باتت التكنولوجيا المرجعية الوحيدة من نوعها في تفعيل الحياة المعاصرة. نتطلق فيما يلي إلى علاقة هذه الحقيقة بظاهرة التخصص. تُعرّف التكنولوجيا بأنها الواسطة الأولى والأخيرة التي يُلجأ إليها لإحداث أي تغيير مهما اختلف حجم التغيير وسواء كان إيجابياً أو سلبياً. ومهما كان الموقف المعلن لأحدنا من العلم والتكنولوجيا. لقد انفصل العلم ومعه التكنولوجيا إلى عدد كبير من المحاور المتباينة المتباعدة التي يُجري البحث في كل منها اخصائيون يعرفون الكثير عن تفاصيل محورهم الضيق ولا يدرون أي شيء خارج حدوده. يوصف الأخصائيون في هذا السياق بأنّهم يعرفون الكثير الكثير عن القليل القليل. تتقدم الحياة اليومية يفعل النتائج التي يخلص إليها الباحثون في كل محور إذ تذوب وتتحد كل النتائج من كل المحاور لدفع الحياة إلى الأمام.
يتميز المتخصص في عصرنا بتركيز شديد يوجهه لتحليل مادة بحثه متجاهلاً كل العالم من حوله.
قد يحرم هذا التجاهل العالم الباحث من عناصر ضرورية لبحثه تتوفر في محور أو أكثر من المحاور العلمية المختلفة عن محور بحثه. لن يستطيع أيُ إنسان أن يحيط بالمواضيع المتضمنة في كل المحاور وقد لا يستطيع من حيث المبدأ أن يُلّم بالمواد العلمية المصنفة ضمن أحد المحاور. إذا تحدثنا عن الإنسان العادي فنقصد الإنسان الذي لا تتضمن فعالياته أي بحث علمي أو تكنولوجي في أي محور من المحاور. إذا أجرينا تقويماً شمولياً لأي إنسان من منظور إجمالي المحاور العلمية والتكنولوجية كافة نجد أنّ الإنسان المتخصص هو إنسان عادي بمعنى من المعاني. لقد ثبت أنّ الإنسان المتخصص الباحث في مسألة محددة قد يحتاج معلومات داعمة لبحثه من محور آخر ولن يكون بمقدوره أن يحصل عليها مباشرة ببساطة لأنّه لا يدري بوجودها كما ويجهل أهميتها لبحثه إن هو عرف أنها موجودة. إذ ذاك لابدّ من العودة إلى الإنسان العادي. قد يعجز الإنسان العادي من حيث المبدأ عن تأمين المعلومات المطلوبة لكنه يتمكن من صياغة الحكم الضروري على عمل المتخصص والمستند إلى معايير تقع خارج نطاق اهتمامات المتخصص. يلعب هذا الحكم ولا شك دوراً رئيسياً في لفت نظر الباحث المتخصص إلى المصدر المحتمل للمعلومات التي يحتاجها. يرتبط هذا الوضع بشرط أساسي بتجسد بضرورة فهم الإنسان العادي للإنسان المتخصص. نخلص مما تقدم إلى استنتاج مفاده أنّ العلم قد غدا أساسياً ومصيرياً إلى درجة يصعب معها تركه للعلماء المتخصصين وحدهم.
لابدّ للعلم المستقبلي من أن يُطور على أساس قاعدة واسعة من آراء الأناس العاديين. كان العلم والتكنولوجيا بطيئين في ارتقائهما أثناء القرون القليلة الماضية لذا كان تأثيرهما ضئيلاً وغير ملحوظ إبان حياة فرد أو حتى حياة جيل من الأجيال. لم يكن أحد ليخطر على باله تساؤل من نوع التساؤل التالي "كيف سيكون شكل الحياة بعد موتي"، لا بل ذهب معظم البشر إلى الاعتقاد بمبدأ الثبات، فالأفكار ثابتة، والأدوات محددة في بناها وفاعلياتها. كان هناك شبه إجماع بأن لا جديد تحت الشمس.
لم يعد الأمر كذلك الآن! لكن ما هو مدى التغيير الذي طرأ يا تُرى؟ لقد حصل التغيير على نحو مفاجئ. نقصد بالمفاجئ هنا أن تحولاً ملحوظاً في حياة العالم أخذ طريقه إلى النور في غضون نصف قرن. إن أبناء الجيل الذين عاصروا النصف الثاني من القرن العشرين ودلفوا إلى القرن الحادي والعشرين قد عاشوا خبرات نادرة. لقد شهدوا تغييرات جذرية طارئة أكثر من مرة. يكفي أن نذكر بالعزلة المعلوماتية الكاملة التي عاشها كل منهم إبان طفولته وبالسيل المعلوماتي الذي يجرفهم ويجرف غيرهم الآن بقوة يصعب معها الانتقاء والاصطفاء وإلى الحد الذي أصبحت المعلومة عنده تفرض نفسها مهما كانت طبيعتها.
تبرز هنا ضرورة الثقافة العلمية. كيف يجب أن يكون المستقبل الذي يصنعه العلم والتكنولوجيا. إنّ الكتلة البشرية بمعظمها ما زالت تقبل حتى الآن كل ما يترتب على التطبيقات المتسارعة للعلم والتكنولوجيا دون تقويم مناسب أو إعادة نظر. لا أدل على ذلك من الحقائق المذهلة التي يعرفها كل منا ولا يأبه أثناء ذكرها. إن مخزون المتفجرات في العالم الآن يكفي لتفكيك كل بنية على كوكب الأرض إلى ذراع من العنصر الأصلي الأوّل: الهيدروجين. إنّ الباحث في علم النفس الاجتماعي ليحار إزاء هذه الحقيقة وأمثالها. يؤثر الرأي العام في العالم بقوة لرفع فريق كرة قدم إلى القمة وإنزال فريق آخر إلى الحضيض. يظهر الدور البارز للرأي العام المذكور في تفعيل الموسيقى الهابطة ونشر الغناء المفتقر إلى الموهبة.
حدث أمر معاكس في القرن التاسع عشر. ففي ذلك القرن صعدت الموسيقى الإنسانية السامية إلى القمة بفعل الخيارات الواضحة التي عبّر عنها معظم الناس في البلدان التي كانت آخذة بالتقدم في ذلك العصر. لكن الناس في تلك البلدان لم يتنبهوا في نفس الوقت إلى ما كان يحدث من تطور غير ملحوظ للعلم والتكنولوجيا. لقد تدنت معايير التذوق الآن مع بقاء عدم الاكتراث بالعلم والتكنولوجيا على حاله. وحتى في البلدان التي لم يدخل العلم والتكنولوجيا حياتها بالقدر نفسه ساد الجنوح النفسي الاجتماعي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين نحو اللحنية رفيعة المستوى. انعكس الجنوح بعد ذلك كما حدث في البلدان الأخرى. إنّ المشكلة ليست في العلم بل لربما في السبق السريع الذي أحرزه العلم مقارنة بتواترات الانفعال الوجداني الجمعي. ما زالت هذه التواترات عاجزة عن بلوغ التناغم المنشود مع التسارعات المذهلة اليومية في العلم والتكنولوجيا. لابدّ إذن من وضع خطط سريعة من قِبل العلماء والتكنولوجيين لشرح منجزاتهم وعرض معانيها العميقة بمصطلحات مبسطة. بكلمات أخرى إن على العلماء والتكنولوجيين الهبوط من أبراجهم العاجية والحديث إلى الأناس العاديين بما يمكّن هؤلاء من بلورة خيارات آمنة وذات مصداقية للمستقبل الذي يفرض العلم والتكنولوجيا صناعته.
لا يستطيع العلم والتكنولوجيا الاستمرار إن لا تتوفر وعلى نحوٍ دائم عناصر بشرية ذات تأهيل علمي رفيع المستوى. إنّ تواجد هذه العناصر هو الاشتراط الأساسي والمرجعي في بقاء وتطور العلم والتكنولوجيا. من هنا كانت ضرورة تحرير عملية التعليم من قيد المردودية الاقتصادية. يرفع هذا التحرير من المردودية الاقتصادية في القطاعات الأخرى. إن أحداً لا يدري من هو المبدع التالي في محور ما من محاور العلم والتكنولوجيا. من هنا كانت ضرورة أن تُفتح أبواب التعليم أمام الجميع. وكما تضمن ديمقراطية التعليم رفع المردودية الاقتصادية كذلك تفعل ديمقراطية الصحة. بكلمات أخرى إن تطبيق شعار الصحة للجميع هو ضمانة لنماء وارتفاء العلم والتكنولوجيا. من جانب آخر، قد يقضي إنتاج أسلحة الدمار الشامل على كل المنجزات الإنسانية، حتى إن لم تُستخدم تلك الأسلحة، ذلك أن مشكلة التخلص منها وتفكيكها ليست سهلة على الإطلاق. يعني ذلك إلغاء أيّة مردودية اقتصادية مهما كان نوعها. إنّ عدم الاكتراث الذي تواجه به الكتلة البشرية مسألتي ديمقراطية التعليم وديمقراطية الصحة هو ذاته موقف عدم الاكتراث الذي تقفه إزاء استمرار إنتاج أسلحة الدمار الشامل. لن تستطيع الكتلة البشرية التحول إلى الاكتراث إلا على خلفية من الثقافة العلمية الشمولية. لقد بات مطلب المؤسسة الثقافية العلمية مطلباً ملحاً في كل أنحاء العالم. تمتد مسؤولية هذه المؤسسة على مساحة نفسية اجتماعية واسعة. إن عليها أن تُفعّل الكتلة البشرية وصولاً بها إلى حالة الإكتراث.
إنّ العلم في المنظور النفسي الذاتي العميق وفي المنظور النفسي الاجتماعي هو فن من الفنون ولعله أرقى الفنون. ليس العلم مسؤولاً بأية حال من الأحوال عن انحسار المشاعر الجمالية في عصرنا. عندما يخرج أحدنا إلى العراء في ليلة مظلمة صافية ويتأمل السماء لاشك أن مشاعر جياشة تجتاحه في مقدمتها احساس بالجماليات العميقة للقبة السماوية وقد يخطر بباله أنّه إن حاول بحث تكوين تلك القبة باستخدام الأدوات النظرية والعملية للعلم فإنّ المشاعر الجياشة المذكورة سرعان ما تتضاءل وتخبو لينقلب صاحبها في النهاية إلى مجرد أداة من الأدوات التي ذكرناها. ماذا لو عرف أحدنا أنّ العلم كشف عن وجود كواكب تغلفها أجواء من غاز الفحم وحمض الكبريت وأخرى تعصف بها الرياح على مدى فترات زمنية طويلة وعن وجود أقمار في المجموعة الشمسية مصنوعة من الماء المغلّف بجليد الماء الأمر الذي يحمل على الاعتقاد بوجود حياة متقدمة من نوع ما فيها. وقع العلماء على عدد من الكواكب حول نجوم أخرى غير الشمس بعضها يشبه الأرض في الحجم والتكوين. ما الذي يمنع من وجود كائنات قد تشبهنا على بعض تلك الكواكب. تُعزى جماليات السماء إلى تلك النقاط الباهتة التي تتوزع بشكل مثير على صفحتها. العلم وحده كان قادراً على معرفة طبيعة تلك النقاط. إنها قنابل هيدروجينية هائلة. هي نجوم بعضها بحجم الشمس بينما يتجاوز بعضها الآخر الشمس باحجم والكتلة. قد يصل الأمر ببعض النجوم هائلة الكتل أن تتفجر وتموت بشكل مأساوي مخلفة بالوعات كونية هي الثقوب السوداء.
ماذا لو قرأ أحدنا في كتاب من الكتب أنّ الثقوب السوداء ممرات إلى أكوان مختلفة، إلى أزمان وأمكنة مغايرة، وأن بعض العلماء بضعون الصيغ الرياضية الضرورية لتوظيف الثقوب السوداء للارتحال عبر الزمن نعم التجول عبر الزمن في رحلات قد تنقل المسافر إلى الماضي أو إلى المستقبل. لو أبْلغنا المتأمل بجماليات السماء أن ما يراه من بقع باهتة بالعين المجردة لا يتجاوز عدة آلاف وأنّ النجوم في مجرتنا قد يصل تعدادها إلى أربعمئة ألف مليون نجم وأنّ المتأمل لا يستطيع رؤيتها بسبب المسافات الكبيرة التي تفصلنا عنها. إذا أخبرناه إضافة إلى ذلك أن ملايين المجرات المتشابهة تنتشر في الفضاء الكوني متباعدة عنها بسرعات عالية وأن كل مجرة منها تضم بدورها عدة مئات من آلاف ملايين النجوم. ماذا لو عرف أحدنا أنّ الرياضيات كشفت عن سبب تماثلات كونية مثيرة؟ مثلاً: إن معظم المجرات في الكون لولبية ومعظم العواصف في أجواء الأرض لولبية وينبت الشعر على رأس كل منا بشكل لولبي بدءاً من نقطة. أما جزيء الـ (D.N.A) فهو لولبي كما تتسلق النباتات في منحنيات لولبية وشكل السرة لولبي. إن رغب أحدنا بمعرفة السبب فما عليه إلا مراجعة نظرية النقطة الثابتة التي برهنها عالم الرياضيات براور في العام 1911.
على الرغم من الضآلة الفيزيائية لحجم الإنسان فقد ارتحل فكره إلى أبعد الحدود دون أيّة قيود. إنّ هذا الفكر هو المسؤول عن المشاعر الجمالية وهو ذاته الذي لا يتوقف عن كشف كل ما هو مثير ومدهش. كيف يُمكن أن تكون الكائنات الأخرى على الكواكب البعيدة. هل يثيرها مشهد الكون كما يفعل منظر السماء على كوكبنا. ألا تنكمش المشاعر الجمالية إن بقي موضوعها ثابتاً على حاله دون تغيير؟ ما هي الطريقة التي تكفل توليد فعاليات جديدة مستمرة تضمن توليد المشاعر الجمالية دون توقف؟ إنها الطريقة العلمية. وحده العلم يزودنا بكل ما هو غير متوقع من الإرهاصات الجمالية.
يتصور الكثيرون أنّ الفنان إنسان عاطفي ينساق لحدوسه ولا يحتاج تبعاً لذلك لأيّة محاكمة منطقية. من جانب آخر، إنهم يعتقدون أنّ العالِم ينتقل عبر خطى استنتاجية وأنّه يرسم برامج عقلية تجعل منه إنساناً بارداً تجتاحه التقلبات العاطفية. الأمر على العكس من ذلك تماماً. إنّ الفنان والعالم إنسانان عاطفيان ينتظر كل منهما لحظة كشف تتحقق بفعل قفزة حدسية. وكما يرسم العالم خارطة استنتاجية، كذا يفعل الفنان. تلعب الخشية والرهبة دوراً كبيراً في دفع العالم لوضع صيغة نهائية لبحثه كما يحرك الانفعال الفنان لإكمال لوحته أو لبلوغ الذروة في عمله الموسيقى. كان الفنان الكبير ليوناردو ديفنشي راغباً برسم الأجسام البشرية وإبراز ما فيها من تكوينات عضلية لذا عمد في مطلع القرن السادس عشر إلى تشريح أكثر من ثلاثين جثة بشكل سري وخلص إلى تصورات تفصيلية لتكوين الهيكل العظمي والجهاز العضلي ترجمها إلى لوحات رائعة ما زالت تخلد ذكراه حتى الآن. تابع ديفنشي تشريح الجثث واكتشف دور القلب في دفع الدم عبر جهاز الدوران.
اكتشف أحد العلماء في مطلع القرن التاسع عشر أن ضوء الشمس يفكك كلور الفضة مخلفاً حبيبات سوداء من الفضة. بقي الاكتشاف مهملاً إلى أن راجعه أحد الفنانين الذي كان يعمل بتهيئة المنصات المسرحية. تساءل الفنان عما إذا كان بمقدوره أن يقلد المشهد الفعلي باستخدام هذا الاكتشاف وكان أن بدأ بإنتاج أولى الصور في العام 1830. تدعو كل وكالات الفضاء في عصرنا الفنانين المبدعين للعمل فيها. يضع هؤلاء الفنانون تصاميم وتصورات للمسابر الفضائية وينقلونها إلى المهندسين بغية تحقيقها بشكل فعلي. صاغ العالم الاسكتلندي جيمس كلارك ماكسويل في العام 1879 أربع معادلات تميزت ببساطتها وأناقتها وتناظراتها الجمالية الواضحة. اختزلت المعادلات وأجملت كل التظاهرات المرتبطة بالضوء والكهرمغنطيسية بشكل عام. اقتنع العلماء بفعالية وصحة المعادلات. لقد ساعدت أناقة المعادلات على قبولها السريع.
نعرج هنا على معادلتين مختزلتين بالغتي البساطة وأساسيتين في الطبيعة. تؤكد المعادلة الأولى على أن طاقة أي جسيم هي من مضاعفات أحد ثوابت الطبيعة المعروف باسم ثابت بلانك. أما المعادلة الثانية فهي معادلة أنيشتاين التاريخية والتي تكافئ بين الطاقة والكتلة إذ تثبّت أنّ الطاقة تعادل جداء الكتلة بمربع سرعة الضوء. استطاع أحد علماء الكيمياء في العام 1874 أن يحل عدداً من المعضلات الكيميائية الأساسية المرتبطة ببعض المركّبات الكيميائية في النسج الحية. لقد كشف النقاب عن تعددية الروابط لعنصر الكربون. أصبحت قضية الجزيئات المعقدة تبعاً لذلك موضوعاً للفنانين يجسدونه بلوحات ثلاثية الأبعاد. أدى ذلك إلى تراكم انتهى في العام 1953 باكتشاف البنية اللولبية المزدوجة للحموض النووية وهي مفتاح الحياة. حقق ذلك العالمان جيمس واتسون وفانسيس كريك على خلفية التناظرات التي درساها بعمق قبل ذلك.
يصر العلماء اليوم على أن نظرية النسبية العامة لأينشتاين هي النظرية الصحيحة لتفسير ظاهرة الجذب الثقالي على الرغم من وجود عدد من النظريات المفسرة للظاهرة. يقول العلماء إنّ صحة النسبية العامة إنما تُعزى إلى أناقتها وجمالها.
المصدر: مجلة المعرفة/ العدد 468 لسنة 2002
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق