• ٢٨ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ٢٦ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العبادات في ديننا

البصائر للبحوث والدراسات

العبادات في ديننا

◄(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) (المائدة/ 3).

هاهو ذا شهر رمضان العظيم يطلُّ بوجهه المشرق المنير، ويطالع الأُمّة الإسلامية؛ فتستيقظ معه قلوب، وتتنبه مشاعر، ويهتف في قلب كلِّ مسلم صوت من أصوات الحق: "يا باغِيَ الشَّرِّ أقصِرْ، ويا باغِيَ الخَيْرِ هَلُمَّ".

هاهو ذا شهر رمضان العظيم شهر الوحي والتنزيل: (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ) (البقرة/ 185)، يطلُّ على أمة القرآن، فإذا بها تتهيأ لبناء ركن من أركان الإيمان، مستجيبةً لنداء الحقِّ تبارك وتعالى: (شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (البقرة/ 185)، والصوم عبادة من العبادات التي ندب الحقُّ إليها عباده، وهو ركن من أركان الإسلام الخمسة التي لا يتم إلا بها، ولا يكمل إلا معها، والمفطر في رمضان بغير عذر آثمٌ مجرمٌ في حقِّ نفسه، مفرطٌ في جنب الله، مستهترٌ بشعور الناس، خارجٌ على أدب أُمّته وملته، يجب أن يحاسب على هذا حساباً عسيراً بيد المجتمع فيزدرى ويحقر، وبيد القانون فيؤاخذ ويعزز، ولعذاب الآخرة أشد وأكبر لو كانوا يعلمون.

ولقد وقفت برهةً أمام تشريع الإسلام في العبادات؛ فأخذني العجب العاجب من هذا التشريع الحكيم والوضع الكريم السليم الذي وضعت على قواعده هذه العبادات.

ليست العبادات في الإسلام ضرائب تؤدى، أو واجبات تقضى، أو فرائض تفرض فحسب، ولكنها مظهر الصلة بين الله وخلقه، ومشرق النور في قلوبهم من ملكوته، والحجاب بينهم وبين وساوس الإثم ونزواته، ونمط من أنماط التكريم للإنسان؛ إذ يسعد فيها بمناجاة العليم الخبير الذي بيده ملكوت كلّ شيء.. تلك هي العبادات الإسلامية في معناها الروحي، ثمّ انظر بعد ذلك على أي القواعد وضعت.

العبادات في الإسلام لا كلفة فيها ولا حرج، (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة/ 185)، وضعت على البساطة التامة والتخفيف الكامل الذي لا يؤذي أحداً، ولا يؤلم إنساناً، ووضعت إلى جانبها الرخص والكفارات التي تعفي غير القادر من العمل مع الإبقاء على حرمة التشريع وقداسة القانون؛ فمن لم يستطع الوضوء تيمم، ولم يستطع الصوم الآن؛ قضى بعد حين أياماً معدودات، وإن لم يستطع مطلقاً؛ ففدية طعام مسكين، ومن سافر؛ فله أن يجمع الصلوات وأن يقصرها، وله أن يصوم وله أن يفطر، (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 184).

ثمّ هذه العبادات بعد ذلك.. لكلِّ عبادة منها معناها الاجتماعي، ومغزاها العملي؛ فليست ألغازاً محجوبة، وليست طلاسم مجهولة، وليست ألفاظاً خالية من المعاني، وليست ضروباً من الشعوذات في الأعمال والمباني، ولكنها أقوال أو أفعال لها في النفس أثرها، ولها في المجتمع خطرها، وما تعمد إلى واحدة منها بالتحليل وإنعام النظر حتى ترى من حكمها ودقائق أسرارها ما يبهر الأفهام والفكر؛ فهذه الصلاة برنامج كامل لتربية الفرد الكامل والشعب الكامل، وهذا الصوم تحرير للنفس الإنسانية من قيود العادات وأدران الشهوات، وتقوية للإرادة في الخير حتى تنتصر دائماً على نزعات الشر، وفيه بعد ذلك مآرب أخرى، وإن أسمى ما يحرص عليه الإنسان أن يكون حرّاً مريداً، وبذلك يمتاز عن الحيوان، ومن تحرر من أهواء نفسه؛ فقد ملك أمره، وعلى هذا القياس كلّ العبادات الإسلامية، وما انطوت عليه من خير للناس.

ثمّ هذه العبادات بعد ذلك لا تعمل عملها، ولا ينال العابد ثوابها حتى تصدر عن وحي نفسه، وتنبع من أعماق قلبه؛ فالنية الصالحة شرط في صحتها وقبولها، وإخلاص القصد ركن من أركان ثوابها، "نِيَّةُ المرءِ خَيْرٌ مَنْ عَمَلِهِ"، و"إنَّمَا الأعمالُ بالنِّيَّات، ولكلِّ امرئٍ ما نَوَى"؛ فلن يرفع إلى الله عمل لا إخلاص معه، (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (البينة/ 5)، والأعمال صور قائمة، وأرواحها وجود سر الإخلاص فيها؛ فليست الحركات والسكنات والأقوال والإشارات بمغنية عن صاحبها شيئاً ما لم يصحبها قلب خاشع مخبت صادق التوجه إلى الله العلي الكبير.

تلك بعض خصائص العبادات في ديننا، (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) (النساء/ 82)؛ فالحمد لله على نعمة الإسلام.

 

المصدر: كتاب كيف نستقبل رمضان

ارسال التعليق

Top