• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحياء والعفاف.. زينة المؤمن

أسرة البلاغ

الحياء والعفاف.. زينة المؤمن

«ها أنا ذا يا إلهي.. سائلك على الحياء مني سؤال البائس المعيل... اللهم واجمع لي.. العفاف.. اللهم.. جيراني وموالي العارفين بحقنا والمنابذين لأعدائنا.. وفقهم.. للأخذ بمحاسن أدبك في.. ستر عوراتهم واجعلني اللهم أغض بصري عنهم عفة».

الصحيفة السجادية  

أ - في رحاب الدعاء:

صفتان هامتان للإنسان المؤمن، يشير إليهما الإمام السجاد (ع) ويؤكد عليهما هما: الحياء الذي هو سبب إلى كلِّ جميل ومفتاح كلّ خير، والعفاف الذي هو أفضل العبادة ونعم القرين، وما من شك أنّ هاتين الخصلتين في رأس سلسلة مكارم الأخلاق ومن أعظم العوامل المساعدة على رقي النفس في مدارج الكمال والسداد، وفي المقابل فاقد الحياء مذموم ذماً شديداً على لسان أهل البيت (عليهم السلام) حتى كما ورد عن مولانا الصادق (ع): «لا إيمان لمن لا حياء له»، وعن مولانا الباقر (ع): «الحياء والإيمان مقرونان في قرن، فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه» أي انه كلما فقد الإنسان الحياء فقد الإيمان وكلما فقد الإيمان فقد الحياء، فلا يكون أحدهما موجوداً دون الآخر، فهما إما موجودان معاً أو مفقودان معاً وأما الحثّ على العفاف فهو كثير إضافة إلى ما نزل في الكتاب الكريم فقد جاء عن أمير المؤمنين (ع): «ألا وإنّ لكلِّ مأمومٍ إماماً يقتدي به ويستضي‏ء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد».

وعنه عليه السلام في بيان منزلة العفيف وعظم شأنه: «ما المجاهد الشهيد في سبيل اللَّه بأعظم أجراً ممن قدر فعفّ، لكاد العفيف أن يكون ملكاً من الملائكة».

ب - ما المقصود من الحياء والعفاف؟

الحياء: ملكة للنفس توجب انقباضها عن القبيح وانزجارها عن خلاف الآداب خوفاً من اللوم.

والعفاف: ترك المحرمات بل الشبهات أيضاً ويطلق غالباً على عفة البطن والفرج، والعفة حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة وتجعلها منقادة للعقل في الاقدام على ما يأمرها به من الطعام والشراب والنكاح والاجتناب عما ينهاها عنه، وهو الاعتدال الممدوح عقلاً وشرعاً، وطرفاه من الافراط والتفريط مذمومان.

يقول الرسول الأكرم (ص): «ثلاث أخافهن على أمتي من بعدي: الضلالة بعد المعرفة، ومضلاّت الفتن، وشهوة البطن والفرج».

ومما روي أنه قال رجل للإمام الباقر (ع): «إني ضعيف العمل قليل الصيام ولكني أرجو أن لا أكل إلا حلالاً، قال: فقال له: أي الاجتهاد أفضل من عفة بطن وفرج»؟!.

ج - متى يكمل الحياء؟

حتى نجيب عن هذا السؤال لا بد لنا أن نستعرض أنحاء الحياء وهي ثلاثة:

النحو الأول:

حياء الإنسان من اللَّه تعالى: والباعث عليه العقل السليم والشرع المبين وحيث يرى اللَّه سبحانه أحق بأن يستحي منه لعظمة عزته وجزيل  نعمته، قال النبي (ص): «قلة الحياء كفر وهذا الحياء يدعو إلى امتثال ما أمر اللَّه عزّ وجلّ به، وترك ما نهى عنه فتحصل بذلك السعادة الأبدية». وهذا معنى قوله (ص): «الحياء نظام الإيمان فإذا انحل نظام الشي‏ء تبدّد ما فيه وتفرّق»، وقيل له (ص): «كيف نستحي من اللَّه حق الحياء»؟ فقال (ص): «من حفظ الرأس وما حوى والبطن وما وعى ورفض زينة الحياة الدنيا وذكر الموت والبلى فقد استحى من اللَّه حق الحياء».

النحو الثاني:

حياء الإنسان من الناس: وهو يبعث على كف الأذى وترك المجاهرة والمواجهة بالقبيح لهم.

يقول مولانا العسكري (ع): «من لم يتق وجوه الناس لم يتق اللَّه».

وفي الحديث أيضاً: «من لم يستحِ من الناس لم يستح من اللَّه سبحانه».

ويجسّد هذا النحو من الحياء قول الشاعر:

ورب قبيحة ما حال بيني         وبين ركوبها إلا الحياء

إذا رزق الفتى وجهاً وقاحاً       تقلّب في الأمور كما يشاء

النحو الثالث:

حياء الإنسان من نفسه: وهو يبعث على العفة، والمحافظة على الأحكام الشرعية في الخلوات وحيث يكون سرّه كعلانيته ويكون اللَّه حاضراً في نفسه وناظراً إليه دائماً يكون الخير كلّه معه.

لذلك قال مولى المتقين (ع): «أحسن الحياء استحياؤك من نفسك».

وعنه (ع): «من أفضل الورع أن لا تبدي في خلوتك ما تستحي من اظهاره في علانيتك».

قال بعضهم:

فسرّي كإعلاني وتلك خليقتي        وظلمة ليلي مثل ضوء نهاري‏

إذا اتضحت الأنحاء الثلاثة للحياء أصبح بإمكاننا الجواب عن السؤال المطروح في بداية هذه الفقرة وهو أنّ الإنسان يكمل حياؤه حين يستحي من اللَّه تعالى والناس ونفسه التي بين جنبيه، حينئذٍ يمكن أن يقال أنه قد كملت فيه أسباب الخير وانتفت عنه أسباب الشر.

د - الحياء الممدوح والحياء المذموم:

الحياء الممدوح هو الاستحياء من الأمر القبيح كالسباب والإهانة والحياء المذموم هو الاستحياء من الأمر الحسن أو الواجب كمن يحتلم ثم لا يغتسل استحياءً من أهله في البيت مخافة أن يعرفوا بذلك، وكمن يستحي من السؤال عن واقعة محل ابتلاء له خوفاً من أن يعرف صاحبه بأنه جاهل بالمسألة وقد وردت روايات تشير إلى الحياء القبيح الذي من هذا القبيل.

قال رسول اللَّه (ص): «الحياء حياءان: حياء عقل وحياء حمق، فحياء العقل هو العلم وحياء الحمق هو الجهل».

هـ - لا حياء في ثلاث:

هناك أمور لا يجمل فيها الحياء وليس مرغوباً فيه عدّدها أمير المؤمنين (ع) في قوله: «ثلاث لا يُستحى منهن: خدمة الرجل ضيفه، وقيامه عن مجلسه لأبيه ومعلمه، وطلب الحقّ وإن قلّ».

وعنه (ع): «من استحى من قول الحق فهو أحمق».

و - علاقة الحياء بالعفاف:

يجيبنا أمير المؤمنين (ع) قائلاً: «سبب العفة الحياء على قدر الحياء تكون العفة».

فالحياء إذن سبب العفاف، وطالما كان الحياء كاملاً من الأنحاء الثلاثة المتقدمة كانت العفة موجودة حيث تدور مداره وبهذا تبيّن وجه جمع الاثنين في درس واحد.

ز - آثار الحياء والعفاف:

 أما آثار الحياء فيقول النبي الأكرم (ص) في تعدادها: «أما الحياء: فيتشعب من اللين والرأفة والمراقبة في السر والعلانية والسلامة، واجتناب الشر، والبشاشة والسماحة والظفر، وحسن الثناء على المرء في الناس، فهذا ما أصاب العاقل بالحياء، فطوبى لمن قبل نصيحة اللَّه وخاف فضيحته».

 وأما آثار العفاف فهي كما في حديثه (ص): «أما العفاف: فيتشعب منه الرضا والاستكانة والحظ والراحة والتفقد والخشوع والتذكر والتفكر والجود والسخاء فهذا ما يتشعب للعاقل بعفافه رضى باللَّه وبقسمه اللهم ألبسنا الحياء فإنه أحسن ملابس الدنيا، وألبسنا العفاف فإنه أفضل شيم الأشراف، واحمنا عن موبقات الردى واجعل سعينا فيما ترضى يا أرحم الراحمين».

 

خلاصة

أ - الحياء جوهره الإيمان وهو تمام الكرم وأحسن الشيم وسبب للعفاف الذي هو أفضل العبادة وعلى قدره تكون القناعة.

ب - الحياء هو ترك القبائح مخافة اللوم والعذاب، والعفاف هو الانتهاء عن المحرمات والشبهات خصوصاً ما يتعلق بالأجوفين البطن والفرج.

ج - يكمل الحياء إذا كان في أنحائه الثلاثة مع اللَّه تعالى ومع الناس ومع النفس.

د - الحياء المذموم هو ترك الأمر الحسن خشية الناس وهو حياء الحمق.

هـ - لا ينبغي الحياء في خدمة الضيف وإكبار الأب والمعلم، وطلب الحق اليسير.

و - الحياء سبب العفاف وهو يدور مداره شدة وضعفاً.

ز - للحياء والعفاف آثار عدّدها النبي (ص) منها: «اللين والرأفة والسلامة والظفر في الأول، والرضا والراحة والتفكر والتذكر في الثاني».

قال تعالى: «وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم اللَّه من فضله».

عن أمير المؤمنين (ع): «من عفّت أطرافه حسنت أوصافه».

قصة ذات عبرة

الغلام يعطي الكلب خبزاً!

ذهب الإمام الحسين (ع) ذات يوم مع أصحابه إلى بستانه، وكان في ذلك البستان غلام اسمه «صافي» فلمّا قرب من البستان رأى الغلام قاعداً يأكل خبزاً، فنظر الحسين إليه وجلس عند نخلةٍ مستتراً لا يراه وكان يرفع الرغيف فيرمي بنصفه إلى الكلب ويأكل نصفه الآخر، فتعجّب الحسين من فعل الغلام، فلمّا فرغ الغلام من أكله قال: الحمد للَّه رب العالمين، اللهم اغفر لي، واغفر لسيّدي، وبارك له كما باركت على أبويه، برحمتك يا أرحم الراحمين.

فقام الحسين (ع) وقال: يا صافي! فقام الغلام فزعاً وقال: يا سيّدي وسيّد المؤمنين! إنّي ما رأيتك. فاعفُ عنّي. فقال الحسين (ع): اجعلني في حلٍّ يا صافي لأنّي دخلت بستانك بغير إذنك. فقال صافي: بفضلك يا سيّدي وكرمك وبسؤددك تقول هذا. فقال الحسين: رأيتك ترمي بنصف الرغيف للكلب، وتأكل النصف الآخر، فما معنى ذلك؟ فقال الغلام: إنّ هذا الكلب ينظر إليّ حين آكل، فأستحي منه يا سيّدي لنظره إليّ، وهذا كلبك يحرس بستانك من الأعداء، فأنا عبدك وهذا كلبك، فأكلنا رزقك معاً. فبكى الحسين وقال: أنت عتيق للَّه، وقد وهبت لك ألفي دينار بطيبةٍ من قلبي، فقال: إن أعتقتني فأنا أريد القيام ببستانك، فقال الحسين: إنّ الرجل إذا تكلّم بكلام فينبغي أن يصدّقه بالفعل، فأنا قد قلت دخلتُ بستانك بغير إذنك. فصدّقت قولي ووهبت البستان وما فيه لك، غير أنّ أصحابي هؤلاء جاؤوا لأكل الثمار والرطب، فاجعلهم أضيافاً لك، وأكرمهم من أجلي وأكرمك اللَّه يوم القيامة، وبارك لك في حسن خلقك وأدبك. فقال الغلام: إن وهبت لي بستانك فأنا قد سبّلته لأصحابك وشيعتك‏.

 

ارسال التعليق

Top