عماد سامي سلمان
◄"يمكن تعريف اللاعنف على أنّه السعي إلى وحدة الحياة ما بين عواطفنا وأفكارنا وبين أعمالنا".
إنّ الإيجابيّة ومسلك اللاعنف لا يعني أنّه لا يجب القيام بفعلٍ ما تجاه السلبية والعُدوانية والظُلم الذي يمارس علينا، بل على العكس، علينا العمل لتطوير الصفاء الداخليّ عندنا لنتعاطى بشكل صحيح مع الظُلم والعدوانيّة. فكما يقول بوذا "لا تُحَلُّ مشكلة البُغض بالبُغض، بل بإلغاء البُغض نفسه".
لا يمكننا حلُّ أيّة مشكلة في حياتنا من خلال البُغض والكراهيّة. فعلى العكس من ذلك، إنّهما يساعدان في تفاقم المشاكل وتعقيدها أكثر فأكثر، وإغلاق السُبُلِ كافّة التي تؤدِّي إلى حَلِّ هذه المشاكل.
المعروف أنّ هنالك ثلاث وسائل للتصدِّي ولمواجهة حالات الظُلم والعُدوانيّة وهي:
- القضاء على الظالم أو الجلَّاد.
- القضاء على المظلوم أو الضحيّة.
- القضاء على الظُلم والعدوانيّة.
إنّ القضاء على الظلم والعدوانية عن طريق المذهب اللاعنفي في الحياة هو الطريق الأصحُ والأقلُّ ضرراً. فالمذهب اللاعنفي لا يعني فقط مَنع أنفسنا من استخدام العُنف كوسيلة للتعامل مع الآخرين، بل يعني أيضاً مَنع الآخرين (بوسائل لاعُنفيَّة) من استخدام العُنف كوسيلة للتعامل معنا. وهذا شيء أساسي ومبدأيٌّ. لقد أثبت لنا المهاتما غاندي صحَّة المذهب اللاعنفي وفاعليّتَه من خلال ممارسته السياسية والعقائدية المبنية على هذا المذهب، والتي ساهمت إلى حدٍّ كبير في تحرير بلاده من الاستعمار البريطاني الذي كان يُشكِّل أعظم قوّة عسكرية في العالم في ذلك الوقت. فلو استخدم العُنف للتحرُّر من الاستعمار البريطاني، ربّما كان هذا الاستعمار يتربَّع مرتاحاً في الهند إلى هذه الأيّام. لذلك، لا يجب ممارسة العُنف مع أيّ كان.
عندما نقوم باستخدام العُنف مع من يَفُوقنا قوّة، نكون قد شرَّعنا له استخدامه للعنف ضِدّنا، وعنفه قد يفوق أساليبنا العُنفيّة بأضعاف. فبذلك نكون قد ساهمنا في هزيمتنا وخسارتنا على طريقته التي يَبْرَعُ فيها، لأنّ جوهر قوَّته وجبروته مبنيّ بشكلٍ أساسي على مبدأ العُنف والقوّة. أمّا إذا قُمْنا باستخدام أساليب لا عُنفيّة مُبتكرة، فقد نتساوى معه في اللعبة، وقد نتغلَّب عليه، لأنّ من يبني استراتيجيّة التعاطي مع الآخرين على مبدأ القوّة والعُنف يُحرَج، ويَرتَبِك، ويقع في أخطاء عديدة عندما نواجِهه بأساليب قد لا يكون بارعاً في مواجهتها، وربَّما تتسبَّب في هزيمته على طريقتنا التي نَبْرَعُ فيها نحن وليس هو.
في الحقيقة، إنّ الأمر ليس كما هو مُتعارَفٌ عليه وسائد عندنا بأنّ "الغاية تبرِّر الوسيلة"، بل على العكس من ذلك، إنّ "الغاية لا تبرِّر الوسيلة"، فإذا كانت الغاية شريفة، يجب أن تكون الوسيلة شريفة أيضاً. ومن كان هدفه نبيلاً، يجب أن تكون طُرُق الوصول إلى هذا الهدف نبيلة أيضاً. فإذا كُنّا نريد إزالة الظُلم والعُنف، يجب أن نسلك طرق العدالة واللاعُنف، وليس الطرق التي يشوبها ظُلْمُنا ويسودها عُنفُنا تجاه الآخرين.
يقول بول ريكور: "يجب أن لا نُخدَع بوجهة العُنف والغاية التي يصبو إليها ضمنيّاً أو صراحة، مباشرة أو بطريقة غير مباشِرة، فالعُنف يعني موت الآخر أو شيئاً ما أسوأ من موته". ويقول الدالاي لاما في هذا المجال: "إذا كانت هنالك أسباب عقلانيّة ومنطقيّة لما تطلبه، فلا لزوم لاستخدام العُنف. إنّ استخدام العُنف لا يعني تعبيراً عن القوّة، بل يعني تعبيراً عن الضعف والفشل. ففي حياتنا العادية عندما نناقِش بمنطق وَرُقِيّ، لا لزوم لظهور الغضب. ونستطيع مناقشة جميع النقاط بسلام ومنطق. فعندما ينتهي استخدام العقل يبدأ الغضب. فذلك يعني أنّ الغضب هو ضَعف".
إنّ الحقد والغضب هُمَا طاقة العُنف، ويشكِّلان تأثيراً مدمِّراً وفوريّاً واضحاً جدّاً. فمثلاً، عندما نشعر بغضب شديد، تظهر عندنا نتائج هذا الشعور بشكل فوري، كتدمير سلامنا الداخليّ، وتدمير سيطرة العقل علينا. وما إن يدخل هذا الشُّعور إلى داخلنا، حتى يحرمنا النوم والشهيّة، ويجعلنا متوتِّرين غير قادرين على التركيز والتوازن.
وهذا ما يُصوِّره، وبشكلٍ جميلٍ، بوذا في إنجيله: "إنّ حامل البُغض هو كحامل جمرَة مشتعلة ينوي أن يرميها على شخص ما. إنّ حامل هذه الجمرَة هو الذي يتأذَى".
"إنّ الوضع الاجتماعي والثقافي الذي يُثقِل كواهلنا منذ قرون، والذي جعلنا نعتقد بأنّ العُنف ليس ضروريّاً فحسب، إنّما يستحقُّ التمجيد أيضاً، إذ إنّ كلّ الإيديولوجيات التي هَيْمنت على مجتمعاتنا، مَجَّدَت العُنف عندما ربطته بجملة من القِيَم والفضائل، مثل الشجاعة والجرأة والتضحية والرجولة والنبل والشرف والعدالة والحرِّية... بحيث بدا العُنف بحدِّ ذاته في وعينا لا بل في وعينا الباطن أيضاً، فضيلةً وقيمة، وبحيث بدا اللاعُنف نَفْيَاً لهذه الفضيلة وإنكاراً لها. وإذا كُنّا نعتقد حقّاً بأنّ العُنف هو فضيلة الإنسان القويّ، فإنّ اللاعنف لا يمكن أن يكون إلا ضعف الإنسان الذي تعوزه الشجاعة ليكون عنيفاً. وإذا كان العُنف فضيلة، فإنّ اللاعُنف يَغدو جُبْنَاً".
فإذا دقَّقنا في آليّة ظهور العُنف عندنا، نرى أنّه غالباً ما تكون قد بُنِيَتْ على شعورنا بالأذى، بالظُلم، ... إلخ وبأنّنا عُومِلنا بطريقة سيِّئة مخالفة لما كنّا نتوقَّعه. فالجرح المادي، الذي حصل نتيجة ممارسة العُنف ضِدّنا، لا يمكن شفاؤه بالانتقام، ولا باستخدام العُنف لمنع الضرر، لأنّ الجرح قد حصل فعلاً. وفي الحقيقة، إذا كانت ردَّة فعلِنا سلبية وغير عاقلة، فلا يمكننا من تحصيل فوائد فوريّة، ولكن أيضاً نكون قد بثّينا مشاعر وأفكاراً سلبية تكون سبباً لمشاكل مستقبليّة قد تواجهنا.
إنّ فكرة الانتقام سوف تكون مقدِّمة لجذب كارما سلبيّة على المنتَقِم، وبذلك لا يمكن ربح أيّ شيء من خلال الانتقام بل مفاقمة الضرر بالضرر.
فاستخدام العُنف لا يولِّد إلا العُنف المُضادّ. فالشَّخص الذي انتقمنا منه سوف يعود لينتقم منّا بشتّى الوسائل، ما يُجبرنا على توجيه انتقامات متبادلة بيننا وبينه، وندخل معه في دوّامة الانتقام – والانتقام المضادِّ، الحقد – والحقد المضادِّ إلى ما لا نهاية. وفي معظم الأحيان، لن ينتصر أيّ طرف، بل إنّ كلا الطرفين يتشاركان الخسائر، لأنّ الضرر الجسديّ، الفكريّ، والرُّوحي قد حلَّ بهما.
لنراقِب مثلاً، ماذا نجَنَيْ من خلال القتل والقتل المضادِّ، الحقد – والحقد المضادِّ، أو الانتقام – والانتقام المضادِّ. فعندما نغضب ونكره، نكون قد عَرَّضنا أنفُسنا بسرعة فائقة لتحوُّلات فيزيولوجيّة، فكريّة، نفسيّة، وروحيّة كبيرة ذات صفة سلبيّة، وتُلحق الضرر وبشكل واضح على كلّ هذه المستويات. فحين يسيطر الغضب، ينحسر فعل العقل والحكمة واتِّخاذ الأحكام والقرارات المناسبة والصحيحة، ونتصرَّف عندها بطريقة جنونيّة تؤدِّي غالباً إلى نتائج قد نندم عليها فعلاً. إنّ معظم جرائم القتل ومعظم حالات استخدام العُنف الفكري والجسديّ، هو نتيجة سيطرة الغضب والبَغض.
إنّ أهم عِلاج للغضب الذي يحرِّك العُنف، هو الحكمة والصَّبر. فكما يقول المَثَل "عِدْ للعَشرة". البعض منّا يعتبر أنّ الصبر هو نتيجة طبيعية للضعف، لكن بالحقيقة، إنّ الصبر هو نتاج إيجابي للقوة الداخلية ولنقاء الفكر المبني على الحُبّ. فالمحرِّكان الأساسيّان للصبر، هما المعرفة والحبّ. "فالصّبر مفتاح الفرج". وقد يبدو للوهلة الأولى أنّ الصبر ليس له صِفَة إيجابيّة، ولكن إذا نظرنا إليه كفرصة تسمح لنا بالتفكير العقلاني قبل أن نسمح لمشاعرنا السلبيّة من السيطرة والتحكُّم في قراراتنا وتصرُّفاتنا وردّات فعلنا، تظهر جليّاً أهميّة الصبر الإيجابيّة. "إنّ الله مع الصابِرِين".
(.. وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة/ 155-156).
هنالك طبيعتان للعقل:
- العقل المُنْفَعِل (Reactive Mind).
- العقل الفاعِل (Active Mind).
يأخذ العقل المنفعل قراراته طِبْقاً لانطباعاتنا العاطفيّة، والمعلومات التي نتلقّاها من الخارج، مثل النَّقد أو المديح، ونتفاعل معها، بحيث نتلقّاها أوّلاً في عقلنا المنفعل قبل وصولها إلى عقلنا الفاعل الذي تسيطر عليه العقلانيّة والمنطق والحرِّية في اتخاذ القرارات. فالعقل المنفعل يخضع لعواطفنا التي قد توصلنا أحياناً إلى القيام بأعمال قد نندم عليها أو لا نريدها، وقد تُسبِّب لنا أو لغيرنا الأذى المعنويّ، أو الجسديّ.
فالغضب هو حالة عاطفيّة تحدث نتيجة عدم السَّماح لعقلنا الفاعل بالتدخُّل لتحليل الصور الفكرية الواردة إلينا، بحيث تقف عند حدود العقل المُنفعل ولا تتجاوزه لتَصِل إلى العقل الفاعل للحكم عليها وإدراكها بواقعيّة وحكمة، قبل القيام بأيّ ردَّة فعل سلبيّة.
المصدر: كتاب مِن مُسَيَّر... إلى مُخَيَّر/ كيف ننتصر في معركة الحياة
ارسال التعليق