عادت قضية الغزو الثقافي تطرح نفسها بقوّة من جديد مع تقدم الاتصالات وانتشار البث الموجي وشبكات الأقمار الصناعية، حيث أمكن للدول الصناعية المتقدمة أن تفرض هيمنتها على الفضاء وتنزل قيمها وأخلاقها وأفكارها ورموزها وأنماطها الاستهلاكية - وبالجملة ثقافتها - على الآخرين.
ومع عدم إمكانية بناء سواتر حديدية تمنع الأمواج وتعوق الاتصال، وتحول دون بضاعة الدول "المصدرة" للأنماط الثقافية، من أجل السيطرة على العقول والعواطف بعد أن جربت الهيمنة السياسية والاقتصادية، فإنّ حرب الأمواج الجديدة صارت تشكّل خطراً يهدد ثقافة الشعوب الأخرى (المتلقية) وبما يدفعها إلى وصف هذا الخطر بالغزو الثقافي، في محاولة منها لتعميق الوعي بأخطار هذه الحرب الجديدة، ولتحريك مشاعر الدفاع لدى الشعوب من أجل أن تعزز ثقتها بثقافتها، وصياغة مشروع ثقافي قادر على احتواء الهجوم وامتصاصه للتقليل من الخسائر التي يسببها.
ومن حيث المبدأ، فإنّ الغزو الثقافي قد لا يعبّر في الواقع عن ثقافة متينة قوية تملك قدرة التغلب والهجوم في مقابل ثقافة خاوية قديمة ذات قيم أو مُثل ماضوية أو سلفية لا تنسجم مع الواقع المعاصر كما قد يتصور، بل إنّ قدرة الهجوم والغزو تأتي في قدرة النموذج الحضاري والثقافي الذي تنتسب إليه الألة المحركة والدافعة للغزو.
فحيث إنّ الغرب استطاع بناء المعارف والعلوم الحديثة التي مكنته من بناء دُوله المتقدمة والمتطوّرة. وبفعل تمازج بين الهيمنة والحاجة إلى الامتداد والأسواق وفرض أنماط من التبعية السياسية على شعوب العالم الأخرى ودُولها، فإنّ سلاح الثقافة دخل بقوّة كعامل مكمل لضرورات الهيمنة السياسية والاقتصادية. فعمق التأثيرات الثقافية واللغوية وترويج أنماط التفكير والاستهلاك والسلوك العام تعطي المسوّغات لأن تكون الهيمنة السياسية والترابط الاقتصادي السلبي ناتجين طبيعيين للتبعية في الميدان الثقافي.
إنّ هدف الغازي يتجسّد دائماً في محاولة التشكيك بقدرة العقائد والأفكار والعادات والقيم والمعاني المحلية للآخرين على الأخذ بأيديهم إلى التقدّم والتطوّر، وبالتالي يصوّر مجتمعاتهم بشكل يشعرون معها بالدونية والنقص أمامه ومن ثم يلجأون إلى المجتمعات الأخرى في توليد مفردات الثقافة التي يحتاجونها باستمرار.
وقد تصرّف الغرب مع المسلمين في ضوء هذه المعادلة مستخدماً أساليب مختلفة لم تقتصر على الإرساليات التبشيرية وجهود المستشرقين في بناء تصوّر عن الشرق الإسلامي وإعادة تصويره للمسلمين ليقرأوا تاريخهم وعقائدهم ومذاهبهم ورموزهم الدينية والقومية على ضوئه فحسب، بل إنّ الأمر جعل عقدة التفوق هذه تتخذ منحىً عندما اصطنع الغرب لنفسه رسالة تحديث الشرق ونقل ثقافته لتحل محل الثقافة التقليدية غير المنتجة علمياً!!؟ والمتخلفة والمنغلقة على نفسها!
لكن ثمة شيء ينبغي الاعتراف به وهو أنّ الغرب ظل مصدر التقنية والعلوم الإنسانية وكان بالتالي مؤهلاً لأن يصبح دائماً في موقع توريد التكنولوجيا والمعارف الإنسانية الجديدة إلى جانب فنونه وآدابه وعاداته وطرائق عيشه بحكم أيديولوجيا التقدّم والتفوق التي تفترض آلية عمل مهاجمة.
وبسبب الطبيعة المادّية للثقافة الغربية وجذورها الوثنية، والتي أنتجتها بطبيعة الحال فلسفة الغرب ورؤيته للمادّة والطبيعة والإنسان، فإنّ ثقافة الغرب اكتسبت معانيها ورموزها من هذه المواصفات، وأصبح من المستحيل تفكيك نُظمها العلمية والمعرفية وتنقيتها عن فلسفتها الجوهرية وتجلياتها في الأدب والفن والسلوك الفردي والاجتماعي ورؤيتها عن ذاتها وعن الآخر. إنّ أي ثقافة تشعر بتفوقها، تميل ذاتياً إلى تعميم نفسها من خلال فرض نموذج مدنيتها على الآخرين وتكريس ذلك كخيار واحد للحداثة والتطوّر والمعاصرة وحينما يضاف إلى ذلك النزعة القومية والتنافي على مواقع النفوذ في العالم فإنّ الأقوى عسكرياً واقتصادياً والأقدر على استخدام وسائل الإعلام وتوظيف التكنولوجيا، يسعى إلى الفوز بموقع الصدارة.
ومثلما تسعى الثقافة القومية بشكل عام إلى مصادرة خصوصيات ثقافية خارج المركز الغربي فإنّ دول الغرب نفسها تعاني من عقدة (الغزو الثقافي) فيما بينها، ولعلّنا نتذكر تصريحات وزير الثقافة الفرنسي في الثمانينات "جاك لانغ" الذي كان يعلن بصارحة عن غزو ثقافي أميركي لفرنسا عندما قال إنّ الأميركان يسعون لتعميم ثقافتهم الانگلوسكسونية على الثقافة الفرنسية عبر السينما والتلفزة وتقنيات الرواية وأنماط الاستهلاك والموسيقى الأميركية.
كما إنّ نزعة التقليد والتبعية لا تقتصر على الدول المتخلفة اقتصادياً، بل إنّ دولاً متقدمة صناعياً واقتصادياً تعاني من ميل شعوبها إلى التقليد والتبعية في الأنماط الثقافية، ربما تكون النمسا مثالاً على ذلك، إذ إنّ السينما النمساوية مثلاً فقدت هُويّتها المستقلة وصارت تقلد السينما الأمريكية.
إنّ الهُويّة تصبح ذات رباط وثيق بالثقافة لأنّ الثقافة هي المولد الإدراكي للشعور الخاص بالهُويّة والتمايز، بل هي إحدى وظائفها الأساسية، ومن خلال سعي الغرب، كمنظومة حضارية موحدة، لتهميش الآخرين وتفتيت مدنياتهم وثقافاتهم، واستيعابها في منظور أُحاديّ تحت عنوان عالمية الثقافة الغربية، فإنّ الغزو يصبح هو التعبير الطبيعي لهذا النوع من التعامل، ولعلّ الإصرار الكبير على مدّ شبكات التلفزة عبر الأقمار الصناعية وتحويلها إلى شبكات كونية تتحدّث بلغات متعددة وبمضمون ثقافي واحد، هو البداية الأولى لتسخير الأجواء والفضاءات، وتحويل مفهوم سيادة الدول إلى مفهوم نسبي مادامت غير قادرة على فرض سيادتها على أجوائها.
هناك منطقان يتصارعان ويعكسان وجهتي نظر مختلفتين في البلدان العربية والإسلامية.
الأولى: تقول برفض مطلق الثقافة الغربية لأنّها مادّية غازية وخطرة تفسد القيم والأخلاق وتمارس عملية إحلال واستبدال، أي إحلال قيم غريبة محل القيم الإسلامية، وهذه الظاهرة تشكّل عملية استلاب مقصودة لابدّ من الوقوف في وجهها بغلق الأبواب والانعزال ومكافحتها مكافحة شديدة.
إمّا الثانية فنقول إنّ العالم أصبح قرية صغيرة وأنّ الشعوب لم تعدّ قادرة على الانعزال والتقوقع على الذات والهروب من الواقع، بل إنّ الثقافة باتت عالمية وعلى كلّ فريق أن يعرض (بضاعته) ليتم التبادل والتثاقف بحرّية وبدون قيود، لاسيما وإنّ حضارة الغرب وثقافته أصبحت ملازمة مع علومه وتقنياته، ومَن يفكر بالانعزال لن يخسر فرص التقدم وحسب، بل ويجعل ثقافته انطوائية فقيرة غير ملقحة بإيجابيات الآخرين، ثم بالتدرج تفقد الشعوب والأُمم ثقتها بها. وكِلا المنطقين بالطبع ينطويان على قدر متساوٍ من السلبيات والإيجابيات، إذ يستحيل إغلاق الأبواب والنفوذ بفعل ثورة الاتصالات والاحتكاك المستمر بين الشعوب والتبادل السلمي والإنتاجي وإمكانية الإنزال غير متوفرة بل غير ممكنة.
أما الانفتاح بلا قيود تحت شعار التبادل الحر، فإنّ الأمر ليس بهذه السهولة.
أوّلاً: لأنّ الغرب يمتلك صورة مسبقة عن الإسلام كوّنها بنفسه واستمر يعيد إنتاجها ويغذيها أجياله وبالتالي فهو ليس في موضع تأثر جماعي وإن كان باب التأثر الفردي مفتوحاً.
ثانياً: لأنّ المسلمين لا يمتلكون الإمكانيات المالية ولا السيطرة على وسائل الإعلام والدعاية والتقنيات لإيصال رسالتهم الثقافية على قدر متساوٍ من العدالة والتكافؤ مع الغرب.
ثالثاً: إنّ الوضع الإسلامي بشكل عام يعيش حالة دفاع ثقافي بسبب التخلف العلمي والتقني وقد حُمّلت الثقافة الإسلامية مسؤولية ذلك حيث ألصقوا بها تهم الخرافة واللاعلمية والعجز والسحرية. ومع إطراد تقدّم الغرب وبطء خطوات المسلمين، فإنّ الثقافة الغربية احتفظت بمواقع التفوق والهجوم، لأنّها تقدّم نفسها كأداة تقدّم اقتصادي واجتماعي وفكري، وبصرف النظر عن سلامة المحتوى الأخلاقي والقيمي ومستواه، فإنّ ميزان القوى الاقتصادي والسياسي وقوّة النفوذ الدولي هو الذي يمنح الثقافة قدرة الهجوم وعدمها، وكذلك قوّة التأثير وقدرة التغلغل فإنّه لا تخضع لمقياس عقلي أو منطقي بقدر خضوعها للقوّة الدافعة لها.
في مثل هذا الواقع لا مناص من مشروع ثقافي محلي يحدد نقاط القوّة والضعف في الثقافة المحلية وآلية تحرك فعّالة وديناميكية في الوسط الثقافي لتنظيم عملية التبادل الثقافي بشكل يسمح بتدوين إستراتيجية للعمل الثقافي تقلل بأعلى نسبة مخاطر التدفق الخارجي، وتعزز ثقة الشعب وارتباطه بهُويّته وثقافته من خلال عملية إحياء ونقد دائمين حتى لا تصبح الثقافة المحلية جامدة ومنغلقة فتوفر أكبر الذرائع للقبول بالثقافة الوافدة كما حصل مع العالم الإسلامي حينما اصطدم لأوّل مرة بالغرب وأفاق على هول التخلف الذي رتع فيه.
المصدر: كتاب جداليات الفكر الإسلامي المعاصر
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق