◄ القضاء والقدر في الفكر الإسلامي بحث علمي دقيق يتصل بأمور منطقية وفلسفية عميقة، ولتوضيح الصورة أمام جميع مستويات التفكير لابدّ لنا من الاستعانة بمقدمات وأمثلة.
أكثر الناس عندما يسمعون بتعبير القضاء والقدر يتصورون أنّ الإنسان في حياته وأفعاله وما يقع عليه من أمور حسنة وسيئة إنما هو بأمر الله وتقديره وقضائه، ولا مهرب من ذلك، وبالتالي فإنّ الإنسان مسيَّر في حياته.
هذه فكرة مغلوطة عن معنى القضاء والقدر، وهي فكرة جبرية.
القضاء هو الحكم والفصل في الأمر، ولذلك سمي القاضي قاضياً لأنّه يحكم بين الناس ويفصل في منازعاتهم، وهو بوجه عام إتمام الشيء قولاً وفعلاً.
والقضاء هو: حكم كلي إجمالي على الموجودات، مثل الحكم بأنّ كل نفس ذائقة الموت.
أمّا القدر فهو: مقدار الشيء وحالاته المقدرة له، وهو تفضيل الحكم بتعيين الأسباب، مثل الحكم بموت زيد في اليوم الفلاني بالمرض الفلاني.
وإذا نظرنا من حولنا وفي أعمالنا نجد دائماً عنصري القضاء والقدر.
فالمهندس الذي يصمم بناء لغاية معينة تكون وظيفته رسم القضاء والقدر بالنسبة لهذا البناء، فهو يحدد المكان ويأخذ المقاييس ويرسم الخرائط بناءً للحاجات المحدودة، ويصمم الأشكال المناسبة، وهو بهذا العمل يحدد المقادير، بعد هذا يحدد المهندس أنّ هذا البناء يستعمل كمركز للوزارة أو كمسجد أو كبناء سكني، أي انّه يقضي ويحكم على هذا البناء باستعماله لغاية محددة.
كذلك عمل الطبيب فيه قضاء وقدر بالنسبة لجسم الإنسان، فجسم الإنسان قائم على مقادير معينة من العناصر الكيميائية وعلى تركيب عضوي وفسلجي، فالكريات الحمراء لها مقدار معيّن في الجسم، كذلك الكريات البيضاء، والأملاح وغير ذلك، فإذا ذهب المريض إلى الطبيب فإنّ الطبيب يبدأ أوّلاً بالتقدير، أي يدرس حالة المريض: درجة حرارته وضغط دمه، ويجري الفحوصات المخبرية على الدم والبول وغير ذلك ليصل إلى تقدير الحالة المرضية أو تشخيصها تقدير العلاج المناسب والمطلوب، بعد هذا يحكم الطبيب بالعلاج، فيقضي أن يأخذ المريض هذا الدواء أو ذاك.
وعندما يقول (سبحانه تعالى): (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) (آل عمران/ 185)، معنى ذلك أنّه حكم وقضاء على كلّ إنسان بأن يموت، فهذا قضاء، ولكن ربما مات أحدهم غرقاً وآخر شنقاً وثالث تحت عجلات السيارة، كيفية الموت هذه والطريقة التي حصل بها الموت وتم بحسب تفصيلاتها وحساباتها ومقاديرها هي ما نسميه القدر.
وإذا أردنا أن نتعمق أكثر علينا أن نقرأ جيِّداً في كتاب الكون والحياة على هدي القرآن الكريم، يقول الله (تبارك وتعالى): (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه/ 50). هذه الآية تتضمن معاني القضاء والقدر.
وإذا أتينا إلى جسم الإنسان نجد أنّ الخلية الأساسية تتحكم بحالة الجسم ووظائف أعضائه، وحياة الخلايا قائمة على قانون التوالد والفناء بنظام دقيق محدد، فكل خلية لها وظيفة محددة، وعند القيام بأي عمل ذهني أو جسدي هناك ملايين الخلايا تموت ويولد مكانها ملايين أخرى بمعنى أنّ هذا الجسم هو عبارة عن نهر دائم الجريان من الخلايا، ولكن علينا أن نلاحظ أنّ توالد وتكاثر الخلايا يتم بصورة منظمة، فإذا حصل خلل في هذه العملية فإنّ جسم الإنسان يتعرض للتلف أو للورم السرطاني.
فإذا توقف الجسم عن إنتاج الخلايا فإنّ هذا الجسم يضمحل وينتهي، وإذا تكاثرت الخلايا وتمت بشكل عشوائي غير منظم يحدث الورم السرطاني، هذه الأمور الدقيقة كلها في الجسم البشري هي من نوع القدر.
وإذا نظرنا إلى النجوم والكواكب في هذا الكون نجدها جميعاً تتحرك وتجري على قضاء وقدر، فالله – سبحانه – قدر لهذه النجوم والكواكب أبعادها ومواقعها وحركتها: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) (الواقعة/ 75-76).
فالله – تعالى – قضى بأن تكون الشمس منيرة تعطينا الضوء والحرارة، وهذا القضاء يتم بقدر معلوم، فحجم الشمس وقوة نورها وبعدها عن الأرض وحركة الأرض حولها، كل ذلك مقادير معلومة لتنفيذ قضاء الله وحكمه.
بين الجبر والإختيار:
بعض الناس تراه إذا قام بعمل جيِّد ناجح ينسب هذا النجاح لنفسه، ويقول: أنا نجحت بقوتي وحكمتي وذكائي، وإذا فشل في عمله، يقول: هذا مقدر من الله ولا يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، أي أنّه ينسب النجاح إلى نفسه وينسب الفشل إلى الله.
وبعض الناس إذا لمتهم على ترك الصلاة تراهم يتململون ويقولون: ما نفعل؟ إنّ الله لم يهدنا إلى التمسك بالصلاة!...
هذه المواقف تدل على فهم سطحي للأمور، هذا إذا لم تكن من قبل الكذب والاحتيال. هل الإنسان في أعماله مسيّر أم مخيّر؟ هل هو مجبور أم مختار؟ وما هو موقف الإسلام من هذه المسألة الفلسفية الهامة؟
ينظر البعض إلى القرآن الكريم نظرة سريعة سطحية دون تدبر أو تأمل فيستنتج أنّ أعمالنا هي من الله (.. وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى...) (الأنفال/ 17).
أو في قوله – تعالى –: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (الواقعة/ 63-64). حتى نفهم هذه المسألة الدقيقة نضرب مثالاً لتقريب الفكرة وفهمها.
ولنفرض أنّ رجلاً لا يستطيع تحريك يده لأنها مشلولة، ثمّ استطاع الأطباء أن يتوصلوا إلى طريقة لتحريك يده وذلك بواسطة التيار الكهربائي، فإذا أوصلوا التيار الكهربائي إلى يده بواسطة سلك حرّك يده كما يريد.
لنفرض أنّ ولداً صغيراً مرّ أمام هذا الرجل، فرفع الرجل يده الموصولة بالكهرباء ولطم الولد، على من تقع المسؤولية في هذا العمل؟ هل يستطيع هذا الرجل القول بأنّه غير مسؤول وهو لم يضرب الولد وإنما الذي فعل ذلك هو قوة الكهرباء؟
الحقيقة أنّ المسؤولية تقع على الرجل نفسه لا على الآلة الكهربائية، فالكهرباء أعطته القوة فقط، وهذه القوة يستخدمها هو في الاتجاه الذي يريده: يستطيع أن يضرب بها الولد، كما يستطيع أن يرفعها بالدعاء إلى الله – تعالى –.
هذا المثل يبيّن لنا أنّ الله – سبحانه – أعطانا القوة والقدرة على الأفعال، وهذه القدرة نحن مسؤولون عنها وعن سبيل استخدامها أكان ذلك في سبيل الخير أو في سبيل الشر، يقول تعالى: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) (الإنسان/ 3).
إنّ المصلي يصلي بقوة الله، والزاني يزني بقوة الله، فالصلاة والزنى كلاهما تم بقدرة الله ولكن بقرار الإنسان وبعمله، إنّ الإنسان يقرر ويعمل في الاتجاه الذي يريد، والله يعطيه القوة والقدرة على ذلك.
هذه مسألة دقيقة تتعلق بالعدالة، فإذا كان الله يمنحك القوة والقدرة على الخير ويحرمك منها على فعل الشر فمعنى ذلك أن لا يفعل الإنسان إلا الخير، وهذا يعني أنّ الإنسان مخلوق باتجاه واحد وهو فعل الخير، في حين أنّ الله أراد أن يكون الإنسان مخلوقاً ببعدين: الخير والشر، السلب والإيجاب، فيتحكم باتجاهه هو نفسه وإرادته الحرّة: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) (الشمس/ 7-8).
فالنتيجة: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس/ 9-10)، (.. فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ...) (الكهف/ 29)، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة/ 7-8).
من هنا نرى الإمام الرضا (ع) في مناجاته لله يقول: "إلهي أنا العبد الذي عصيتك بقوتك واجترأت على معاصيك بنعمتك".
إذن الله – سبحانه – أعطانا القوة وأنعم علينا بالعقل والجسم والصحة والسمع والبصر وسائر الحواس، ونعمه – عزّ وجلّ – كثيرة لا تعد ولا تحصى، الله أعطاك الغريزة الجنسية، وباستطاعتك أن توجهها في طريق الخير أي الزواج الشرعي الصحيح، كما باستطاعتك أن توجهها في طريق الشر أي الاعتداء على أعراض الناس، عندك حنجرة قوية وصوت جميل يمكنك أن تستخدمها في الغناء كما يمكنك أن تستخدمها في تلاوة القرآن الكريم ومجالس العزاء.
هذه الطاقات أنت مسؤول عنها، أما القدرة أو الطاقة التي هي من الله فليست مسؤولة، إذا كان عندك كمية من البنزين تستطيع أن تضعها في خزان السيارة وتفضي حاجتك، كذلك تستطيع أن تصبها على أثاث البيت وتحرقه، فإذا احترق البيت هل الطاقة هي المسؤولة عن ذلك؟
ابحث عن أسباب الشر فيك:
يتساءل البعض: لماذا يولد بعض الأطفال مشوهين؟ إذا ولد للأبوين طفل أعمى أو مشلول يقولون: هذا قضاء الله وقدره!
الحقيقة هي غير ذلك، فالله – سبحانه – يخلق الإنسان في أحسن تقويم، ولكن هناك أسباب عديدة تتعلق بأهله وربما ببعض جدوده تجعل منه طفلاً مشلولاً أو أعمى أو مشوهاً.
فالطب مثلاً يؤكد أنّ استعمال الأم الحامل الأقراص المنومة فإنّ الطفل يأتي مشلولاً، لذلك نرى بأنّ الطبيب لا يوصف علاجاً للمرأة قبل أن يسألها إذا كانت حاملاً أم لا. وثبت علمياً أنّ المرأة والرجل إذا التقيا جنسياً وهما في حالة السكر ونتج عن هذا اللقاء حمل، فإنّ الطفل يولد عصبي المزاج، كذلك إذا تعرضت الأم لحالات عصبية أثناء الحمل فإنّ ذلك يؤثر على الطفل، فهل نقول بعد هذا أنّ الله هو الذي قضى وقدر؟! وهل نرفع المسؤولية عن الأُم والأب ونلقيها على الله (سبحانه)؟!.
كذلك أثبت العلم أنّ بعض التشويهات لا تظهر في الأبناء، ولكنها تظهر أحياناً في الأحفاد أو في أحفاد الأحفاد، وهذه مسألة معروفة تتعلق بالوراثة.
القضاء والقدر والعدل الإلهي:
أبو حنيفة النعمان واحد من كبار علماء المسلمين وهو رأس المذهب المعروف بالمذهب الحنفي، وأبو حنيفة كان من الذين درسوا على يد الإمام الصادق (ع) لمدة سنتنين كاملتين، وهو القائل: "لو لا السنتان لهلك النعمان"، أي ما أخذه من العلم والمعرفة بأصول الدين وعلومه ومناهج التفكير في مدرسة الإمام الصادق كان نجاة له من كثير من الخطأ والزلل.
التقى أبو حنيفة يوماً بالإمام موسى بن جعفر (ع)، وكان عمر الإمام الكاظم لا يتجاوز اثنتي عشرة سنة، فسأله: قل لي يا ابن الإمام الصادق، هل المعصية من الله أم من الإنسان؟
قال الإمام الكاظم: هذه القضية لا تخلوا من ثلاثة أمور، إما أن تكون المعصية من الله – عزّ وجلّ – فلا ينبغي للكريم أن يعذب عبده بما لم يكتسبه، وإما أن تكون المعصية من الله ومن العبد معاً، فلا ينبغي للشريك القوي أن يعذب الشريك الضعيف، وإما أن تكون المعصية من العبد، وهي منه، فإن عذبه الله فبذنبه، وإن عفا عنه فبكرمه وجوده.
القضاء والقدر بين أقصى اليمين وأقصى اليسار:
في أيام الدولة الأموية كان خطباء الأمويين يصعدون المنابر ويقولون للناس القضاء والقدر أمر محتوم عليكم، وكل ما يصيبكم فهو من الله.
هذا الكلام هو مذهب جبري في فهم القضاء والقدر، والأميين شجعوا هذا المذهب ونشروه بين الناس ليقبلوا مظالم بني أمية وانحرافهم، فإذا كانت سياسة الأمويين قد أفقرت الناس وظلمتهم ووضعت الأحرار في السجون فما على هؤلاء إلا الامتثال لإرادة الله وقضائه وقدره، أرادوا أن يقنعوا الناس بأنّ إرادة الله هي التي حكمت معاوية ومن بعده يزيد الفاجر الفاسق.
هذا الاتجاه التحريفي في الإسلام هو من عمل المزيفين أمثال سمرة بن جندب والضحاك بن قيس الفهري ومن لف لفهما، كان سمرة بن جندب يضع الأحاديث الكاذبة وينسبها إلى رسول الله (ص) فكان يقول للناس: هذا إمامكم أطيعوه حتى ولو كان فاسقاً ظالماً جائراً، وكل الذين خرجوا لقتال الإمام الحسين (ع) كانوا مشبعين بأفكار الجبرية التضليلية.
وإذا أتينا إلى أقصى اليسار، إلى الفكر المادي الإلحادي نجده ينكر وجود القضاء والقدر نهائياً، لأنّه ينكر أصلاً وجود الله – سبحانه – فالفكر الإلحادي يعتبر الدين أفيون الشعوب، ويعتبر بالتالي أنّ فكرة الله هي فكرة لتضليل الناس.
إنّ الفكر الأموي الجبري والفكر الإلحادي المادي كلاهما منحرف ومضلل، أما الفكر الإسلامي الصحيح فإنّه الفكر المؤمن المتوازن الذي حفظ كرامة الإنسان ويعرفه على حدوده، فالإنسان المؤمن يؤمن بالغيب وبوجود القدرة الإلهية، وفي نفس الوقت يعرف أنّه مسؤول عن أعماله وعن حالته، فإذا كان فقيراً فليس معنى ذلك أنّ الله أراد له الفقر، وإذا صار غنياً فليس معنى ذلك أنّ الله أعطاه دون استحقاق.
هناك أمور هي من صنع الله وإرادته ولا دخل للإنسان فيها مثل الحياة والأعمال غير الإرادية. وهناك أمور، وخاصة فيما يتعلق بأعمال الإنسان ونتائجها، هذه الأمور هي من صنع الإنسان بقدر ما هي من عطاء الله، إنّ الخير والشر اللذين يصيبان الإنسان هما من نتائج عمل الإنسان.
وقد يسأل البعض:
وما معنى قوله تعالى: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا)؟ (التوبة/ 51).
والجواب على ذلك: أنّ الله يكتب لك خيراً أو شراً بما كسبت، أي بما عملت: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (المدثر/ 38).
وهنا تستطيع أن تتدخل العناية الإلهية بالعفو والمغفرة، وهذا الجانب لا يؤمن به الملحدون لأنهم لا يؤمنون بالغيب، أما المسلم الحقيقي فإنّه يثق برحمة الله وينتظر دائماً العفو والرحمة والتوفيق حتى وإن كان غارقاً في الذنوب.
إنّ الإنسان كتلة معقدة من النوازع الخيرة والنوازع الشريرة، وأعماله خليط عجيب من الخير والشر، وعمل المؤمن هو الارتقاء الدائم والتكامل الدائم بتهذيب النفس وتنمية عناصر الخير، ولن يصل الإنسان إلى الكمال، لأنّ الكمال لله وحده.
ومن هنا نستطيع أن نفهم قوله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ...) (فاطر/ 45).
المصدر: مجلة الإيمان/ العدد الحادي والثمانون لسنة 1419هـ
ارسال التعليق