◄ لا يقتصر السعي وراء حقائق هذا الكون وملاحقة المعارف الموجودة فيه، على العقل وحده. بالرغم من مكانة هذه الملكة العتيدة بين ملكات النفس الإنسانية، في عالم المعرفة ككل. فهي – أي العقل – الأداة الذهنية الواعية العارفة، التي تستند في تصديها لكل ما يعترض في عملها ووظيفتها إلى التجريب والبرهنة، والتثبت والتحقق على ضوء مبادئ التنسيق وشروطه الواضحة المحددة.
قلت، لا يقتصر العمل في هذا المجال المعرفي على العقل وحده بل تشاركه فيه ملكات أخرى، لا تتظاهر مثله بل تقبع خلفه في طبقات النفس، وتمده بكل أسباب الطاقة والقدرة والعدة والمؤونة. ليبقى أكثر جاهزية في مهمته: يستنتج، يستنبط، يكتشف، يحدد إلخ... ويأتي على رأس تلك الملكات "الخيال".
هذه الملكة الجموح اللعوب، التي نلوذ إليها أحياناً من هموم الحياة ومتاعبها، ونحتمي بفضائها الرحب، من الملل والنفور اللذين نصاب بهما من استعمال وظيفة العقل وتعامله معنا بقسرية الأنظمة وصرامتها. وذلك من خلال منظورها الساحر العجيب. فنعيش معها – أي ملكة الخيال – لحظات مريحة ممتعة. ليس في واقع الجمال وما فيه من روائع الفن والأدب والموسيقى فحسب، بل في هذا الواقع الفسيح، اللامحدود من عالم المعرفة المليء بالخفايا والأسرار، الزاخر بالحقائق والمعارف والتي يطل فيها علينا الخيال بظلالها المتطاولة ورسومها المشوشة. فتظهر على شكل مخايل وأساطير، تحمل لنا بذور المعرفة الأولى، والعناصر البدائية لمكونات العقل. وطبعاً ليست الأشياء المباشرة المنظورة والمحددة هي كل الأشياء في هذا الوجود. ولا الحقائق المنطقية المبرهنة – المعقولة – هي كل الحقائق فيه. ولم تأت الصورة الجميلة المبروظة على الجدار، المشرقة بألوانها إلا من مسودتها الخلفية العاتمة. لكل شيء في هذا العالم مسودة "نيكاتف" – خلفية – أو بلغة الفلسفة "ما ورائية". يولد من رحمها وينبع من جوهرها. ومن ثبات وجود الجانب المقابل للأشياء كان – بالضرورة – الخيال لدى الإنسان جانباً آخر للعقل. أو إحدى دعائمه الكبرى في عالم المسودات. وهنا يفهم أنّ الخيال الذي نعني، ليس هو تلك الشطحات "الفنتزية" المغرقة في اللاواقعية والغرائب العبثية اللامجدية. ولا هو أيضاً، هذه الحالة من الشعور السعيد الخالي الذي يصل بالإنسان إلى أقصى درجات السكون والخمود. أو إلى ما يسمى بحالة "النيرفانا" حيث لا تعب، لا هم، لا تفكير. بل لذة، دفء، وتحليق بعيد عن الواقع والحياة معاً. إنما نعني الخيال القابع وراء العقل وخلف الحواس كملكة غزيرة متدفقة. تشكل بهلاميتها الوسط الهيولي لليقين. أو بالأحرى المادة الخام والتي يستمد منها العقل الشعور في كل عمليات الإدراك والوعي والفهم التي يقوم بها.
وهكذا ننفذ إلى قيمة الخيال في "عالم المعرفة" ووظيفته العملية – لا الخيالية – في صنع الفكر وفي الحياة.
يقول أحد المربين "ينبغي أن نحلم". وعرف الحلم بأنّه الحياة – بالفعل –.
كما ننفذ إلى مدى ضرورة الخيال في عمليات التربية. وضرورة تنمية تربيته لدى الناشئة ككل. ولدى الدارسين والباحثين أيضاً. في المستوى الذي لا يقل عن مستوى الاهتمام بوسائل المعرفة الأخرى.
ليصبح – أي الخيال – أداة معرفية فعّالة نتمكن – عن طريق تربيته الصحيحة – أن نغرس في الذهن الإنساني القدرة على الخلق والإبداع. وبالتالي ترسيخ فيه خاصيّة الخيال الشهيرة. ألا وهي "التجاوز". فنستطيع أن نتجاوز به واقعنا الإنساني وتجاربنا العقلية المشروطة بحدود محرمة، كالتابو، إلى تجربة جديدة، تجربة الخيال التي ستتموضع في عملية "التجاوز" هذه داخل الواقع الإنساني لتجعله مزدوجاً ذا وجهين: المباشر واللامباشر. من ذواتنا الظاهري والباطني. ويتمركز الخيال طبعاً، في الوجه الثاني، في اللامباشر. فيكمن في "ما ورائية" عالم النفس ككل عملية ذهنية أو عقلية، التي نعالج بها الحقائق والمعارف في هذا الكون – الوجود –.
ونرى في الوقت نفسه من خلال هذه الماورائية، مساهمة الخيال في تمكين العوامل الفطرية الباطنية في النفس، والبيئية الخارجية في الوسط. لتتناولها التربية في مؤسساتها، وتقدمها للمجتمع مشفوعة بخاصية "التجاوز". التي وصلت في العمليات التربوية إلى غاية مهمة من غاياتها الأساسية. وهي الابتعاد بقدر الإمكان عن عطالة الأوامر التنفيذية، والقوانين الجبرية، والأهداف مسبقة الصنع.
يقول (روجيه غارودي): "والفضيلة الكبرى التي ينبغي أن نعتني بتربيتها، ليست هي المنطق، بل الخيال. وإلا ارتدت الثقافة إلى وظيفة أداء عمليات تنفيذية صرفة، وظيفة تقوم على اعتبار الغايات معطاة سلفاً"[1].
وبالتأكيد إذا ما تجاوزت التربية مبادئ الجبرية والمحدودية تلك. فنصل إلى أهم غرض من أغراضها المنشودة، ألا وهو اكتساب الإنسان القدرة على التكيّف. التكيّف مع الظروف الطارئة والعوامل البيئية المحيطة. وقدرة التكيف في الوسط هذه هي بحد ذاتها خاصيّة مكتسبة في الكائن البشري، تفوق "الضرورة" نفسها وتتجاوزها. وذلك بوساطة ما يولده الخيال في الذهن من حدس "للممكن".
والحدس هذا يتفق أو يتلاءم في طبيعته، سنة التطور والتجديد السائدة في الوجود، ومن هذا القبيل جاءت موضوعة "الاكتساب في التربية" معمولاً بها ومركزاً عليها في أساليبها ووسائلها لتنفذ منها إلى المجتمع. وحتى إلى علم الحياة "البيولوجيا" وتدل الدراسات العلمية الحديثة، على أن سلوك المخلوقات المكتسب يتزايد على حساب سلوكها الموروث، كلما ارتفعت في سلم التطور.
أي أنّ السلوك الموروث يكون في تناقص مستمر مع التطور. وبالطبع قدرة (الاكتساب أو التكيّف) هذه، هي التي يعود فضلها إلى الخيال، أصبحت في العصر الحاضر الهاجس الكبير للتربية. فراحت مؤسساتها في العالم أجمع تهتم أكثر فأكثر بعالم الطفولة القريب من "عالم الخيال". فركزت على مرحلتها، وعملت على تحديد عمرها من أجل أن تجعلها مرحلة سعيدة في عمر الفرد والمجتمع. وخصبة أيضاً لتفتح المواهب الذاتية، وتقوي روح الشخصية الفردية ليكون الفرد فعالاً أصيلاً في مجتمعه، ويكون هذا المجتمع قوياً وفعالاً بأفراده، زخماً زاخراً بعطائه. والطفولة من جانبها هي الميدان الفسيح للخيال. ففيها سيقيم الخيال مهرجاناته البديعة للعب. حيث ينمي الأطفال فيها شخصياتهم، يتدربون على حيواتهم القادمة. وهنا يبرز دور الخيال جلياً في تكوين المثل العليا للحياة وتزيين هذه المثل بأجمل الصور وأكمل المعاني، التي تنشد إليها وتسعى من أجل تحقيقها. والتربية تدعم هذا الاتجاه بوسائلها الناجعة، وتربط ما بين "المثل الأعلى" والواقع، بمزاوجة ثرّة خصبة تدفع الفرد ليزاوج ما بين صبوته وطموحه إلى القيم والمثل وما بين الواقع. وإذا ما تجاوزنا – في العمر – مرحلة الطفولة الممرعة اللصيقة بالخيال، ودخلنا إلى مرحلة النضوج – مرحلة العلم والعقل – فنرى للخيال الدور الهام أيضاً. وذلك عن طريق "الحدس" فالحدس هذا النوع الراقي والمتقدم من ملكة الخيال لدى الفرد، والذي فرض نفسه كموضوعة تربوية في المناهج المدرسية والعمليات الفكرية، أصبح اليوم مطروحاً كموضوعة أساسية في الساحة العلمية وبوساطته صرنا نرى تراخصاً وتساهلاً. بل مرونة في تعاملنا مع المبادئ العلمية المبنية على الجبرية والحتمية القانونية.
وحصل إنفراج في تحديداتها وشروطها. الأمر الذي ساعد على ترويج مفاهيم "النسبية" وربط الإنسان بالكون بمتصل كوني أو وعي كوني.
فراح العلماء يتخيلون في الحدس العلمي كما يفكرون في التجارب الوضعية، ويستنبطون الحقائق والمعارف العلمية الحديثة على ضوئه. والحدس هذا، بوصفه شكلاً من أشكال المعرفة أو بالأحرى من وسائلها وأدواتها، أصبح يتقدم ويتطور في وظيفته ومساهمته حتى أصبح في هذه المكانة الهامة في العصر الحاضر، من التربية والمعرفة والاكتشاف.
ولنصغ إلى "لويس دوبرويل" صاحب النظرية المشهورة في الميكانيك التموجي – (الكوانتا) – التي تضارع نظرية "أينشتاين" في النسبية، يقول: "الرموز الرياضية الشيء الوحيد الذي يعبر بدقة عن العلاقات بين ظواهر الطبيعة. ولكن يجب ألا تمتص هذه الحتمية المنطقية الطبيعية الحدسية الفيزيائية.. فالحدس والخيال هما وحدهما يقدران على تحطيم هذا الإطار – آلية الأسباب والنتائج للشكلية.. الرياضية"[2].
ويتابع دوبرويل نفسه: "فالخيال يساعد على تمثل جزء من الطبيعة الفيزيائية بلمحة واحدة. وعن طريق صورة تبرز بوضوح معالم إرتباط ذلك الجزء. والحدس يجعلنا نتنبأ بجانب من الواقع فجأة وبنوع من الاستبصار الباطني، هاتان الموهبتان "الحدس والخيال"، إمكانيتان تخصان العقل البشري بشكل خاص وقد لعبتا وتلعبان دوراً أساسياً في تشييد صرح العلم"[3].
ونراه يستطرد أيضاً: "الاستقراء القائم على الخيال والحدس، هو وحده الذي يفسح المجال لانتصارات الفكر الكبرى لأنّه يحطم بقفزات لا عقلية.. تلك الحلقة الصلبة التي يكبلنا بها التفكير الاستنباطي – المنطقي"[4].
وبهذه الميزة الاستقرائية التي تعود بأصلها إلى الخيال والحدس يسمو الفكر الإنساني على كل الآلات الصماء: "لأنّ الفكر الإنساني يسمو – بالاستقراء – على كل الآلات نهائياً، التي تفوقه في الحساب والتصنيف إلا أنها لا تستطيع أن تتخيل وتحدس"[5].
إذن تفوق عليها الفكر الإنساني بالخيال والحدس. يقول هربرت ماركيوز:
"فالحدس ليس ملكة غامضة من ملكات الفكر ولا تجربة غريبة، وليس مفصولاً عن التحليل المفهومي. بل هو النتيجة الأولى لهذا التحليل"[6].
حتى "لينين" يؤكد في (دفاتره الفلسفية) هذه المقولة، فيقول: "فلا يعقل إنكار دور الخيال في أكثر العلوم صرامة". وهكذا نرى الخيال قد دخل عالم المعرفة وأصبح يعالج موضوع الفكر – في الخيال – بصيغة احتمالية أو تناحرية على حد تعبير هربرت ماركيوز نفسه: "يظهر موضوع الفكر فيه (في الخيال – الحدس) كأنّه كائن فعلاً، أو كأنّه على صلة تناحرية بوضعه الاحتمالي المباشر"[7].
ونرى هذا المفهوم الاحتمالي – الخيالي الحدسي – يتفق مع منهج التربية الأصلية، التي تعتمد بموجبه على إنفتاح التعليم في نفس الفرد وعلى ترسيخ قابلية التعليم لا التعلم ذاته. وذلك وفقاً لهذه المقولة القديمة الحديثة التي قالها "جان جاك روسو" منذ قرنين: "إننا لا نريد أن نخلق إنساناً متعلماً ولكننا نريد أن نخلق إنساناً قابلاً للتعليم" وهذا المفهوم الرائج في التربية الحديثة اليوم، يجعلها تركز على احترام الإنسان وإعطائه الحرية لاستعمال قدراته ومواهبه وملكات نفسه كافة.
قال قديماً "سنيكا" الروماني: "لسنا أمام قربة نملؤها – ويعني الإنسان – وإنما أمام موقد، علينا أن نلهبه".
وهكذا تصبح التربية أداة بيد الفرد، لا الفرد أداة بيدها. وطبعاً البون شاسع بين المبدأين.
وبهذا الأسلوب التربوي، تصبح المعارف بيد الإنسان، لا الإنسان بيد المعارف. كل ذلك وفق مبدأ "الاحتمال" الذي زودنا به الخيال وحدسه الفعال، وأورث فينا هذا التقدم العصري العجيب.
الهوامش:
[1]- كتاب المنعطف الكبير، ص7 لـ"روجيه غارودي".
[2]- كتاب لويس دوبرويل والميكابيك التمجي ص ن للكاتبة (ماري 010 توتيلا).
[3]- المصدر نفسه، ص51.
[4]- المصدر نفسه، ص51.
[5]- المصدر نفسه، ص5.
[6]- كتاب الإنسان ذو البعد الواحد، ص100 لـ"هربرت ماركيوز".
[7]- كتاب الإنسان ذو البعد الواحد، ص151 لـ"هربرت ماركيوز".
المصدر: كتاب في معنى العمل
ارسال التعليق