ولاشكّ في أنّ الدعوة الإسلامية منذ انطلاقها في بداية القرن السابع الميلادي قد أعطت لمعتنقي الدين الجديد هويّة تتجاوز الانتماءات العشائرية ثمّ العرقية. واللغة العربية كانت إطاراً جامعاً لعطاءات ثقافية منوّعة ولغة تعبير أدبية وعلمية لشعوب متعددة باتت تُعرف باسم شعوب الإسلام تنتشر من حدود الصين إلى شواطئ الأطلسي. والحضارة الإسلامية في أوج ازدهارها في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، وقد اكتملت مظاهرها وتعبيراتها العمرانية والفلسفية والعلمية والأدبية، كانت عطاءً مشتركاً كدين وثقافة ونمط عيش. وتلك الظواهر التي كانت تتكرر في قرطبة والقاهرة ودمشق وبغداد وسمرقند وبخارى هي التي أعلنت عن هوية حضارية مشتركة وجامعة. وبالرغم من استعادة شعوب إسلامية للغاتها وبالتالي لثقافاتها القومية، فإنّ الفارسية والأوردية والتركية لغات تلوّنت تلوّناً بالغاً بالعربية حروفاً ومفردات. ولم تستطع أن ترتفع خلال عصور متعاقبة لتبلغ مستوى الانتماء الديني لدى الهنود الإيرانيين والعثمانيين والعرب.
ومن المعروف أنّ الدراسات الإسلاميّة في أوروبا على أيدي مستشرقي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر هي التي أعادت رسم معالم الحضارة الإسلامية. ومن غالان إلى دوزي، ومن دوساسي إلى غوستاف لوبون وآدم متز وغوستاف فون غرونباوم. كانت هذه الحضارة يُعاد اكتشافها والتعرف إلى معالمها وإحصاء منجزاتها في شتى الميادين. وقد عمل مستشرقون على آلاف المخطوطات وأعادوا إبراز أعمال شعراء وكتّاب وأدباء وفقهاء وعلماء كان الزمن قد طوى ذكرهم. وعاد المسلمون إلى اكتشاف ابن الرومي والمعرّي، المسعودي والأدريسي، ابن الهيثم والخوارزمي، الفارابي وابن رشد ومئات آخرين. بحيث لا تقدر أن تفصل إعادة اكتشاف معالم الحضارة والثقافة الإسلاميتين في عصرها الكلاسيكي، عن مجمل الجهود التي بذلتها أوروبا الاستعماريّة في رسم معالم الحضارات الإنسانية عبر التاريخ.
اكتشف مسلمون من أمثال الطهطاوي وعلي مبارك وخير الدين التونسي حضارتهم الإسلامية في أوروبا. كان الطهطاوي قد تلمّس مصر القديمة والتمدّن الإسلامي خلال إقامته في باريس. ويعود إليه الفضل في نشر كلمة "التمدن" حين تكلم على التمدّن الأوروباوي. أمّا علي مبارك، فقد رأى أنّ علوم المسلمين وتمدّنهم هو أساس في حضارة أوروبا المعاصرة، وكان يسعى لفكرة استعادة المسلمين لحضارتهم السالفة. وتعرّف خير الدين التونسي، من خلال قراءته للمؤرخ سيديو على حضارة المسلمين. لكن هؤلاء الأعلام الذين يؤسسون مع آخرين أمثال البستاني والشدياق لعصر النهضة العربي كانووا قد استوعبوا قيماً جديدة من خلال إقامتهم في أوروبا، فقد تحدّث الطهطاوي عن الوطنية، وكان يفكر بمصر. وأشار علي مبارك من بين مسائل عديدة إلى تلك الإشكالية التي تقع بين الدين والعلم، وروايته التي تتحدث عن رحلة رجل دين إلى أوروبا تحمل عنواناً معبراً هو: علم الدين. أما خير الدين التونسي فعبّر بطريقة صريحة عن ضرورة الأخذ بالتمدن الأوربي والإبحار في اتجاه تياره الجارف. وكان ما يزال يستخدم تعبير التمدّن، ويعتقد تبعاً لتعاليم كبار فقهاء المذهب المالكي بأنّ على المسلمين أن يأخذوا ما فيه "مصلحتهم".
من البيّن أنّ "التمدن الإسلامي" الذي أسهب في شرح معالمه وميادينه المسيحي جرجي زيدان اعتماداً على مصادر غربية وأوروبية، كان يُعاد اكتشافه، وليس التمدن سوى التعبير أو المصطلح المبكر الذي استبدل لاحقاً بمصطلح الحضارة. والحضارة العربية – الإسلامية كما ارتسمت معالمها تدريجياً لدى النخب المسلمة تمثّلها المسيحيون العرب وأسهموا في صياغتها ورسم ملامحها الكلاسيكية وقد ساهم في ذلك اللبنانيون الذين عكفوا على إنهاض اللغة العربية الفصحى الكلاسيكية. ونجد خير مثال على ذلك في أعمال ناصيف اليازجي الذي لم يتوانَ عن تقليد مقامات الهمذاني. والحقيقة أنّ الحضارة الإسلامية، كهوية تاريخية تمثّلها المسلمون المحدثون، كانت مثالاً ساهم به المسيحيّون العرب في القرن التاسع عشر، وهي الحضارة التي ساهم في بنائها العرب والفرس والأتراك وشارك فيها المسيحيون في عصرَي الدولة الأمويّة والعباسيّة في الترجمة والطب والإدارة وغير ذلك.
وإذا كان النهضويّون العرب من مسلمين ومسيحيين، والأتراك والفرس والهنود، قد حاولوا أن يجدوا نوعاً من التوافق بين الهويّة الحضارية الإسلاميّة الكلاسيكية وبين الحضارة الأوربيّة الحديثة محاولين تطعيم الأولى بمنجزات الأخرى، فإنّ الإصلاحيّة الإسلامية منذ الأفغاني صاغت السؤال بطريقة أخرى: لماذا تقدّم الأوروبيّون وتأخّر المسلمون، ونجد أصداء هذا السؤال في أعمال محمّد عبده ورشيد رضا وشكيب أرسلان. وقد طرح السؤال شكوكاً كبيرة حول نوايا الدول الأوروبية والغرب عامّة.
عملت الإصلاحية الإسلامية على إعادة المثال الديني الأوّل عبر إحياء السلفيّة ونجد ذلك عند رشيد رضا وحسن البنا. مستبعدةً ما ارتآه خير الدين من ضرورة الأخذ بتيار المدنية الأوروبية، بل لعلّ الإصلاحيّة الإسلاميّة قد ذهبت في الاتجاه المضاد، فرأت في الحضارة الغربية تهديداً للهوية الدينية. فقد انبرى جمال الدين الأفغاني إلى "الردّ على الدهريين" مستعيناً بالحجاج الأشعري، وردّ حسين الجسر على النظريات النشوئية والنظريات الحديثة مدافعاً عن العقيدة معلناً انتماءه إلى الماتريدي وكتب محمّد عبده رسالة التوحيد على غرار كبار المتكلمين، وكتب رشيد رضا الوحي المحمدي. وقد ظهرت هذه المحاولات وسواها في الوقت الذي ظهر فيه التمدّن الأوروبي على شكل تهديد للإسلام والمسلمين.. ونجد أنّ مسار الإصلاحية الإسلامية في موقفها المرتاب من الحضارة الحديثة قد وصل إلى سيد قطب حين تحدّث عن جاهلية القرن العشرين معبّراً عن إحدى وجهات النظر الإسلامية من الحضارة الحديثة.
إنّ العلاقة بين الدين والهوية الحضارية كمسألة نظرية، هي نتاج التحديات التي أحدثتها أوروبا في العالم الإسلامي. فلا نستطيع أن نتحدث عن هوية حضارية إسلامية دون أن نأخذ بالاعتبار الحصيلة الجدلية بين عالم الإسلام وأوروبا المعاصرة. وقد أدّى الجدل إلى استيعاب مزدوج لحضارة الغرب المعاصرة من جهة، وحضارة الإسلام التاريخية من جهة أخرى.
إنّ التيار النهضوي العائد للقرن التاسع عشر، نجد استمراره في التيارات الليبرالية والقومية التي تريد بطرق مختلفة أن تبني نماذج معاصرة للحضارة يلعب فيها الدين دوراً على مستوى الإيمان الفردي والقيم الأخلاقية، بينما نجد أنّ التيار الإصلاحي قد سعى إلى بلورة نماذج دينية تحاول إيجاد إجابات على التحديات التي طرحتها أوروبا المسيحية أو اللادينية.
وفي جميع الأحوال، فإنّ العالم الإسلامي، منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى نهاية القرن العشرين، قد واجه بتياراته المختلفة مسائل الدولة والقوميّة، وقد تكيّف مع تلك المفاهيم التي طبعت تاريخه الحديث. إلا أنّ هذه التكيفات التي لم تستقر، لم تؤدِّ بعد إلى استقرار العلاقة بين الدين والولة وبين الدين والوطنيّة، وبين الدين والهويّة الحضاريّة.
المصدر: كتاب الدين والدنيا في المسيحية والإسلام
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق