◄إنّ القدوة في الإسلام أوّلاً هو حامل الرسالة السمحاء فقد جعله الله سبحانه أُسوة لأُمّته فقال عزّ وجلّ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب/ 21).
واعتبر في التأسّي المطلق من دون قيد وشرط أن يكون المقتدي به معصوماً (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى) (النجم/ 2-3)، ويعني ذلك انّه لا يرتكب أي خطأ ولا يميل إلى أيّ إنحراف ولو لم يكن كذلك لبطل عقلاً ونقلاً أن يكون أُسوة على نحو الإطلاق، وحينئذٍ لم يصلح أن يكون الرسول سيّداً مطاعاً في الخلق إذا أمكن أن يخطأ فيجرّ تابعيه إلى الويل والدمار والنار والانحطاط، وأمكن أن ينحرف فينكب بتابعيه الطريق.
ثمّ لم تقتصر نعمة الله على المسلمين بجعل النبي الأعظم أُسوة وحسب، بل جعل له خلفاء معصومين من الأبرار الأطهار، وجعل كلّاً منهم أسوة حسنة وقدوة صالحة تتّبع بعد أن جعلهم معصومين عن الزلل والخطأ ومن كلّ ذنب وشين، بل جعل للنساء من الأُمّة أُسوة تكون رمز الفضائل والمكارم وأمثولة القيّم والمبادئ، وشاهدة على مدى صلاحية تعاليم السماء للتطبيق العملي بكلّ تفاصيلها وفي كلّ المجالات، ألا وهي تلك الطيّبة الطاهرة الحوراء الانسيّة فاطمة الزهراء سيّدة النساء (ع) فانّها معصومة شأن سائر الأئمّة والأنبياء (عليهم السلام)، فلا تقول إلّا الحقّ، ولا تفعل إلّا الحقّ، طبّقت تعاليم السماء على نفسها وأُسرتها تطبيقاً كاملاً، فأصبحت المثل البديع المحتذي في جميع الفعال والخصال فكانت لذلك كلّه (القودة والأُسوة) أيضاً، وكما قال صاحب الزمان عجّل الله فرجه الشريف: "وفي ابنة رسول الله (ص) لي أُسوة حسنة".
فإذا كيفنا حياتنا وفق سيرة المعصومين (عليهم السلام) وتخلّقنا بمثل أخلاقهم فقد سعدنا وفزنا وبلغنا الصواب وقمّة الكمال.
فالقدوة والأُسوة في النموذجيّة والاتباع تارة تكون مطلقة وبلا حدود كما في المعصومين (عليهم السلام) وأخرى مشروطة ومقيّدة بحدود خاصّة، فانّها ما دامت في خطّ المعصومين (عليهم السلام) فانّه يقتدى بها، وإلّا فكلّ ما خلف كتاب الله الكريم، وخالف المعصومين (عليهم السلام) فإنّه من زخرف القول وزيف العمل، ويضرب به عرض الجدار.
ثمّ لا تنحصر القدوة والأُسوة بالرجال، بل فإنّ الله سبحانه يضرب للمؤمنين من الرجال امرأة فرعون آسية بنت مزاحم مثلاً، فانّها آمنت بربّ موسى (ع) وتركت البلاط الملوكي الفرعوني، وتحمّلت أشدّ الأذى من زوجها فرعون في إيمانها بإله موسى والإيمان بنبوّة موسى، حتى صارت يضرب الله بها مثلاً للرجال المؤمنين، فإنّها بإيمانها وجهادها وصبرها ضربت أروع الأمثال في البطولة والمقاومة وكانت أُسوة الرجال والنساء، وكذلك مريم العذراء بنت عمران وزينب الكبرى أمّ المصائب في مقاومتها وبطولتها، وفاطمة الزهراء في كلّ حياتها وسيرتها.
ملاحظات عامّة في القدوة والأُسوة:
أوّلاً: المقصود من الاقتداء والتأسّي هو أن يتّصف المتأسّي والمقتدي بمن يقتدي ويتأسّى به في مجالات عديدة أقصاها المبادئ والمعتقدات وأدناها التشبّه به في ظاهر حركاته وسكناته، كملبسه وهندامه وإناقته وما شابه ذلك، من السلوك وما بينهما من أقواله وأفعاله، وإنما يفعل ذلك إنطلاقاً من مبدء الحبّ والميل الباطني تجاه القدوة والأُسوة، فالحبّ والمودّة أساس في الاقتداء.
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران/ 31).
كما أنّ المأموم في صلاة جماعته يقتدي بإمامه في ركوعه وسجوده، فلا يسبقه، فإنّه إن فعل ذلك عمداً أخلّ بصلاته، وإن فعل سهواً أخلّ بجماعته – كما هو مذكور تفصيله في الكتب الفقهيّة والرسال العمليّة فراجع (العروة الوثقى) للسيّد اليزدي (قدس سره) وكذلك الحكم يجري بصورة عامّة في القدوة والأُسوة.
ثانياً: إنّ الحاكم فيما سوى الله سبحانه التضاد والتناقض والتخالف، فإنّ الله عزّ وجلّ الفرد الصمد الواحد الأحد الذي لا ثاني له، ولا تركيب فيه، ولا ندّ ولا ضدّ ولا مثل له (ليس كمثله شيء)، ومن هذا المنطلق فإنّ المقتدى به أوّلاً هو الله سبحانه إلّا انّه فيما سواه ينقسم إلى القدوة الصالحة والقدوة الطالحة، أي إلى حسنة وسيّئة، أو قل إلى الحقّ والباطل، والأوّل يحكي الله سبحانه في أسمائه وصفاته، بينما الثاني يحكي الشيطان في تمرّده وعصيانه، ولما كانت القدوة من جهتين كما مرّ، فتارة من الناحية العبوديّة وأخرى من جهة الربوبيّة، فلازم ذلك أن تنقسم القدوة إلى أربعة أقسام:
1- المقتدى به الحقّ: وهو الله عزّ وجلّ ومن يمثله في خلقه من الأنبياء والأوصياء والصلحاء والشهداء والأخيار الأبرار ومن يحذو حذوهم الأمثل فالأمثل، وهذا ما أمرنا الله به في قوله تعالى: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) (الأنعام/ 90).
2- المقتدى به الباطل: وهو إبليس ومن يحذو حذوه من جنده وأعوانه وحزبه من الجنّ والإنس، من كلّ صنف وحرفة ومهنة.
3- المقتدى الحقّ: وهو من يمثّل الإيمان والتقوى والورع، فيطلب من الله سبحانه أن يكون قدوة صالحة للآخرين وأن يكون إماماً للمتّقين (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان/ 74)، وهذا من دعاء المؤمنين.
4- المقتدى الباطل: وهو الممثّل للكفر والضلال كفرعون فيدّعي الربوبيّة قائلاً: (أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى) (النازعات/ 24)، أي أنا قدوتكم وأسوتكم في الحياة.
ثالثاً: كما ورد في الحديث الشريف: "المرء مع من أحبّ فانّه يحشر الإنسان مع من يحبّ ويميل إليه، ويحسب عليه في الدنيا والآخرة، فمن كان أُسوته رسول الله محمّد (ص) فإنّه يحشر معه، ومن كان فلان وفلان، فإنّه كذلك يحشر معه، كما انّه يعرف خلق المرء من خليله ومصاحبه، فقل من تصاحب حتى أقول من أنت؟
رابعاً: إنّ الحياة عقيدة وجهاد، شعور وشعار، فمن كان شعوره الذاتي وميله القلبي يتجلّى بإتّباع رسول الله والاقتداء به والتأسّي بسنّته هديه، فإنّ شعاره سيكون شعاراً نبويّاً وإسلاميّاً، وخلقه محمّدياً، وحياته أحمدياً، حياة عبادة وصلاة وأداء المسؤولية وأن يكون على مستواها وبمقدارها برعاية الحقوق الإلهيّة والإنسانية، الفردية والاجتماعية، فيتخلّق بأخلاق رسول الله (ص).
وزبدة الكلام: انّ الأُسوة الحسنة والقدوة الصالحة تعني الاقتداء بأهل الخير والفضل والصلاح في كلّ ما يتعلّق بمعالي الأُمور والمكارم والفضائل، بينما الأُسوة السيئة، تعني السير في المسالك المذمومة والقبيحة عقلاً وشرعاً، وإتّباع أهل السوء والإقتداء بغير حجّة سليمة وبرهان ساطع.
فمن الناس من يكون قدوته الناس أي عند ما يقدّم على عمل يجعل المقياس والملاك في الاقدام والإقحام كلام الناس وقضائهم وحكمهم، ومن الناس من يجعل المقياس كلام الله وحكمه، ولا ينصاع إلى كلام الناس، بل يعتقد أنّ رضا الناس غاية لا تُدرك، كما في قصّة لقمان وولده وركوب الحمار، فلو كان هو مع الحقّ والناس كلّهم في وادي آخر، فإنّه لا يبالي بذلك كما قالها سيّد الوصيّين وأمير المؤمنين وقدوة المتّقين وأُسوة الصالحين الإمام عليّ بن أبي طالب (ع)، فلا يقول: "حشرٌ مع الناس عيد" بل يكون رجلاً مبدئيّاً ورساليّاً يمشي على ضوء مبادئه وقيّمه، ولا تأخذه في الله لومة لائم.
وفي الإسلام أوّل من يقتدي به هو الرسول الأعظم (ص) فهو المثل الأعلى في الأُسوة الحسنة في أخلاقه وأفعاله وأقواله وسننه وسائر صفاته وسيرته، والمسلم المؤمن إذا راقب الله عزّ وجلّ وأطاعه في عباداته ومعاملاته، وأجراها وفق ما أمر الله سبحانه وما أمر رسوله وعترته الأطهار (عليهم السلام) كان متأسّياً برسول الله وبأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) فالأخذ بكتاب الله والسنّة الشريفة ومنهاج الحقّ اقتداء برسول الله (ص).
ودليل الحب لله ولرسوله ولعترته، أن نتأسّى بهم، وإذا ظهر المسلم بمظهر التأسّي برسول الله وبأهل بيته أحبّه الناس ووثقوا به وجعلوه قدوة يُحتذى بها.
وعلى العلماء الصلحاء ورثة الأنبياء أن يكونوا قدوة صالحة وأُسوة حسنة للناس في أعمالهم، لأنّهم موضع الأُسوة والسفارة الإلهيّة.
وبالأُسوة الحسنة يتحقّق النجاح الباهر والفوز الكامل في مجال التربية والتعليم.
ولا يخفى انّ التأسّي في الدين والقضايا المعنويّة يكون بنظر الإنسان إلى من هو فوقه ليجهُد وينشط في عبادة الله، وأمّا في الدنيا والقضايا الماديّة، فإنّه يكون بالنظر لمن هو دونه، كما ورد هذا المعنى القيّم في كثير من الروايات الشريفة.
ثمّ من سنّ خيراً فاتّخذه الناس قدوة وتأسّوا به، كان له أجره وأجر من عمل بمثل عمله، كما ورد في الأخبار الشريفة.
المصدر: كتاب في رواق الأسوة والقدوة
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق