• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الزاد الروحي في الشهر الفضيل

د. أسعد السحمراني

الزاد الروحي في الشهر الفضيل

 

◄شهر رمضان محطة سنوية هامة في حياة المسلم، يحمل من العبر والخيرات ما يكفي لأخذ الزاد الروحي للعام كلّه. ولعل أهم دروس رمضان أنّه شهر نزول القرآن الكريم على النبيّ محمّد (ص) ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وليكون القرآن الكريم ايذانا بدعوة الناس إلى التحرر من كلِّ عبودية لغير الله، وبذلك يصبح عندهم العقيدة الراسخة، والإيمان القوي، مما يوفّر لهم فرص الفوز في الدنيا وفي الآخرة، لأنّ توحيد الله وعدم الإشراك به هو المقدمة الأساسية للالتزام العقيدي السليم.

(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185)، لقد كان نزول القرآن من أجل وضع حد للمفاهيم الفاسدة، والعقائد الوثنية، والقيم الجاهلية المادية، ليكون القرآن الكريم بما حمل من تشريعات وأحكام سفينة نجاة البشرية، وسبيل رشادها، ولذلك كان الخطاب فيه للإنسان، وصح أن نسميه طباً للنفوس والعقول، للنفوس يولّد فيها الاطمئنان الروحي فيذهب عنها رجس المادة ودنس الوثنية، وللعقول بتخليصها من الحيرة والقلق، وإشباعها بالقناعات العقيدية السليمة، مدّها بما نحتاجه من تشريعات وأحكام لحياتها.

إنّ شهر رمضان المقترن بنزول القرآن هو شهر الإنسان، ولهذا سميّ في الأثر "موسم الطاعة". فلقد بدّل الإسلام منهج تفكير العقول، وسنن ارتباط النفوس بالدنيا، وكان للمؤمنين مثالاً وقدوة في النبيّ محمّد (ص)، يستمدون من سيرته المنهاج السلوكي الذي يكون الجانب التطبيقي الملتزم بما أمر به الله والممتنع عمّا نهى عنه.

لقد حمل هذا المنحى الرسول الأعظم على ممارسة الدور التربوي لأصحابه الكرام وللمؤمنين السابقين من المهاجرين والأنصار، وذلك قبل أن يشرع في تأسيس دولة ومجتمع مبني على قيم ومبادئ الإسلام، وكذلك قبل أن يأتيه الأمر من الله بمواجهة الكفار عسكرياً، فإذا بركن الجهاد يكون في مرحلة لاحقة على تربية الذات، لأنّ الانتصار على الذات مقدمة للتمكن من أعداء الله وأعداء المؤمنين، وهذا ما حمله القول المأثور بأن: "الجهاد ضد النفس هو الجهاد الأكبر".

في العهد الأوّل للرسالة عانى المسلمون ما عانوا من أذى الكفار والمشركين، فصبروا وصابروا وثابروا، لتكون كلمة الله هي العليا، في تلك المدرسة تربّى الصحابة الكرام تربية جعلتهم يسمون فوق قيم الجاهلية ليستمدوا من الروح القرآنية، والسيرة النبوية، نمطاً جديداً من الحياة عنوانه الأكبر الوحدة المجتمعية والتضحية والإيثار، وعقيدته توحيد الله.

بعد الترفع عن قيم الجاهلية بين أهلها حيث كان القابض على دينه كالقابض على جمر، كانت مسألة الاستغناء عن المال والرزق يوم لبّى مسلمو مكة أمر الهجرة إلى المدينة المنوّرة حيث أخوتهم في العقيدة. فلقد هجر المسلمون قوانين الجاهلية، وهاجروا عن أهلها، ولو كانوا ذوي قربى لهم، وانتقلوا إلى رحاب مجتمع جديد أقامه النبيّ محمّد (ص) في المدينة على أساس تشريعات الإسلام وأحكامه. فسمت رابطة العقيدة فوق العلاقات القبلية، وقام نمط من العلاقات الإنسانية وفق مفهوم الحديث الشريف: "ربّ أخ لم تلده أمك".

وفي المدينة نفسها وبفضل ونعمة من الله استطاع الرسول القائد أن يلغي ثارات الجاهلية ونزاعاتها من أتباعه الأوس والخزرج فتآخوا في الله، وتآلفت قلوبهم، وتوطدت أواصر العلاقات بينهم، فإذا بحاضرهم المسلم يقتلع كلّ سلبيات ماضيهم الجاهلي.

لم نبعد في حديثنا هذا عن مناخات القيم الرمضانية، لأنّ رمضان من بين الشهور كلّها هو الذي خصه الله بنزول القرآن، وفي نظام الصيام نفسه أفضل سبيل لصناعة وحدة الموقف للمؤمنين. فلو أجهد نفسه أي قائد أو حكومة لكي يمارس أبناء قومه كلّهم عملاً واحداً في آنٍ واحد لعجز. ولكن إرادة الله جعلت المسلمون يعتادون ذلك حيث يتوقف أبناء المجتمع الواحد عن الطعام عند الفجر في وقت واحد، ويجتمعون حول مائدة الإفطار في وقت واحد عند المساء.

وأفراد الأسرة الذين يسعون في طلب الرزق، أو العلم، أو غير ذلك لا يتيسر لهم الالتقاء حول المائدة الواحدة وبانتظا إلا بفضل المنهج الرمضاني. والإنسان الذي أحلت له الطيبات من الرزق الحلال يتمتّع بما شاء منها، تراه يمتنع عنها في وقت الصوم إرادياً، التزاماً بفريضة الصيام المفروضة من الله، وبذلك تتجسد الطاعة لله العلي القدير، والصدق في التعامل مع فرائض الإسلام، فيقترن القول والعمل في ذات المؤمن، مما يولّد التكامل والتوازن في شخصيته.

أما درس الإخاء في موضوع الالتزام الرمضاني فهو تحريك إحساس المؤمن تجاه غيره ممن حرموا قسرياً وفي غير رمضان من طيبات الرزق، مما يحفز الصائم على التفكير بمساعدة المعوزين والمحتاجين. وإذا كان المؤمن أخاً للمؤمن فإنّ في شهر رمضان خير مدرسة لترسيخ قواعد الأخوة هذه. فالإخاء هو رابطة قاعدتها الإيمان لها صفة الديمومة والاستمرار، بينما الرّفقة، أو التحالف، أو الصداقة روابط محدودة بأهداف وزمن، تكون نهايتها بانتهاء الروابط المصلحية.

لهذه الدواعي لم تعتمد روابط الجاهلية في بناء المجتمع المؤمن الجديد في المدينة، وإنما كانت رابطة التآخي التي لا يوازيها شيء من القوة والفاعلية، وصياغة الوحدة والتكامل بين أبناء الجماعة الواحدة.

إنّ مجتمع المدينة الأوّل نموذج يتوجب على الناس دراسته للاقتداء به.

وفي نظام التآخي اطمأن المهاجرون حيث وفّر لهم هذا النظام العون والمساعدة على المصاعب الحياتية التي أصابتهم، فلقد تركوا موطنهم الأصلي حيث زرعهم وضرعهم وتجارتهم، وانتقلوا إلى موطن جديد لم يستطيعوا بهذه السرعة ترتيب أوضاعهم الاجتماعية فيه بعد.

إنّ هذا التآخي لم يكن بداعي التحالف، أو الولاء، أو المصاهرة، أو المصالح المادية المشتركة، وإنما بفضل الله، فكان تآخياً في الله ولله. وهذا ما أخبرتنا عنه الآية الكريمة: (لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) (الأنفال/ 63). وفي كلِّ مكان وزمان عندما توجد الأخوة في الله البعيدة عن الطمع والحسد والجشع، يقترن بوجودها وجود الإيثار والعفّة فتستقيم العلاقات، ويتماسك المجتمع كالبنيان ممّا يساعد على صناعة النصر والتقدم.

أما إذا اعتمد غير التآخي في نظام العلاقات، كأن يعتمد نظام التغالب، أو الهيمنة لجماعة على أخرى، أو لشخص على آخر مما لا تقرّه شرعة الأخوة، عندها يحل التنازع والتناقض محل الألفة والوحدة، ويحل التباغض محل التحابب، ويكون ذلك منزلقاً خطيراً يقود إلى الهزيمة والفشل، وهذا ما نهانا عنه الله تعالى بقوله: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال/ 46).

الفتنة والتنازع من المهلكات، والمفسدات للعلائق بين الجماعة الواحدة، وهذا كان وما زال هدفاً يهودياً استعمارياً، ومن يسعى في الفتنة هو مسهل لمخططاتهم. وإذا كان شهر رمضان شهر تكريس الوحدة في أداء العبادات، وفي الشعور بين المؤمنين، فلا بأس أن نتذكر فيه، خاصة في أيامنا هذه قيمة الوحدة وكم هي هدف يرميه الأعداء بسهامهم، من خلال حكاية شاس بن قيس اليهودي الذي كان في المدينة، وعايش الفعل التوحيدي للإسلام بين الأنصار والمهاجرين، وخاصة بين الأوس والخزرج، مما جعل ذلك حصنا ومنعة للجماعة، ومصدر قوة كان العامل الرئيسي فيه إرادة الله وهديه.

وكان شاس بن قيس من كبار يهود المدينة الذين يكنون البغضاء للمسلمين وللرسول (ص)، مرّ ذات يوم بجماعة من الأوس والخزرج التقوا في مجلس واحد تظللهم راية الإيمان، وتصهرهم رابطة الأخوة، فغاظه ذلك الموقف، ونوى الدس والمكيدة على عادة اليهود، ومن تتلمذ في مدارسهم، فطلب من شاب يهودي يرافقه، أن يجالس القوم، وينشد لهم شعراً كانوا يتقاولونه في الجاهلية، وأن يذكر لهم يوم بعاث وهو من أيام التقاتل في الجاهلية بين الأوس والخزرج. ففعل الشاب اليهودي ما أمره به شاس بن قيس، وكادت تنجح المكيدة، وحدد القوم يوماً ومكاناً لمنازلة بعضهم على منهج الروح الجاهلية القبلية، وتناهى خبر ذلك إلى رسول الله (ص)، فتوجه إلى القوم ليخمد نيران الفتنة، وخطب فيهم، ومما جاء في خطبته:

"يا معشر المسلمين، الله الله، ابدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنفذكم به من الكفر، وألّف بين قلوبكم".

وإذا كان شهر رمضان شهر الفرقان الفاصل بين الحقّ والباطل فإنّ أكبر أنواع الباطل هو الفتنة التي لا يقتصر ضررها على صانعيها وإنما تشمل بنارها كلّ أبناء المجتمع، ولهذا أمرنا الله تعالى باتقائها وتجنبها بقوله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (الأنفال/ 25).

وقد تكون الفتنة ممن أخذوا من الإسلام رداء يسترون به نواياهم، وهذه أشد بلاء من مكائد اليهود والمستعمرين، وهذا الأمر ليس جديداً، فالمنافقون يوجدون في كلِّ عصر، ويتخذون لهم من بعض شعائر الله مكاناً للدسائس، وهذا ما فعله بعض المنافقين الذين بنوا مسجداً ضراراً يتظاهرون به بالإسلام لكي يمرّروا مؤامراتهم، ولكن لم يطل الأمر بهم حتى كشفت حقيقتهم للنبيّ محمّد (ص) وانّ هذا المسجد جعله المنافقون لتفتيت وحدة المجتمع وحياكة المؤامرات، فأنزل الله في حقهم: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (التوبة/ 107).

وبناة المسجد الضرار المنافقون يتكرر فعلهم في كلِّ عصر، ولكن أمرهم لن يطول لأنّ إرادة الله بنصر المؤمنين فوق كيد الكائدين، وأمرهم سيفضح في كلِّ مرة لتستمر وحدة الجماعة، وتبقى كلمة الله هي العليا. فليكن رمضان شهر الحس المرهف الذي يستطيع بواسطته كلّ مؤمن أن يميّز بين الطيب والخبيث، فرمضان شهر الطاعة والمجاهدة، وأول وأهم قواعد النجاح في الحركة الجهادية هو الحفاظ على عقد الجماعة المؤمنة منتظماً متراصاً، لأنّ الجماعة هي السبيل إلى تأييد الله لنا بالنصر والعزة. وإذا كان الاعداد ضرورة جهادية، والاعداد بذل الوسع والجهد في التحضير لمواجهة الأعداء، فإّن أهم عنصر في الاعداد، وهو مفتاح إيجاد القوة، الحفاظ على الوحدة بمحاربة كافة أشكال الفرقة.

انّه من المفيد في هذا المضمار، ولمزيد من التأكيد على خطر الفتنة، وضرورة تجنبها لما تخلف من خراب شامل، أن نذكر ما جاء على لسان الإمام عليّ (ع) في إحدى خطبه في "نهج البلاغة" حيث قال: "إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، ويتولى عليها رجال رجالا، على غير دين الله". فالمسألة إذن ترك دعوة الوحدة في كتاب الله وسنة نبيه (ص) واستبدالها بما هو شر، استبدالها بأهواء وأمزجة، وأحكام محدثة لتخدم مصالح من تولى غير الله، ولذلك يختلط الحقّ بالباطل عند مثل هؤلاء، فيتمكن الشيطان منهم، أو من كثير منهم، ولا ينجو إلا القليل، مما يجلب الخراب للمجتمع، لأنّ الفتن والاقتتال بوابة المنزلق الخطير. وعن هؤلاء المتبعين لأهوائهم، المتنازعين في دنيا فانية يقول الإمام علي (ع): "يتنافسون في دنيا دنية، ويتكالبون على جيفة مريحة (منتنة)، وعن قليل يتبرأ التابع من المتبوع، والقائد من المقود، فيتزايلون (يتفارقون) بالبغضاء، ويتلاعنون عند اللقاء ثمّ يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف (الاضطراب)، والقاصمة الزحوف (الكاسرة الشديدة الزحف)، فتزيغ قلوب بعد استقامة، وتضلّ رجال بعد سلامة..".

ولذلك نقول: فليكن شهر رمضان محطة لمحاسبة الذات، ولقمع الهوى المضل، والعصبية المدمرة، وليكن عنوان أيّة حركة أو عمل قول الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران/ 103).

 

المصدر: مجلة الموقف/ العدد 27-27 لسنة 1404هـ

ارسال التعليق

Top