- مقدمة:
ثمة نزوع فكري ومعرفي في هذا الوقت، يتجه نحو الاهتمام بالمسائل المدنية والأهلية في المجال العربي والإسلامي. وذلك لأنّ المؤسسات المدنية والأهلية ذات الاستقلال التام، والحيوية في مسار بناء الأمة بعيداً عن الإرادات السياسية الظالمة، هي إما غائبة أو مهمشة ومغيبة. وفي كلتا الحالتين، كان للإرادة السلطوية الدور الأكبر في تغييب هذه المؤسسات، التي تشكل روح الأمة ودينامو المجتمعات العربية والإسلامية في تاريخها المديد، أو في تهميشها وتضييق مجال حركتها وفعلها الحضاري، والعمل على إفراغها من مضمونها الحقيقي والجوهري. فالمشروعات السياسية التي لا تتضمن مضموناً حضارياً، تعمل بكل ما أوتيت من قوة لتقليص القاعدة الاجتماعية لهذه المؤسسات والأنشطة المدنية والحضارية، وذلك عبر استخدام القوة بكل صنوفها وتجلياتها، في سبيل منع قيام القطاعات الاجتماعية باحتضان هذه المؤسسات وتنمية دورها ووظائفها في مسار الأمة العربية والإسلامية. ولأسباب مرتبطة ببنية المشروعات السياسية الخالية من المضامين الحضارية والمدنية، فإنّها تقف موقفاً مضاداً من هذه المؤسسات والأدوار الموكولة لها.
سوف نتحدث عن المسألة المدنية أو المؤسسات الأهلية الاجتماعية والحضارية في إطار الواقع العربي والإسلامي، الذي يعاني اليوم من تغول الدولة والمشروعات السياسية التي تسعى عبر ترسانتها الإعلامية وإمكانياتها المالية وإرادة الهيمنة والقوة، إلى ابتلاع وتذويب كل المؤسسات والقوى التي تساهم في تنمية الأمة وتطوير أدائها في مختلف المجالات، بالاعتماد على إمكانات الأمة الذاتية الاجتماعية والحضارية. لذلك سيستمر الخلل يزيد من تأثيراته الخطيرة على واقع الأمة، إذا لم تبذل الجهود في سبيل إعادة التوازن بين الدولة بمؤسساتها وضروراتها، والمجتمع بهياكله ومؤسساته وتطلعاته في التطوير والبناء. ولا ريب أنّ الخطوة الأولى في إطار إعادة التوازن بين الطرفين، هي إعادة الاعتبار إلى المؤسسات الأهلية (مؤسسات الأمة) وتنمية أدوارها ووظائفها، وخلق الأنشطة الأهلية والمدنية التي تساهم في تمدين الواقع الاجتماعي، وجعله مؤهلاً من الناحية النفسية والعقلية والواقعية لممارسة دوره والقيام بواجباته الكبرى في الوجود. لذلك يبدو أنا لمدخل الفعال لمناقشة هذه المسائل، هو جدليات الأمة والدولة في التجربة الإسلامية التاريخية.
- جذر المأزق:
من الطبيعي أن تتمايز بنية المجتمع عن بنية الدولة، إذ لكل طرف أدواره ومقتضيات مختلفة عن الآخر، إلا أنّه من غير الطبيعي أن تتناقض الدولة ومشروعاتها مع أهداف ومشروعات الأمة. لأنّ هذا التناقض، هو الفجوة الكبرى التي حدثت في التجربة الإسلامية التاريخية، ودخلت واستوطنت من خلالها الأزمات والمآزق والمعضلات والتداعيات الذي ما زال واقعنا يعاني من آثارها وتأثيرها. فالأزمة الحقيقية والمعضلة الكبرى، بدأت منذ تناقضت مشروعات الدولة مع مشروعات الأمة، وأصبحت الدولة تمارس كل جبروتها في سبيل إقصاء الأمة بنخبها وعلمائها واهتماماتها عن مسرح الحياة السياسية والثقافية للعالم الإسلامي.
فالاستبداد السياسي الذي تمارسه الدولة، أخذ طريقه للتوسع والانتشار على قاعدة تهميش الأمة وإقصائها عن الفعل السياسي والحضاري. فمراقبة الأمة ومحاسبتها للحكام وحضورها الدائم على مسرح الأحداث، كان يحول دون تغول الدولة واعتمادها المطلق على القهر والبطش والاستبداد في الإدارة والحكم.
وحين تتأزم العلاقة بين الدولة والأمة، تبرز على السطح كل العناوين الفرعية التي أعطى لها الإسلام مضموناً جديداً، أو حالت قيمه ومبادئه دون التعصب الأعمى لتلك العناوين الفرعية. فالعشيرة والقبيلة مثلاً أصبحت في التجربة الإسلامية التاريخية، كيانات اجتماعية طبيعية، تمارس دورها في التضامن الداخلي والدعوة وبناء المجتمع الجديد. ولكن حينما تتخلى الدولة عن مشروع الأمة الحضاري والسياسي، أو تتناقض خيارات الدولة مع خيارات الأمة، فإنّ كل العناوين الفرعية المتوفرة في الجسم الاجتماعي والسياسي للمسلمين، تبدأ بالبروز القلق وممارسة أدار مختلفة وخطيرة. وفي بعض الحقب والتجارب كان لعودة هؤلاء الناس إلى عناوينهم الفرعية تأثيرات سلبية خطيرة على وحدة الأمة والمجتمع الإسلامي. وذلك لعودة هؤلاء إلى المضامين الجاهلية أو السيئة وذات البعد العصبوي.
لذلك نستطيع القول بأنّ تكامل الأمة والدول في التجربة الإسلامية، هو الكفيل بصهر كل العناوين الفرعية في بوتقة الأمة ومشروعاتها الحضارية. ودائماً تبدأ محنة المسلم الكبرى، حينما تبتعد الدولة ككيان سياسي وإداري عن الأمة وخياراتها. وتتأزم العلاقة بين المجتمع والدولة حينما تمارس الدولة عمليات التهميش والإقصاء لقوى الأمة الذاتية (الأهلية)، وتسعى نحو إضعاف الأمة، حتى يتسنى لها القيام بكل شيء على مختلف الصعد بدون حسيب أو رقيب. لذلك فإنّ حضور الأمة وحيويتها وجهادها، واستمرار تطور قواها الذاتية، هو الضمان الوحيد لعدم تغول الدولة وتحولها إلى كيان يختزل إمكانات الأمة في مؤسساته وأطره، ويحركها وفق مصالحه الضيقة. إنّنا مع الدولة القوية القادرة على الدفاع عن سيادة المسلمين وعزهم واستقلالهم، ولكن قوة الدولة الحقيقية لا تتأتى إلا من خلال ممارسة الأمة بمؤسساتها ومنابرها الأهلية والمدنية لدورها وحريتها.
حيوية الأمة وقوتها، هي طريق صناعة الدولة القوية، وأي طريق يتجه إلى صناعة قوة الدولة بعيداً عن هذا الخيار، فإنّه يؤدي بنا إلى الدخول في نفق مظلم من العلاقة المتوترة وذات الطابع الصراعي بين الدولة والأمة. وهذا النفق المظلم، هو الذي يعطل المجال الحضاري الإسلامي عن القيام بدوره الكوني.
ـ مأزق الدولة الوطنية:
مع اتساع دائرة انحراف السلطة العثمانية، وتضخم نزعة الاستبداد لديها، واشتداد استخدام العنف والقوة تجاه الآراء الحرة والأفكار الجديدة. لدرجة أنّ المؤرخين أطلقوا على السلطان عبدالحميد اسم (السلطان الأحمر) كتعبير عن سياسة الشدة والغلظة والاستبداد التي ينتهجها. مع اتساع هذه الدائرة التي أصبحت ككرة الثلج، حيث بدأت السلطنة تواجه أزماتها وإشكالياتها بالمزيد من استخدام العنف والقوة والقهر، بدأت النخب الثقافية والسياسية، تطرح مشروعات بديلة عن السلطنة العثمانية. وأضحت الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية للعالم الإسلامي آنذاك سجالاً محموماً بين ثلاثة اتجاهات:
1 ـ السلطنة العثمانية بما تشكل من رمزية تاريخية وثقل روحي وامتداد جغرافي وقوة عسكرية.
2 ـ القوى الاستعمارية الجديدة، التي بدأت تنشط على ساحة العالم الإسلامي وذلك لتثبيت أقدامها ودحر عدوها التاريخي الذي أصابته في تلك الآونة أعراض الضعف والمرض.
3 ـ النخب الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي لم تكن على رأي واحد، وإنما هي عبارة عن قوة جديدة، وذات مرجعيات مختلفة، وثقافات متباينة، إلا أن القاسم المشترك بين هذه النخب، هو إيمانها بضرورة تغيير الواقع المعيشي، والسعي نحو تحديث العالم العربي والإسلامي.
ومن خلال هذه السجالات المستديمة، تمخضت مشروعات سياسية وفكرية كثيرة، وبدأت تتوالد التحالفات والاستقطابات الجديدة، وتبرز التناقضات في تشخيص الواقع وطرق معالجته، وبدأت القوى الاستعمارية تمارس مكرها وكيدها ودسائسها لتوجيه هذه السجالات ومن ورائها إرادة التغيير في اتجاه يخدم مصالح المستعمر، ويثبت حقائقه السياسية والعسكرية والثقافية على الأرض العربية والإسلامية. وبفعل عوامل عديدة ذاتية وموضوعية، طرح شعار الاستقلال القطري، كخيار استراتيجي بالنسبة إلى العديد من الأقاليم العربية والإسلامية، وبدأت النخب السياسية والثقافية بحشد الجمهور تجاه الهدف الجديد.
وهكذا ولدت الدولة الوطنية في المجال العربي والإسلامي، وهي تحمل مأزقها وأزمتها. فهل الدولة الوطنية هي خيار نهائي، أم هي مقدمة ضرورية للوصول إلى الدولة القومية.. ووفق أي قواعد تتشكل علاقة هذه الدولة الوطنية مع شقيقاتها، وكيف تكون علاقة الجميع بالحلم القومي وبالأمة.
(ومما زاد وهن الدولة العربية على وهنها السابق، هو أنّها لم تتمكن من اكتساب الشرعية الايديولوجية اللازمة. حيث تتداخل في الوعي والوجدان العربي الإسلامي عامة، حلقات الولاء القطري المحلي والقومي والإسلامي. ورغم كل المحاولات التي بذلت لاستنبات مشروعية تاريخية وأيديولوجية للكيانات القطرية العربية المستجدة من خلال استدعاء الأدبيات القومية الغربية، ومن خلال النبش في السجلات التاريخية القديمة. ومع ذلك فقد ظل قطاع واسع من الرعايا، ينظر إلى هذه الدول بعين الريبة والشك، ولم يرَ فيها في أحسن الحالات سوى محطة عبور إلى ما بعدها).
وأضحت المشكلة الأساسية التي تواجه الدولة الوطنية في العالم العربي والإسلامي، هي غياب مفهوم الأمة الشامل عن فضائها ومحيطها السياسي، وعدم قدرتها على تجاوز الثقل المعنوي والثقافي لمشروع الوحدة القومية أو الإسلامية.
ـ الأمة أولاً:
لم يأتِ مفهوم الأمة في القواميس اللغوية بمعنى واحد، وإنما بمعان متعددة، حتى ذكر ابن الأنباري في كتابه (الزاهر في معاني كلمات الناس) أنّ الأمة تنقسم في كلام العرب إلى ثمانية أقسام، منها: الجماعة قال تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ …) (القصص/23). والزمان قال تعالى: (وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ …) (هود/8). والدين قال تعالى: (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ …) (الزخرف/23).
وأضافت القواميس اللغوية الأخرى أيضاً معاني وأوصاف أخرى لمفهوم الأمة، فهي تعني لدى (ابن منظور) الطريق والسبيل ويعرفها عبدالقاهر البغدادي بأنّها: (كل دار ظهرت فيها دعوة الإسلام من أهله بلا خفير ولا مجير ولا بذل جزية ونفذ فيها حكم المسلمين على أهل الذمة إن كان فيهم ذمي).
فالأمة محورها الأساسي هو الدين. والجماعة البشرية التي تتمحور حول دين وعقيدة، وتسعى وتعمل على تحويل هذا الدين أو تلك العقيدة إلى وقائع وحقائق. هذه الجماعة البشرية يطلق عليها مصطلح (الأمة).
ولقد حاولت الدول المنحرفة والاستبدادية في التجربة الإسلامية التاريخية، أنّ تغير من محور الأمة وقطبها الأساس، فجاءت دول سعت أن تكون القرابة هي محور الجماعة، وأخرى العنصر العربي وهكذا. لذلك نجد أنّ في التاريخ كانت هناك صراعات وانقسامات على هذه القواعد. فحاول البعض التمييز في العطاء، وإعطاء الفرص والمناصب السياسية الهامة لشخصيات كان معيار اختيارها ليس الكفاءة والقدرة، وإنما القرابة الدموية. ومع اتساع رقعة الإسلام بدأ التمييز على قاعدة العرب والموالي، ولقد أحدث هذا التمييز في التجربة الإسلامية التاريخية العديد من الصراعات والحروب والثورات. فالمحور الأساسي لمفهوم (الأمة) هو الدين والعقيدة، لذلك فإنّ مفهوم الأمة سيرورة تاريخية، إذ مع اتساع رقعة الإسلام تتسع دائرة الأمة ومسؤولياتها.
لهذا نجد أنّ التوجهات العامة والتكاليف الاجتماعية والحضارية، التي أرسى دعائمها الدين الإسلامي لم تتوجه إلى آحاد الأمة أو كيانها السياسي (الدولة)، وإنما توجهت بشكل مباشر إلى الأمة، فهي المسؤولة عن تنفيذ تلك التوجهات، وهي الحاضن للقوى المؤهلة لتحويل تلك التكاليف إلى وقائع قائمة في المجال الاجتماعي والحضاري، قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ *وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران/103-105). فالوحدة كقيمة إسلامية وإنسانية كبرى، يتجه التكليف فيها إلى الأمة. وتبدأ من الدوائر الاجتماعية الصغيرة، حتى تصل إلى الدوائر الكبيرة. فالأمة هي المسؤولة الأولى عن خلق الوحدة بوعيها وإرادتها وتصميمها على تجاوز كل العقبات المتوفرة في الواقع المجتمعي والتي تحول دون ذلك. وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا..) (البقرة/143). فالعمران الحضاري يتطلب حضوراً حيوياً للأمة وشهوداً متواصلاً من قبل القوى والأطر التي تجسد إرادة الأمة، حتى يتحقق الرقي الحضاري. فشهود الأمة ووسطيتها، هو الشرط الضروري للتقدم الشامل.
وتاريخياً كان للأمة بمؤسساتها ومنابرها وإمكاناتها الأهلية، الدور الرئيسي والجوهري في توسع رقعة الإسلام، وتذليل الكثير من العقبات التي تحول دون استمرار حركة الفتح الروحي والحضاري. واستخدمت في سبيل ذلك وسائل حضارية كالدعوة بالتي هي أحسن إلى الدين الجديد، والتواصل الإنساني، وصناعة القدوة الحسنة، التي تمارس فعلاً دعوياً متواصلاً من خلال سلوكها وحركتها العامة. وفي إطار مشروع الأمة الحضاري، الذي يتجه إلى الأقوام والشعوب الأخرى لإشراكها في عملية العمران الحضاري وفق القيم الجديدة التي جاء بها الإسلام.
لم تمارس (الأمة) أي فعل عنفي أو لم تستخدم وسائل القهر والبطش في سبيل إخضاع الشعوب الأخرى. وإنما قامت بنشر العلم والمعرفة بوسائل حضارية، وتحولت بيوتات العلم ومراكز المعرفة في الأمة إلى مراكز إشعاع علمي- حضاري، أخذت على عاتقها تعميم قيم الدين الجديد، وتعريف الآخرين بقيم الإسلام ومثله ومبادئه.
ومنذ انطلاقة الإسلام (سعى لاستيعاب القبلية عن طريق توسيعها لتشمل الأمة التي يفترض أن تنمو تدريجياً لتشمل العالم. ويعتبر أعضاء القبيلة أنفسهم إخوة على أساس قرابة نسبية. يتخذ الإسلام مبدأ الأخوة القبلي منطلقاً لكنه ينسف أساسه البيولوجي ويوسعه ليشمل جميع أعضاء الأمة. هذا التوسيع للمفاهيم يحولها إلى نقيضها، فتصبح منطلقاً لتكوين جماعة واسعة قائمة على أسس إنسانية شمولية بدل أن تبقى محصورة في الجماعة الضيقة لكل ما هو خارج إطارها).
وبهذه الطريقة حقق الإسلام تحولاً نوعياً في الواقع المجتمعي، إذ تم صهر كل العناوين الفرعية في دائرة الأمة (مع احترام كامل للخصوصيات الذاتية)، وتم تأسيس الدولة والتجربة السياسية على قاعدة الأمة الجديدة. فالأمة في التجربة الحضارية، هي الإرادة الكبرى لإنجاز مشروعات الإسلام الحضارية. فهي التي أوصلت الإسلام إلى أصقاع المعمورة، وهي التي احتضنت المجاهدين والعلماء الذين أخذوا على عاتقهم مسؤولية الدعوة والإرشاد، وهي التي أبدعت وسائل عديدة لاستمرار مشروعات صناعة الخير على مختلف الصعد والمستويات. وهي التي أمدت مشروعات الفتح الحضاري بالكفاءات البشرية المؤهلة والقادرة على ممارسة الدور المتميز في هذا المجال. ومن مؤسسات الأمة العلمية والتربوية، برز آلاف العلماء والفقهاء والمجاهدين والمصلحين، الذين مارسوا أو قاموا بأدوار جوهرية وحاسمة في عمليات النهضة والبناء. ومن مؤسسات الأمة الخيرية والأهلية والتطوعية، تم دعم الدعاة والمجاهدين، وتوفير كل مستلزمات الانطلاق في رحاب المعمورة. ومن هذه المؤسسات برزت إمكانات الأمة الاقتصادية والإنتاجية، التي أصبحت جزءاً رئيسياً في حركة الاقتصاد والإنتاج لعالم المسلمين. ومن بركات هذه المؤسسات، تم رعاية واحتضان كل الحلقات الضعيفة في المجتمع والأمة. فالأمة هي التي قامت بالأدوار الكبرى في سبيل إنقاذ العالم من جاهليته وخلاصه من كل المعوقات التي تحول دون انطلاقته.
ونحن هنا لا ننكر دور الدولة في التجربة الحضارية والإسلامية، فالدولة في المنظور الإسلامي ضرورة شرعية وحضارية وذلك لأنّها (المنهج الوحيد الذي يمكنه تفجير طاقات الإنسان في العالم الإسلامي والارتفاع به إلى مركزه الطبيعي على صعيد الحضارة والإنسانية، وإنقاذه مما يعانيه من ألوان التشتت والتبعية والضياع). فما دامت الدولة في المنظور الإسلامي ضرورة شرعية وحضارية، لذلك ينبغي أن يهتم بها المسلمون ويجعلوها دائماً مع خيارات الأمة. ولا ريب أنّ فعالية الأمة وحركية المجتمع السياسي الإسلامي، هي من العوامل الجوهرية والضرورية التي تحول دون تغول الدولة أو ابتعادها عن خيارات الأمة مطامحها الكبرى.
وما نريد قوله في هذا الإطار، هو أنّ الأمة هي الفيصل في عمليات العمران الحضاري، ولولاها لما وصل الإسلام إلى أقاصي الأرض. وكان دور الدولة في التجربة التاريخية الإسلامية في هذا المجال هو دفع هذه الحركة، والتفاعل مع معطياتها ومتطلباتها. وإنّ الأزمة الكبرى التي وجدت في التجربة الحضارية الإسلامية، بدأت حينما سعت الدولة بآلياتها العسكرية والحربية وجبروتها وطغياتها السياسي، أن تلغي دور الأمة أو تقلصه تحت مبررات داخلية أو خارجية. حينذاك بدأت الدولة بمحاربة الأمة ومؤسساتها، وانعزلت الأمة عن الدولة ومقتضياتها.
ولعلنا لا نعدو الصواب حين القول: أنّ الكثير من الإخفاقات والنكسات التي أصابت التجربة الإسلامية على المستوى التاريخي، هي من جراء الانفصال الذي بدأ في مراحل مبكرة من التاريخ الإسلامي بين الدولة والأمة. ولولا الأمة وجهادها ومؤسساتها ومراكزها العلمية والدعوية والجهادية، لما استمرت حضارة الإسلام بالإشعاع حقباً زمنية طويلة. وذلك لأنّ انحراف الدولة المبكر، جعلها بعيدة في سلوكها واختياراتها عن جوهر الإسلام ومثله في السياسة والحكم والإدارة. فالتوسع المدني والحضاري الذي شهده العالم الإسلامي في عصره الذهبي (القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلاديين)، لم تصنعه إلا الأمة التي عملت وجاهدت على مستويين:
المستوى الأول: محاصرة انحراف الدولة الإسلامية، والعمل بكل الوسائل المتاحة والمشروعة لضبط مؤسسة الدولة، وإخضاع خياراتها وسياساتها الداخلية والخارجية لضوابط الشريعة الإسلامية.
والمستوى الثاني: الانطلاق في رحاب العالم، بإمكانات الأمة وآفاقها، لتوصيل الإسلام إلى الشعوب الجديدة.
وتاريخنا الإسلامي في الكثير من مراحله، هو عبارة عن مد وجزر بين الأمة والدولة. فالكثير من الأمجاد صنعتها الأمة بمؤسساتها وإمكاناتها الأهلية، كما أنّ الكثير من الإخفاقات والإنكسارات كانت من جراء طغيان الدولة، وابتعادها التدريجي عن ضوابط الإسلام في الحكم والإدارة. فالحركية الاجتماعية الجديدة، وذات الفعالية الكبرى التي عاشها العرب والمسلمون في تاريخهم الغابر، يرجع الفضل فيها إلى الأمة ومؤسساتها. أما الدولة فقد كانت على العكس من ذلك تماماً، حيث أنّها حاربت إبداعات الأمة، وحالت دون ممارسة حريتها في الدعوة وإيصال صوت الإسلام إلى الذات والآخر، وضربت بيد من حديد كل صاحب مشروع علمي أو ثقافي أو اقتصادي خارج عن نطاق الدولة وبعيداً عن سياساتها وجبروتها. لهذا يزخر تاريخنا الإسلامي بالانتفاضات والثورات التي قامت بها نخب الأمة وطليعتها ضد الطغيان والاستبداد الذي تمارسه الدولة وأجهزتها المختلفة.
وذروة الحضارة في المجال العربي- الإسلامي، تبدأ حينما تتطابق إرادة الدولة وإرادة الأمة. والتطابق هنا يعني أن لا تمارس الدولة بأجهزتها أي إقصاء ونفي وتهميش لإرادة الأمة، وأن يكون لها دورها الحضاري في مجال سيادة قيم الدين في الواقع الخارجي.
وليس من المبالغة في شيء القول: بأنّ غياب هذا التطابق الحضاري في الدور والإرادة بين الأمة والدولة، هو الذي فتح الباب على مصراعيه للمشاكل والأزمات والإخفاقات التي يعاني منها واقعنا العربي والإسلامي. ولقد استغلت قوى الشر والبغي والهيمنة في العالم هذه اللحظة لتشتيت قوى الأمة وتفتيت عضدها، وتثبيت الحوائل التي تحول دون الاستقلال والتحرر والتنمية، وتكريس التخلف والإحباطات في عقل وفكر الأمة. فحينما غاب مشروع الأمة من التأثير والفعل النوعي، ضاعت فلسطين، ودخلنا جميعاً في نفق التبعية والاستتباع الحضاري على مختلف المستويات، وتم اختراقها على مستوى السياسة والحكم، والاقتصاد والاجتماع، والثقافة والعلم، وأصبحنا من جراء كل هذا على هامش حركة التأريخ، وبعيداً عن متطلبات الاستقلال والتنمية الشاملة.
من هنا، فإنّنا نستطيع القول: بأنّ الإخفاقات الكبرى التي أصابت عالم العرب والمسلمين، كانت في زمن كان مشروع الأمة في أسوأ حالاته، وكانت العلاقة بين الأمة والدولة علاقة توتر وصراع. كما أنّ لحظات الظفر والانتصار تشكلت في التجربة الحضارية الإسلامية، حينما عادت للأمة روحها، وأصبحت تشارك بكفاحها وجهادها في تكريس إرادتها العامة على مسرح الأحداث الكبرى.
وهكذا نصل إلى حقيقة أساسية في التجربة السياسية للعرب والمسلمين وهي:
إنّ بداية الانطلاقة الحضارية الحقيقية، تبدأ من الأمة وقواها الحية، وأي مراهنة على غير الأمة، تزيدنا غبشاً وضياعاً وتردداً. فحينما نعيد الحياة إلى جسم الأمة، فإنها تتحرك صوب أهدافها الكبرى بدون تعب أو كلل. لذلك فإنّ مهمتنا الكبرى اليوم تتجسد في إنهاض الأمة وبناء قواها الذاتية، وتأهيلها من جديد، لكي تمارس حضورها وشهودها على العالم.
فنجاحنا كله مرهون بمدى قدرتنا على تحريك قوى الأمة، وتوجيه إمكاناتها وطاقاتها صوب أهداف محددة وغايات مشتركة. فحينما تتحرك الأمة، ويكون حضورها وشهودها شاملاً، لن تصبح السلطة أو الدولة غريبة عن أهداف ومشروعات الأمة. (وفي العصور الإسلامية المتأخرة، حين صارت أكثر السلطات غريبة عن المدينة، لعبت المدينة دور الصامد، والحافظ، والمستوعب، فصارت هي القائمة بالوظائف الحضارية والسياسية للدولة بعد أن غابت تلك لا من حيث البنية، بل من حيث الارتباط بالمشروع التاريخي للأمة). ففي زمن ضعف الدولة واهتراء مشروعها، كانت الأمة تمارس دورها في مختلف المجالات على أكمل وجه. وحينما تتناقض إرادة الدولة والأمة، فإنّ الأخيرة تجاهد لإعادة الدولة إلى وضعها الطبيعي، وفي نفس الوقت ترعى وتحتضن المناشط الحضارية للعرب والمسلمين.
أما إذا تكاملت إرادة الدولة مع إرادة الأمة، فإنّ ملحمة البناء والحضارة، تبدأ بالبروز والانطلاقة في عالم العرب والمسلمين. وكل الحقب المجيدة في تاريخنا، هي من جراء تكامل الإرادتين، أو فعالية إرادة الأمة في زمن خواء الدولة وضعفها الحضاري. ولولا قوى الأمة الذاتية وتنوعها الثري، لأصبحت الدولة كياناً خطيراً، يلتهم الجميع، ويقضي على كل فرص النمو والبناء خارج نطاق الدولة ومشروعاتها ذات الطابع المطلق والكلاني.
إنّ الأمة في النص والتجربة التاريخية الإسلامية، لها دور مركزي في الحياة الدينية والاقتصادية والعلمية والسياسية والحضارية والخيرية للمسلمين. إذ أنّ أكثر المؤسسات والأطر في تاريخ التجربة الإسلامية، تنتمي إلى الأمة وتستند إليها في أنشطتها وأعمالها. لذلك فتغييب الأمة من الفعل الحضاري، حرم المجتمع الإسلامي من مصادر قوته وعزته وتطوره، وأتاح المجال لعوامل خارجية من إختراق الجسم الإسلامي، والتحكم في مستقبله ومصائره. (إنّ ما يحرك العرب ويعبر عن مزاجهم التاريخي هو مفهوم الأمة، والأمة موجودة في وعيهم سواء توحدوا أم لم يتواجدوا وسواء وجدت الدولة الواحدة أم لم توجد. هم يعلمون أنّ الوحدة ضرورية، وبدونها يبقى مفهوم الأمة متحققاً على الصعيد الثقافي وحسب. كما يعلمون أنّ الدولة ضرورية أيضاً لأنّها تنقل وجود الأمة من الصعيد الثقافي إلى الصعيد السياسي، فهي الأداة التي تحقق الأمة بها وجوداً فعلياً يساعدها على ممارسة دعوتها التي تخرجها من الحيز القومي الضيق إلى مجال أرحب وأوسع هو العالم والكون بأسره. الأمة تقود إلى الوحدة، والوحدة تقود إلى الدولة، لكن وجود الأمة لا يتوقف على تحقيق الوحدة أو الدولة، بل أنّ وجود الأمة هو الشرط لاضروري لكل ما عداه). فالأمة في المجال الحضاري الإسلامي، هو المجال الحيوي الذي يتحرك فيه المسلمون لتنمية قدراتهم وتطوير أوضاعهم والتواصل مع العالم والقوى الدولية، والدولة هنا وفق هذا المنظور، ليست منفصلة عن الأمة وإرادتها وخياراتها، وإنما هي جزء من إرادة الأمة وجسرها لإنجاز مفاهيم السيادة والعزة والاستقلال والتنمية. فالأمة هي التي تصنع الدولة، لذلك نجد أنّ التوجيهات الإسلامية الكبرى، التي تؤكد على قيم مفصلية في التجربة التاريخية الإسلامية تتوجه إلى الأمة بأسرها… قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران/110).
كما أنّ الدولة ضرورة من ضرورات الأمة والوجود الإنساني. فبها تستطيع الأمم خلق الوقائع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. (فالسلطة ضرورية لانتظام الدنيا، وانتظام الدنيا ضروري لانتظام الدين، وانتظام الدين ضروري لتحقيق السعادة في الآخرة).
وجاء في حديث رواه (الفضل بن شاذان) عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) قال: (إنا لا نجد فرقة من الفرق، ولا ملة من الملل، بقوا وعاشوا إلا بقيّم ورئيس، لما لابد لهم منه في أمر الدين والدنيا، فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنّه لابد لهم منه، ولا قوام لهم إلا به فيقاتلون به عدوهم، ويقسمون به فيئهم، ويقيمون به جمعتهم وجماعتهم، ويمنع ظالمهم من مظلومهم). إنّ الدولة (استجابة للفطرة والضرورة التي يقتضيها الاجتماع البشري الذي لا يعقل تحققه من دونها. والمجتمع الإسلامي ليس شذوذاً خارجاً عن هذه الفطرة، وعن هذه الضرورة. وهي ضرورة يفرضها كون الإنسان ـ المجتمع جزءاً من الكون المحكوم بنظام كوني ثابت وشامل لجميع الموجودات في عوالم الجماد، والحياة النباتية، والحيوانية.. هذه العوالم التي يقف الإنسان في قمتها كائناً، واعياً، عاقلاً، مريداً مختاراً، حراً. وقد سخر الله له سائر العوالم، وزوّده بالوسائل والقدرات المادية والعقلية، والنفسية، للانتفاع بها في نطاق استخلافه).
ولكن ينبغي أن لا تتحول هذه الضرورة إلى غول يلتهم كل إمكانات المجال الحضاري الإسلامي، أو يعطل حركة الأمة صوب أهدافها الكبرى وتطلعاتها المستقبلية. فالدولة الإسلامية التاريخية، لم تبنى إلا بعد بناء الأمة، فهي المجال الاجتماعي ـ الحضاري الضروري لبناء الدولة. كما أنّ الإضافات النوعية التي أضافتها التجربة الإسلامية إلى التاريخ الإنساني، يرجع الفضل فيها إلى الأمة. إذ هي التي احتضنت إبداعات وجهود وجهاد المسلمين،وهي التي تحملت كل الصعاب في هذا السبيل. والدولة الحقة في عالم الإسلام، هي التي تنبثق من إرادة الأمة، بمعنى أن يكون قياماً لدولة ووظائفها ومشروعها السياسي، ليس على تناقض مع مقتضيات الشرع والمصلحة العليا للمسلمين. (والدولة لا تكسب الشرعية إلا بمقدار إنتمائها للأمة، وبمقدار ما تستطيع البرهان على أنّها تدافع عنها وتبذل الجهد لحل مشاكلها).
فالدولة وفق هذا المنظور، هي في حالاتها السوية مؤسسة من مؤسسات الأمة، لها أدوارها ووظائفها المحددة. ومع هذه المؤسسة (الدولة) تحتضن الأمة مؤسسات أخرى، وتمارس وظائف وأدوار عديدة، تتكامل في المحصلة الأخيرة مع أدوار ووظائف مؤسسة الدولة.
وانشقاق وابتعاد الدولة عن الأمة، يخرجها من كونها مؤسسة من مؤسسات الأمة، وذلك لأنّ انشقاقها وخروجها عن الأمة، يعني فيما يعني أنّ الدولة تقوم بأدوار أو تمارس خيارات ليست من خيارات الأمة. ويمكننا القول تاريخياً بأنّ مرحلة ما بعد صفين، هي المرحلة التي تبلور في المجال العربي والإسلامي للدولة مشروع خاص، وهو مشروع الاستحواذ والقمع بعيداً عن مصالح الأمة الحقيقية وشؤونها العليا. (إنّ المشروع السياسي للإسلام هو تكوين الجماعة/ الأمة. فهي الإطار الوحيد الذي يمكن أن يمارس الفرد فيه شعائر الدين كاملة. وهي المجال الوحيد لتحقيق الدين. وإن كانت مفارقة سخيفة أن نقول إنّ الدين لا يمكن تحقيقه خارج الجماعة لكنها حقيقة بديهية ربما يتناساها الكثيرون من الذين يعتبرون أنّ الدين، خاصة الإسلام، يمكن تحقيقه على الصعيد الفردي المحض. هذه التجربة حاولتها الصوفية لكنها تحولت عنها بعد فترة من الزمن. فقد بدأت الصوفية كأسلوب فردي في التعبير والاتصال بالله لكنها تحولت مع مرور الزمن إلى ممارسات جماعية وصارت طرقاً جماعية).
واختلاف المسلمين التاريخي لم يكن حول الأمة ودورها التاريخي والحضاري، ولا حول ضرورة الدولة وأهميتها للتجربة الجديدة، وإنما حول عملية إنشائها، وطريقة ممارستها لأدوارها في الأمة على الصعيد الداخلي والخارجي، ومن أين تستمد شرعيتها وسلطتها، فالإطار المرجعي لكل المسلمين مع اختلافاتهم وتباين وجهات نظرهم بعد انتقال رسول الله (ص) إلى الرفيق الأعلى لم يكن الدولة وإنما الأمة.
وهذا ما يفسر لنا صمت الإمام علي بن أبي طالب (ع) عن حقوقه لمصلحة بقاء الأمة واحدة ـ متحدة. إذ يقول: (لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، والله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه).
ولقد كان لقيم الأخوة والمساواة والتعاون والتكافل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومؤسسات العلم والمعرفة والخير، وجهاد وجهود الفقهاء والعلماء والمصلحين دور مركزي في تثبيت مرجعية الأمة، وأنّها صاحبة الصوت الأعلى في التجربة التاريخية الإسلامية. ومن خلال هذه القيم والمؤسسات كانت الأمة تؤكد ذاتها، وتعمل على تنفيذ مشروعها الحضاري، وتحصين كيانها في مواجهة أخطار الدولة المنحرفة، المستبدة، والأخطار القادمة إلى الأمة من الخارج.
ـ الأمة والمجتمع السياسي:
إنّ الأمة في التجربة الإسلامية التاريخية، كانت تحتضن العديد من القوى الاجتماعية والسياسية، وقد أعلنت هذه القوى عن نفسها في زمن الرسول (ص) بصورة سلمية، تحافظ على وحدة المسلمين، وتخضع جميعاً إلى رمز هذه الوحدة وهو رسول الله (ص). إلا أنّه وبعد انتقال رسول الله (ص) إلى الرفيق الأعلى، أعلنت هذه القوى عن نفسها بطرق مختلفة ومتناقضة، وأدت فيما أدت إليه إلى انقسام في جسم الأمة الإسلامية من جراء تباين آراء وخيارات المجتمع السياسي للمسلمين، والذي كان يتشكل من مجموع القوى المتوفرة في الساحة.
فالأمة التي صنعها الإسلام ومنذ بداية انطلاقته الكبرى، كانت تحتضن مجتمعاً سياسياً، تطور بتطور حركة الإسلام في العالم، ومن رحم المجتمع السياسي انبثقت الدولة في التجربة السياسية الإسلامية. لذلك نجد دستور (المدينة)، عبارة عن مشروع سياسي شامل، يسعى نحو استيعاب كل الأطياف والقوى الدينية والقبلية والسياسية الموجودة في المدينة المنورة، مشكلاً منهم المجتمع السياسي الجديد، القائم على قواعد دستورية واضحة، لهذا فإنّ هذا الكتاب (الدستور أو الوثيقة) يعتبر المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.. فهو يعتبر جميع هؤلاء: أمة واحدة من دون الناس. ويظهر من هذه الوثيقة، وجود رغبة أكيدة عند رسول الله (ص) لخلق نمط جديد من العلاقات بين الأفراد الذين يعيشون في مجتمع واحد.
وفي زمن الفتنة والانقسامات الداخلية التي حدثت في التجربة الإسلامية وبالذات في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، نجد أنّ الإمام علي بن أبي طالب وحرصاً منه على سلامة الأمة ووحدتها، وإيمانه العميق بالأمة ودورها في العمران الحضاري، يتجه صوب الأمة، يحافظ على وحدتها، يعمل ويجاهد على استمرارية نهجها الحضاري، ويسعى نحو تجميع أطرافها وقواها. وفي تقديرنا أنّ الإمام علي بن أبي طالب بعمله هذا، استطاع أن يحد من الآثار السلبية والخطيرة على الأمة الإسلامية، من جراء الفتنة والانقسامات التي حدثت في التاريخ الإسلامي. فكان هو ضمير الأمة ووجدانها الحي، الذي عمل على وأد الفتنة وإخماد نار وأسباب الحرب الأهلية (35 ـ 41هـ).
ففي زمن التغييب القسري والإقصاء المتعمد للقيادة الشرعية في الأمة، كانت الأمة وبكل جدارة واقتدار، هي حارسة الدين وسائسة الدنيا. وبجهادها أفشلت في بعض الحقب التاريخية مؤامرات الدولة المستبدة، المتجهة إلى تقويض الأمة من الداخل، وفي حقب أخرى تمكنت الأمة من الحد من الآثار السيئة المترتبة على استبداد الدولة وغطرستها. فالعديد من الوقائع الصدامية في العالم العربي والإسلامي، بين الدولة والمجتمع، ترجع في جوهرها إلى ابتعاد ومعاداة الدولة لخيارات الأمة السياسية. وهذه المعاداة تؤدي إلى انفصال تام بين الأمة والدولة، وتصبح إمكانيات الدولة وآلياتها موجهة ضد الأمة، تسعى نحو تفتيت قواها، وزرع الشقاق في محيطها، وحرف مساراتها الحضارية.
فالجولة المستبدة عملت على إفراغ الداخل الإسلامي، من كل مقومات النهوض الحقيقي، وحاربت كل القوى الحية في الأمة، وذلك من أجل أن تسهل عملية قيادة الأمة والتحكم في مصائرها. (إنّ التجربة التاريخية لأمتنا ما خلت من سلطة بل من دولة. لكن تلك الدولة شكلاً ومضموناً ظلت أداة لتحقيق أهداف الأمة الكبرى. وقد جمع الفقهاء السمتين الرئيسيتين للدولة المرجوة في مصطلحي: الكفاية والشوكة، الكفاية في الداخل، والشوكة في مواجهة الخارج. وقد بلغت السلطة اليوم على أرضنا حداً لم تعد تحقق عنده أياً من هذين الأمرين. وحركية مجتمعاتنا الآن باتجاه التغيير، واستنباط الوسائل الكفيلة بإعادة الأمور إلى نصابها، والسلطة إلى سياقها الاجتماعي: سياق الكفاية والشوكة. أما المستمر الآن بمعزل عن المجتمعات فهو البقاء البائس من أجل البقاء!).
إنّ الوهن الحقيقي الذي أصاب التجربة السياسية الإسلامية، وأدخلها في أتون النزاعات والانقسامات الداخلية، هو في انفصال مشروع الدولة عن مشروع الأمة، وفي سعي السلطة المستميت لإقصاء قوى الأمة ومنعها من التعبير عن آرائها ومواقفها ومشروعاتها الاجتماعية والسياسية والثقافية والحضارية. ومن جراء هذا الانفصال أضحى المجتمع السياسي (أو النخب السياسية في العالم الإسلامي آنذاك) منقسمة على نفسها، ودخلت مع بعضها في صراعات وانقسامات أثرت أيما تأثير على مسار الأمة الحضاري. فالدولة المتطابقة مع مفهوم الأمة، تشكلت من صميم الدعوة الإسلامية الجديدة، ولم تضع نفسها خارج إطار الدعوة الإسلامية حين خرجت إلى الوجود في مدينة الرسول (ص) لقد جاءت (كرد على حاجة تحقيق الدين الجديد). (والحقيقة المجتمعية المطلقة ـ والحقيقة التنظيمية المطلقة ـ في الإسلام هي حقيقة الأمة التي كونها الإسلام وتكونت به وصنعت تاريخها به، وتاريخ الإسلام في الحقيقة إذا حذفنا منه تاريخ الأمة، فإنّ الدولة الإسلامية التي تعاقبت على هذه الأمة لا يبقى لها شيء على الاطلاق).
(وإذا حررت الأمة نفسها من الاستبداد والقهر السياسي، فخط الخلافة ينتقل إليها، فهي التي تمارس القيادة السياسية والاجتماعية في الأمة بتطبيق أحكام الله وعلى أساس الركائز المتقدمة للاستخلاف الرباني. وتمارس الأمة دورها في الخلافة وفي الإطار التشريعي للقاعدتين القرآنيتين التاليتين: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى/38)، (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (التوبة/71).
إنّ النص الأول يعطي للأمة صلاحية ممارسة أمورها عن طريق الشورى، ما لم يرد نص خاص على خلاف ذلك. والنص الثاني يتحدث عن الولاية وان كل مؤمن ولي الآخرين، ويريد بالولاية تولي أموره بقرينة تفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه، والنص ظاهر في سريان الولاية بين كل المؤمنين والمؤمنات بصورة متساوية. وينتج عن ذلك الأخذ بمبدأ الشورى، وبرأي الأكثرية عند الاختلاف.
إن الأمة تسعى وتكافح وتجاهد، حتى تتشكل دولتها، التي تحمل على عاتقها أهداف الأمة ومطامحها الكبرى.
قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران/110).
المصدر: مجلة الكلمة/العدد22/1999م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق