• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ضرورة تحديد الحاجة إلى الإصلاح

د. محمد عابد الجابري

ضرورة تحديد الحاجة إلى الإصلاح

لما كانت قضية "الإصلاح" هي قضية الساعة في الفكر العربي بمختلف منازعه وتياراته، بما ذلك "الفكر الرسمي" الذي يمثل وجهة نظر الحاكمين في العالم العربي، فقد ارتأينا أن نجدد النظر فيها على ضوء الظروف والملابسات التي تطرح بها اليوم، في منتصف العقد الأول من هذا القرن الحادي والعشرين. وقد لا نحتاج إلى التذكير بأنّ قضية "الإصلاح"، كما يتم تناولها اليوم في الساحة العربية، قد طرحها على العرب الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن وإدارته. وبالنظر إلى طبيعة الظروف التي طرحت فيها، فلقد كان من الطبيعي أن تثير في الوسط العربي ردود فعل متعددة مختلفة، منها: ما يقبل فكرة "الإصلاح"، ولكنه يرفض أن يكون مضمونه من إملاء قوى أجنبية؛ ومنها ما يقبل الفكرة ولا يرفض المضمون بصورة مسبقة، بل يطالب بالنظر فيه والأخذ بما هو "صالح لنا" والإعراض عما هو "غير صالح". ومن ردود الفعل ما يرفض التعامل مع الدعوة الأمريكية إلى "الإصلاح" في الشرق الأوسط بغير الرفض القاطع، بدعوى أن ما هو صلاح وإصلاح، من المنظور الأمريكي الإمبريالي، لا يمكن أن يكون في صالح من تعتبرهم الإدارة الأمريكية، الحاكمة اليوم، أعداء لها، وهم بالتحديد العرب والمسلمون. وعلى العكس من هؤلاء يرى آخرون أنّ الدعوة الأمريكية إلى "الإصلاح" في الشرق الأوسط، ومطالبتها الحكام العرب بالانخراط فيه، فرصة تاريخية يجب اقتناصها لتحقيق الإصلاح الذي بقيت الأنظمة العربية القائمة ترفضه وتتهرب منه منذ ما يزيد على قرن من الزمن.
لا نحتاج هنا إلى مناقشة هذه الأنواع من ردود الفعل على الدعوة الأمريكية – التي أصبحت اليوم أوروبية أيضاً – إلى "الإصلاح" في الشرق الأوسط. فردود الفعل التي من هذا النوع لا تحمل في جوفها ما قد يحوّلها إلى فعل. ذلك أنّ أهمية رد الفعل لا تكمن فيه، بما هو رد فعل، وإنما تنحصر أهميته التاريخية في ما قد يخرج من جوفه من عناصر ومواقف ينتظر منها أن تحقق التجاوز، وباللغة الجدلية: "نفي النفي". وهذا النوع من التجاوز أو نفي النفي يتوقف ظهوره على طبيعة العلاقة بين الفعل ورد الفعل.
الفعل، هنا، فعل أمريكي محكوم بالظرفية التي أملته وبالقضية التي تحكم هذه الظرفية، وهي أساساً ما يطلق عليه الخطاب الأمريكي اسم "الإرهاب"، والمقصود بالدرجة الأولى ما تقوم به جماعات ترفع شعار الإسلام من تشويش على الوجود الأمريكي في الشرق الأوسط، تشويش يمسّ في بعض الحالات المصالح الأمريكية مساً جدياً. وإذاً، فما يحرك، في الخطاب الأمريكي، الدعوة إلى الإصلاح في الشرق الأوسط هو ما تسميه بـ"الحرب على الإرهاب"، وهي حرب تطال المقاومة في فلسطين، لا لأنها تمسّ "المصالح القومية الأمريكية" مساً مباشراً، بل لأنها تشوش على "الحل" الذي تريد الإدارة الأمريكية فرضه للقضية الفلسطينية بالطريقة التي تضمن لها سلامة وقوة حليفتها الاستراتيجية: إسرائيل.
يلزم عن هذا المنظور الأمريكي للإصلاح في الشرق الأوسط أمران اثنان:
1- انخراط حكومات الشرق الأوسط مع الإدارة الأمريكية انخراطاً كلياً في "الحرب على الإرهاب"، الأمر الذي يعني نقل الصراع الدولي الذي تخوضه هذه الإدارة ضد "الإرهاب" إلى داخل كل دولة عربية أو إسلامية. وبما أنّ "العقل الأمريكي" ينظر إلى الأمور، عادة، من زاوية واحدة هي زاوية "المنفعة" المباشرة والقريبة قبل غيرها، فإنّ الإدارة الأمريكية لا ترى في ذلك سوى مشهد واحد، هو قيام الحكومات العربية والإسلامية بـ"التدابير الضرورية" لاستئصال الإرهاب من جذوره، وفي مقدمة هذه التدابير تجفيف ما تعتقد أنّه ينابيعه المباشرة، الفكرية منها والمالية. ومن هنا كان مضمون الإصلاح الذي تنادي به يشتمل أولاً وقبل كل شيء على تغيير المناهج التعليمية وفرض الرقابة الشديدة على "المؤسسات الخيرية" التي يقال عنها إنها تدعم الإرهاب.
2- ومن هنا الأمر الثاني الذي يلزم عن المنظور الأمريكي للإصلاح في الشرق الأوسط. ذلك لأنّ مطالبة الحكومات العربية والإسلامية بالانخراط مع أمريكا في حربها الدولية على الإرهاب يؤدي بهذه الحكومات، إنّ عاجلاً أو آجلاً، إلى خوض حرب أهلية ضد قسم من شعوب بلدانها. وإذاً فالنتيجة الأولى لـ"الإصلاح"، كما تريد الإدارة الأمريكية فرضه على منطقة الشرق الأوسط، هي إشعال نار حرب أهلية في كل بلد من بلدان هذه المنطقة. وبما أنّ قضية الإصلاح هي أساساً قضية الفئات التي تعارض الوضع اللاديمقراطي القائم في المنطقة وتطالب بالتغيير في أفق ديمقراطي حقيقي، فإنّ طرح الإدارة الأمريكية لما سمته بعض وسائل الإعلام بـ"مبادرة الإصلاح الأمريكية" في الشرق الأوسط يضع القوى المطالبة بالتغيير والإصلاح في كل بلد من هذه البلدان في وضعية حرجة: فهي إذا انخرطت في قضية "الإصلاح" الذي تنادي به الإدارة الأمريكية، وجدت نفسها تتحالف مع حكوماتها، غير الديمقراطية، ضد "الإرهاب"! أما إذا عارضت "مبادرة الإصلاح" الأمريكية، فإنها تجد نفسها حليفة أو جارة للقوى التي ينسب إليها تأييد ودعم الجهات التي ينسب إليها الإرهاب. وبما أنّ "الإرهاب" يرفع شعار الإسلام ويوظفه في تعبئة الأنصار والمنفذين، فإنّ أي موقف تتخذه القوى الداخلية التي دأبت على رفع شعار التغيير والإصلاح – قبل "المبادرة" الأمريكية – سيجعلها أمام اختيار لا تريد، وقد لا تستطيع مواجهته: إما مع "الإسلام" الذي ترفع شعاره القوى المتّهمة بمساندة الإرهاب، وإما ضده. وفي الغالب، تجد نفسها تقف موضوعياً ضده، ولكنها لا تملك أن تضع نفسها ضده ذاتياً، لسبب بسيط هو أنّ الوقوف ضد نوع من الفهم والتوظيف للإسلام، أو لأي دين، يتطلب نوعاً مضاداً من الفهم والتوظيف للدين نفسه، وهذا ما لا تملكه. فعلاً يمكن للإنسان أن يلغي الدين من دماغه، ولكن لا يمكن أن يلغيه من مجتمعه، إلا إذا انعزل وقطع كل صلاته به. وهذا ليس شأن المطالبين بالتغيير والإصلاح، ذلك أنهم – من الناحية المبدئية على الأقل – يفكرون في المجتمع وأوضاعه وقضاياه.
وهكذا نرى أنّ ردود الفعل المختلفة التي أثارتها "مبادرة الإصلاح" الأمريكية، ليست مجرد ردود سجالية كما توحي بذلك هي نفسها عندما تنقل عبر وسائل الإعلام الراهنة التي تعاني – في نظري على الأقل – فائضاً في الألفاظ وشحّاً في المعنى. كلا! إنها في الحقيقة ردود فعل تخفي من ورائها حقائق يصعب على الكثيرين الإفصاح عنها، ليس لأنهم لا يمسكون بأداة التعبير، أعني اللغة، بل ربما لأنّ اللغة في هذا المجال كما في مجال "الحب" تعجز كلماتها وتراكيبها عن التعبير عما في "القلب". وهذا العجز سببه الوحيد ليس اللغة ذاتها، بل الحقيقة المراد التعبير عنها. ذلك، لأنه سواء تعلق الأمر بالحقيقة العاطفية أو بالحقيقة الدينية أو بالحقيقة السياسية والاجتماعية... فإنّ "الحقيقة ثورية" دوماً.
ومن المضامين الثورية لـ"الحقيقة" القائمة اليوم، والتي تعجز أقلام وألسنة كثيرين عن التعبير عنها، كون الإصلاح الذي تريد الإدارة الأمريكية إقامته في الشرق الأوسط أو قيامه فيه – لا فرق – قد بدأ بالإفساد، ليس فقط إفساد ما كان موجوداً من صلاح قائم أو منتظر، بل أيضاً بإرباك وطمس الطريق إلى الإصلاح الحقيقي، ومن ثم تعتيم الرؤية التي تنشد الإصلاح. وهذا يطرح في نظرنا، كمهمة أولية على الكتّاب والمفكرين العرب والمسلمين من جميع الاتجاهات، ليس اتخاذ موقف مبتسر إشهاري "مع" أو "ضد" قضية الإصلاح، كما هو الشأن حالياً، بل القيام بما ندعوه هنا: "نقد الحاجة إلى الإصلاح".
وعبارة "نقد الحاجة إلى الإصلاح" تعني، أولاً وقبل كل شيء، النظر إلى الإصلاح لا من حيث هو دعوة آتية من خارج، ولا من حيث هو شعار بادرت إلى رفعه قوى داخلية، بل من حيث هو "حاجة". فإذا حددنا أولاً الحاجة أو الحاجات التي تبرر جعل الإصلاح مطلباً في العالم العربي والإسلامي، أمكن حينئذ تحديد الأهداف منه، ثم تعيين الوسائل القمينة بتحقيق هذه الأهداف. وبما أنّ الأمر يتعلق بـ"مفهوم" يحدد الرؤية والمنهج، كما يتحددان به، فإنّه لابدّ من الاتفاق أولاً على مضمون هذا المفهوم، سواء في مرجعيتنا العربية الإسلامية أو في المرجعية الأوروبية. إنّ تحديد مضمون مفهوم "الإصلاح" في المرجعيتين سيمكننا من معرفة ما إذا كنا نعني شيئاً واحداً عندما نتكلم عن "الإصلاح"، أو أنّ الرافضين للمبادرة الأمريكية يفهمون من الإصلاح غير ما يفهمه منه أنصارها والداعون إلى نوع من التعامل معها.
لابدّ من تصور واضح للموضوع. أما الحكم عليه، فيأتي بعد. وكما يقول القدماء: "الحكم على الشيء فرع تصوره".
والآن وضحت الرؤية من خطاب الإصلاح الإمريكي في الوقت الراهن

المصدر: كتاب في نقد الحاجة إلى الإصلاح

ارسال التعليق

Top