• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

التفسير بين الذاتية والموضوعية

هاشم الموسوي

التفسير بين الذاتية والموضوعية

◄إنّ مسألة التعامل مع النص القرآني، واكتشاف ما يختزن ويشع به من معنى ومراد، تفسيراً أو تأويلاً أو إظهاراً، هي من أهم مسؤوليات الجهد العلمي الذي دعا إليه القرآن تحت عنوان التفكّر والتدبّر، وفهم معنى القرآن، أو فقهه أو تأويله، أو استنباط محتواه.

وبما أنّ القرآن مصدر بقاء الشريعة والقانون الإسلامي، ومقياس الضبط وتنظيم التفكير، وضعَ العلماء القواعد الأساسية، والمنهج العلمي المنظّم لاستكشاف محتوى الخطاب القرآني.

وإنّ من أخطر ما يهدد التعامل مع القرآن وفهم معناه، هو الذاتية، والمسلّمات القبلية التي يحملها المفسّر والباحث في القرآن، وبالتالي يعمل هؤلاء المتعاملون مع القرآن على فرض آرائهم ومعتقداتهم وتحميلها على القرآن الكريم، بل ترى المفسّر وصاحب الرأي الكلامي أو الفلسفي أو غيرهما، يعرض رأيه ونظريته في بعض الأحيان ثم يأتي بالآية ليسند بها ما يعتقده، أو يفكر به، أو ما يريد إثباته، وليس هذا تفسيراً، ولا رجوعاً للقرآن، ذلك لأنّ التفسير هو اكتشاف ما في آي القرآن؛ لذا جرّت هذه الاتجاهات إلى العبث بالمعنى القرآني والتحريف لمحتواه. ذلك لأنّه إخضاع المحتوى القرآني للاتجاهات الذاتية.

وفي البيان النبويّ الشريف توضيح كافٍ للفصل بين الذاتية والموضوعية في التفسير. قال (ص): "تعلّموا القرآن، واقرأوه، واعلموا أنّه كائن لكم ذكراً وذخراً، وكائن عليكم وزراً، فاتبعوا القرآن ولا يتبعنكم، فإنّه مَن تبع القرآن نهج به على رياض الجنّة، ومَن تبعه القرآن زجّ به في قفاه حتى يقذفه في جهنم".

وقال (ص): "إنّما أتخوف على أُمّتي من بعدي ثلاث ضلال: أن يتأولوا القرآن على غير تأويله، ويتبعوا زلة العالم.. فأمّا القرآن فاعملوا بمُحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وأمّا العالم فانتظروا فئته، ولا تتبعوا زلته..".

ويؤكّد الباحثون أنّ ما ورد عن أئمة أهل البيت (ع) من روايات أنّ أُناساً حرّفوا القرآن، إنّما كانوا يقصدون بذلك تحريف معناه، وليس تحريف كلماته وحروفه من الزيادة والنقصان، كما تصوّر البعض.

وهذا التحريف للمعنى القرآني هو الذي تحدّث عنه القرآن بقوله: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ) (النساء/ 46).

قال الشيخ الطوسي في تفسير هذه الآية: "يعني يغيرونها عن تأويلها".

إنّ المشكلة الكبرى في التفسير، أو الأخذ من القرآن، تكمن في خطأ المفسّر، أو إخضاع الآية لرأيه، وكم هو دقيق تشخيص الإمام عليّ (ع) لهذه الظاهرة عندما قال: "يُعطف الهوى على الهدى إذا عطفوا الهدى على الهوى، ويُعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي"، وتنتشر هذه الظاهرة في الفكر العقيدي بشكل أوضح. إذ عبثت الاتجاهات الباطنية، أو آراء بعض الفلاسفة والفِرق الكلامية في الدلالات القرآنية.

ومن المفيد أن نذكر عينات من التفسير الذي يتحكّم فيها رأي المفسّر بدلالة الآية.. من تلك العينات تفسير ابن عربي الباطني لقوله تعالى: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) (النساء/ 161).

قال: "وأخذهم ربا فضول العلوم، كالخلاف والجدل واللذات البدنية، والحظوظ التي نهوا عنها".

وفسّر قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) (إبراهيم/ 35)، فسّره بقوله: "أي، بلد البدن آمناً من غلبات صفات النفس، وتنازع القوى وتجاذب الأهواء".

وكتبَ الشيخ محمّد الغزالي ناقداً للذاتية المفسّرة يقول: "كنتُ أنظر أحياناً إلى طريقتنا في فهم القرآن، فكنت أجد أنّها طريقة تستحق التأمّل، بمعنى: أنّه لكي نقول: إنّ العمل الذي نؤديه هو من صنع الله، استدللنا بالقرآن (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات/ 96) وانتزعنا هذه الآية من السياق كلّه لكي تدل على مذهب أهل السُّنة: إنّ العمل مخلوق لله، أو نسينا أنّ هذا الكلام لو صحّ، ما كان عبدة الأوثان مسؤولين، لأنّهم إذا كانوا مخلوقين لله، وشركهم ووثنيتهم مخلوقة لله، فما عليهم من ذنب، لكن نحن أخذنا ظاهر الآية وقطعناها من سياقها، من قبل ومن بعد، وجعلناها دليلاً لرأي باطل.. إنّها آفة التجزيء".

وكتبَ الفقيه المفكّر الإسلامي الشهيد السيِّد محمّد باقر الصدر (رض) نقداً رافضاً للتفسير الباطني الذي أنكر حجية الظهور لتمرير آراء خاصّة. قال (رض): "ذهبَ جماعة من العلماء إلى استثناء ظواهر الكتاب الكريم من الحجية، وقالوا بأنّه لا يجوز العمل فيما يتعلق بالقرآن العزيز إلّا بما كان نصاً في المعنى، أو مفسّراً تفسيراً محدداً من قبل النبيّ (ص) أو المعصومين من آله عليهم الصلاة والسلام".

ثم ردّ هذا الرأي الذي اعتمد روايات ضعيفة السند بل مكذوبة، كما قال بأنّ رواتها في الغالب من ذوي الاتجاهات الباطنية المنحرفة على ما يظهر من تراجمهم.

ثم قال (رض): وثانياً: "إنّ هذه روايات معارضة للكتاب الكريم الدال على أنّه نزل تبياناً لكلّ شيء وهدىً وبلاغاً، والمخالف للكتاب من أخبار الآحاد لا يشمله دليل حجية خبر الواحد ".

كتفسيرهم لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة/ 90).

بأنّ الخمر والميسر والأنصاب والأزلام هي أسماء لأشخاص يدعو القرآن لاجتنابهم، وليست هي الحقائق الدال عليها ظاهر اللفظ.

وتعريف التفسير بدقته العلمية وبأنّه: "الكشف عن مراد الله تعالى من كتابه العزيز".

يؤكد لنا أن تدخّل الذاتية يحول دون الكشف عن مراد الله تعالى، وبالتالي ليس ما تنتجه الذاتية هو تفسير لكتاب الله، ولا كشف عن محتوى الآية، بل هو رأي المفسّر، أو الباحث، أو المستدل، وتحميله لرأيه على الآية.

وحين تقرأ التفاسير والآراء العقيدية والفقهية والفلسفية والأخلاقية وغيرها نجد المذهبية الذاتية ظاهرة واضحة في فهم القرآن وتفسيره حتى صار التفسير والاستدلال بالقرآن عند البعض هو استدلال على ما يؤمن به، وكأنّ القرآن أنزل ليؤيد رأيه واتجاهه المذهبي.

إنّ المنهج السليم في فهم القرآن واكتشاف محتواه. هو المنهج العلمي الذي يتعامل مع القرآن كما يتعامل الباحث في مجال الطب والفيزياء والكيمياء. إنّا وإن كنّا نميز بين الاكتشاف المختبري في مجال الأبحاث المادّية، وبين مجال الاكتشاف في العلوم الإنسانية من صعوبة استبعاد الذات استبعاداً مطلقاً، إلّا أنّ أمام الباحث في القرآن منهجاً علمياً للاكتشاف والاستنباط يحافظ على مساره في البحث الموضوعي، إذا ما استفاد من المبادئ العلمية من غير عصبية ولا انحياز.►

 

المصدر: كتاب القرآن في مدرسة أهل البيت (ع)

ارسال التعليق

Top