ظاهراً فهو في داخله مؤمن.

ما قلته في الطريق الأوّل أقوله هنا من أنّ الفطرة طريق إلى الكليات وأما الجزئيات فهي بحاجة إلى الكسب والعمل ولا يشت إنسان عن هذا أبداً، وما الصلاة والصيام والجهاد وكلّ الأوامر التشريعية إلا لغرض الانتقال من الكليات إلى هذه الجزئيات.

الهوامش:


[1]- الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة/ صدر المتألهين الشيرازي، ج9، ص290.

[2]- شرح نهج البلاغة/ ابن أبي الحديد، ج19، كلمة 247.

[3]- نهج البلاغة خطبة 93/ صبحي الصالح.

[4]- أصول الكافي/ الشيخ ثقة الإسلام الكليني، ج2 كتاب الإيمان والكفر باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح10.

[5]- معرفة النفس/ حسن موسى الصفار، ص53.

المصدر: كتاب العقل بين القلب والدماغ

ارسال التعليق

Top