• ١٣ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ١١ جمادى الأولى ١٤٤٦ هـ
البلاغ

القضاء والقدر.. مصدر قوة نفسية

عبدالمنصف محمود عبدالفتاح

القضاء والقدر.. مصدر قوة نفسية
◄يزعم بعض المستشرقين أنّ عقيدة القضاء والقدر عند المسلمين تعتبر مصدر ضعف لهم في حياتهم العملية؛ لأنها تحد من طموحهم، وتشل حركتهم في كثير من كبير الأعمال التي من شأنها لو قاموا بها أن تنهض بهم، وتسوقهم إلى المستقبل الزاهر والعيش الرخي الرغيد.

وفاتهم انّ الإسلام هو الدِّين الوحيد الذي جاء عقب تأسيس دولته، بالفتوحات الواسعة العجيبة، والحضارة السامقة العظيمة..

ومما يؤسف له أيضاً، أنّ بعض من ينتمون إلى الإسلام، يتخذون من عقيدة القدر، مبرراً لإرتكاب المعاصي والموبقات، أو ترك بعض الواجبات، أو السير وراء الأهواء والشهوات.

إنّ كلمة إسلام، تعني الامتثال لأوامر الله تبارك وتعالى، والرضا بقضائه، والوقوف عند الحدود التي رسمها لعباده... ولكن ليس من معانيها، التخاذل والاستسلام إنّه مصدر قوة نفسية لا تضارع، بالنسبة إلى المسلم، تعينه على احتمال المحن والشدائد، وتدفعه إلى حياة المجد والعظمة والعزة والكرامة..

ثم أليس الإسلام، هو دين النشاط والعمل، والحركة الدائبة، والكفاح المستمر، والجهاد المتواصل؟..

إذاً فما هو القدر الذي يجب علينا، أن نعرفه كعقيدة إيمانية؟

القدر: هو ميزان الله الأكبر، الدال على علمه الواسع، وسلطانه العظيم، وقدرته البالغة، ورحمته الشاملة وعدالته الكاملة..

ومعناه، انّ الله عزّ وجلّ: لا تصدر عنه أعمال إلّا بحساب دقيق، إن صح هذا التعبير، ونظام محكم بديع، وسير معروف أوله، معلوم نهايته فالله عزّ وجلّ، لم يخلق الأشياء عبثاً، ولم يدعها هملاً، بل قدر كلّ شيء تقديراً (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (القمر/ 49-50).. وقال الله تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (الحجر/ 21)، وقال جلّ شأنه: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) (الأعلى/ 1-3).

فالقدر: هو إرادة الله المسيطرة على الكون كله، المسيطرة على كلِّ دقيق من الدقائق، وكل تفصيلة من التفصيلات، لا شيء يحدث في الوجود مصادفة، ولا يحدث جزافاً بلا حساب.. (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (النحل/ 3).

القدر نؤمن به، ولا نحتج به، فمن ارتكب المعاصي واحتج بالقدر فحجته داحضة، ومن اعتذر بالقدر: فعذره غير مقبول، ولو كان الاحتجاج بالقدر مقبولا، لقبل من إبليس وغيره من العصاة، (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأعراف/ 16-18).

ولو كان القدر، حجة للعباد، لم يعذب الله أحداً من خلقه، لا في الدنيا ولا في الآخرة.. ولو كان القدر حجة، لم تقطع يد سارق، ولا اقتص من قاتل، ولا أقيم حد على ذي جريمة توجبه، ولا جوهد في سبيل الله، ولا أمر بالمعروف، ولا نهي عن المنكر... فلا يجوز لنا بحال من الأحوال: أن نجعل قضاء الله وقدره، حجة لنا في ترك أمر، أو فعل نهي!!

إنّ مبادئ الإسلام وتعاليمه، تقوم على أساس متين، لا مكان للمراء حوله هو حرية الإرادة فيما نفعل ونترك، فكل امرئ يعطى من الله الحكم العدل، الاختيار الذي يتوجه به إن أحب نحو الفضيلة أو الرذيلة، نحو الخير أو الشر، نحو الإيمان أو الكفر، قال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) (الكهف/ 29).

ولو انهدم هذا الأساس، ما كان هناك معنى لتكليف الناس بشيء قط، ولكانت رسالات الأنبياء والمرسلين: عبثاً لا طائل تحته، ولأمكن للإنسان: أن يعتذر إلى ربه، يوم البعث والحساب كأن يقول مثلاً، كيف أحاسب على شيء أكرهت على فعله؟ غير أنّ شيئاً من هذا لن يكون: لأنّ إرادة الإنسان مكفولة الحرية: تجاه ما تخاطب به، ولله الحجة علينا، بإنزال الكتب، وبعثه الرسل، قال تعالى: (رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) (النساء/ 165).

والقرآن الكريم، يعيب على الجبريين رأيهم، وينكر عليهم قولهم، الذي يبررون به شركهم!! (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ) (الأنعام/ 148)، في حين أنّه أثبت الكسب والاختيار في نحو: أربع وستين آية.. وكلّ ما جاء من آيات يوهم ظاهرها خلاف ذلك؛ فإنّما جاءت في تقرير السنن الإلهية العامة المعروفة، بالنواميس الكونية، كما في الآية: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود/ 118).

والإيمان بالقضاء والقدر: هو التصديق الجازم، بأنّ كلَّ خير وشر بقضاء الله وقدره.. وأنّه سبحانه هو الفعّال لما يريد، فلا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في الكون كله: شيء يخرج عن تقديره، ولا يصدر إلا عن تدبيره.. ومع ذلك فقد أمر الله جلّ شأنه العباد ونهاهم، وجعلهم مختارين لأفعالهم، غير مجبورين عليها، بل هي واقعة منهم، بحسب قدرتهم وإراداتهم، الله خالقهم وخالق قدرته يهدي من يشاء برحمته، ويضل من يشاء بحكمته، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون..

وإذا كان قد سبق القضاء والقدر، بالسعادة أو الشقاء، فلا يجوز الأخذ بالأسباب والاعتماد على ما سبق به القدر؛ فعلم الله سابق لا سائق.. والإيمان بالقدر، لا يمنع العمل، ولا يوجب الاتكال، بل يوجب الجد والاجتهاد، والحرص على الأعمال الصالحة؛ ولهذا لما اخبر النبي (ص) أصحابه بسبق المقادير وجريانها، وأنّ الأقلام قد جفت بها.. فقيل له: أفلا نتكل على كتابنا، وندع العمل؟ قال: لا، ولكن اعملوا، فكلّ ميسر لما خلق له.. أما أهل الشقاء فييسرون لعمل أهل الشقاء، وأما أهل السعادة: فييسرون لعمل أهل السعادة، قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) (الليل/ 5-10)، وروى مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله (ص) أنّه قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلِّ خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا، كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان"..

وقد سأل الإمام علياً (ع)، شيخ بعد انصرافه من "صفين" فقال: "أخبرني عن مسيرنا إلى الشام، أكان بقضاء الله وقدره؟ فقال: والذي خلق الحبة وبرأ النسمة وما وطئنا موطئاً، ولا هبطنا وادياً، ولا علونا قلعة، إلا بقضاء الله وقدره.. فقال الشيخ عند الله احتسب عنائي ما أرى لي من الأمر شيئاً، فقال له: مه أيها الشيخ عظم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم: مكرهين، ولا إليها مضطرين، فقال الشيخ: فكيف ساقنا القضاء والقدر؟ قال: ويحك لعلك ظننت قضاء مجبراً وقدراً قاسراً، لو كان ذلك لبطل الثواب والعقاب، والوعد والوعيد، والأمر والنهي، ولم تأت لائمة من الله لمذنب، ولا محمدة لمحسن ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء، ولا المسيء أولى بالذم من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان، وجنود الشياطين، وشهود الزور، وأهل العمى عن الصواب، وهم قدرية هذه الأُمّة ومجوسها، إنّ الله أمر تخييراً، ونهى تحذيراً، وكلف يسراً، لم يعص مغلوباً، ولم يطع مستكرهاً، ولم يرسل الرسل إلى خلقه عبثاً، ولم يخلق السماوات والأرض، وما بينهما باطلاً!! (ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (ص/ 27).

وقال الإمام الرضا: "إنّ الله هو المالك لما ملكهم، والقادر على ما أقدرهم، فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صاداً، وإن ائتمروا بمعصية، فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يحل وفعلوا، فليس هو الذي أدخلهم فيه".

والرضا بالقضاء هو التسليم وسكون القلب وطمأنينته والقضاء، الذي هو وصفه تعالى وفعله القائم بذاته كلّه خير وعدل وحكمة..

ولعلماء المعتزلة في هذا البحث: كلام نفيس؛ حيث يقولون في قول الله تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقرة/ 28).

هذه الآية، تدل على أنّ الكفر من قبل العباد من عدة وجوه:

أحدها: أنّه تعالى لو كان هو الخالق للكفر فيهم لما جاز أن يقول لهم: "كيف تكفرون" توبيخاً لهم، كما لا يجوز أن يقول: كيف تسودون وتبيضون وتصحون وتسمعون، لما كان ذلك أجمع من خلقه فيهم..

ثانيها: إذا كان خلقهم أولاً للشقاء والنار، وما أراد بخلقهم إلا الكفر، وإرادة الوقوع في النار.. كيف يصح أن يقول موبخاً لهم، "كيف تكفرون بالله"؟

وثالثها: أنّه كيف يعقل من الحكيم أن يقول لهم: "كيف تكفرون بالله" والحال إن خلق الكفر فيهم.

ويقول: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا) (الإسراء/ 94)، والحال أنّه منعهم عن الإيمان ويقول: (فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (الإنشقاق/ 20). (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) (المدثر/ 49-51).

وهو يخلق فيهم الأعراض، ويقول: (فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (يونس/ 32)، (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (يونس/ 34)، ويخلق فيهم الصرف والإفك.. ومثل هذا الكلام بأن يعد من السخرية، أولى من أن يذكر في باب الزام الحجة على العباد..

رابعها: أنّ الله تعالى إذا قال للعبيد "كيف تكفرون بالله" فهل ذكر هذا الكلام يعتبر توجيهاً للحجة على العبد، وطلباً للجواب منه أو ليس كذلك؟ فإن لم يكن لطلب هذا المعنى، لم يكن لذكره فائدة، فكان هذا الخطاب عبثاً، وإن كان ذكره لتوجيه الحجة على العبد.. فللعبد أن يقول: حصل في حقي أمور كثيرة، موجبة للكفر.. فالأوّل: أنك علمت بالكفر مني والعلم بالكفر يوجب الكفر. والثاني: أنك أردت الكفر مني، وهذه الإرادة موجبة له. والثالث: أنك خلقت الكفر فيّ وأنا لا أقدر على إزالة فعلك. والرابع: أنك خلقت في قدرة موجبة للكفر.. فكيف يعقل بعد ذلك كله أن يقول لهم "كيف تكفرون بالله"؟.

وأما القضاء، الذي هو المقضي فهو نوعان:

1-   شرعي: يجب الرضا به كقوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (الإسراء/ 23)، وكقوله: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء/ 65)، وهو أساس الإسلام..

2-   الكوني القدري: منه ما يوجب الرضا به كالنعم التي يجب شكرها، ومن تمام شكرها الرضا بها..

ومنه، ما لا يجوز الرضا به كالذنوب والمعاصي، والخطايا والموبقات: التي يسخطها الله، ويكرهها العباد، وإن كانت بقضائه وقدره..

ومنه، ما يستحق الرضا به: كالمصائب والشدائد والمحن..

وقد سأل سلمان الفارسي (رض): "ما الإيمان بالقدر"؟ قال: إذا علم العبد انّ ما أصابه لم يكن ليخطئه"، وعن أبي الدراء (رض) قال: "سمعت رسول الله (ص) يقول: "إنّ الله عزّ وجلّ قال لعيسى بن مريم: يا عيسى إني باعث بعدك أمة إن أتاهم ما يحبون، حمدوا وشكروا وإن أصابهم ما يكرهون، احتسبوا وصبروا، اعطيهم من علمي".

ولما صبر يوسف (ع)، ارتقى إلى معارج العلا، وقيل له: بم نلت الملك، ودانت لك الأمور، وذلت لديك العظماء، وخضعت لك الفراعنة، واطاعك من عصى سواك؟ فقال: نلت ذلك، بصبري على غيابة الجب، وضيق السجن، وفراق الألف، والبعد عن الوطن".

وروي أنّه دخل عمر بن عبدالعزيز (رض) على ولده، وهو يجود بروحه فقال: الحمد لله أن جعلك الله في ميزاني، ولم يجعلني في ميزانك.. فقال الابن لأن يكون ما تحب يا أبي خير مما أحب..

ولا عجب: فقد جعل الله في ثواب الصبر على بلائه، حلاوة تزيد على مرارته، قال الله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة/ 155-157)، وعن مصعب ابن سعد عن أبيه قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثمّ الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان شديداً في دينه صلباً، اشتد بلاؤه، وإن كان دينه رق ابتلاه على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة".. إنّ المسلم الذي يؤمن بالتصور الإسلامي للقدر، لا يجزع ولا يقلق ولا يضطرب؛ لما يترقبه من قدر الله؛ لأنّه قد سلَّم أمره إلى الله اللطيف الخبير، واطمأن إلى إرادته فيه، ووثق كلّ الثقة، بأنّه لا يريد له في النهاية، إلا الخير، تهديه إلى ذلك علاقة الحب والرضا المتبادلة بينه وبين خالقه ورازقه (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (المائدة/ 119).

 

المصدر: مجلة هدي الإسلام/ العدد الثاني لسنة 1983م

ارسال التعليق

Top