كما هو معروف أدخلت وكالة مشروعات البحث المتطورة التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية الإنترنت أثناء محاولاتها تصميم نظام اتصالات مدعم بالحاسوب الذي يمكن أن يظل سليماً في حالة اندلاع حرب نووية. وقد تمّ هذا من خلال الإبتكار الخارق: اللامركزية، وكان من المقرر تقسيم المعلومات إلى عدد هائل من مجموعات الرسائل التي ستجد طريقها عبر شبكة توصلها إلى وجهة معينة حيث يتم إعادة جمعها. كما قصد بهذا أن يحمل النظام كميات هائلة من البيانات من دون معوقات أو تزاحم وأن تعيد اتخاذ مسارها باستمرار حول نقاط التقاء غائبة، ما يجعل من العسير شل حركة الشبكة. وتعد عملية "تشكيل الرسائل في قالب أو مجموعة بطول محدد مسبقاً" والبروتوكولات التي تنسق ذلك هي المبادئ الرئيسية وراء الإنترنت. وبالتالي تمّ إلغاء مركزية التركيب الأساسي لشبكة الإنترنت وقد نتجت آثار واسعة النطاق للوسيط من خلال هذا التركيب المفتوح مباشرة.
وقد تطور الإنترنت بطرق غير متوقعة ومترددة، واتضح هذا الإتجاه منذ البداية تقريباً عندما تمّ تنصيب أبرانت (APRANET) – إحدى شبكات نقل توصيل القوالب القديمة – (والتي تعد أول عقدة فيما يعرف الآن بالإنترنت) التي تصل عدداً من الجامعات الأمريكية. وكلما أضيف المزيد والمزيد من الحاسوب للشبكة، أصبحت خدمة بريد إلكتروني متنامية، وقد شهدت الثمانينيات من القرن العشرين تقديم لوحة النشرات والمنتديات، حيث استطاع المستخدمون إرسال الرسائل وتبادل المعلومات حول موضوع معيّن. واخترع تيم بيرنز لي في بداية التسعينيات الـ"هايبرتكست – فهرس معلومات غير تتابعي" (بالرغم من أن الفكرة لم تكن جديدة) وهو البروتوكول الذي يسمح بإيجاد صفحات على الشبكة ووسائل للتواصل فيما بينها وتصنيفها. ولقد كان الهايبرتكست ومتصفح الشبكة (السوفت وير الخاص بالغرافيك الذي سمح للمستخدم بقراءة والمشاركة في قراءة صفحات الهايبرتكست) هو الذي أخذ الإنترنت من يد المؤسسات وسمح بأن تصبح الوسيلة التي نراها اليوم - عنصر الذي تم تطبيعه في مقار العمل والمنازل الغربية - ، كما إن "الشبكة عالمية الإنتشار" هي ما يفهمه أغلبية الناس "الإنترنت"، ومنذ ظهورها في منتصف التسعينيات اتسعت خطاها بسرعة غير مسبوقة لتنشئ بذلك نظاماً لا يمكن التحكم فيه ولا تصوّره.
وتنعكس الصعوبة الأخيرة في مصائر نطاق من الأيديولوجيات والنماذج التي حاولت أن تحدد الإنترنت. ففي أيامه الأولى اتصل الإنترنت أحياناً بنوع من الفوضوية المعلوماتية، "أخلاقيات الهاكر" (المتلاعبين) التي اشتقت من "الثقافة المضادة" ذات التأثير التقويمي على جيل من المبرمجين. وتأثرت هذه الأيديولوجية (التي تمّ اختصارها ببراعة في جملة "يجب أن تكون المعلومات حرة") بالحماس الذي أوحى به الإنترنت مبدئياً كمنتدى ديمقراطي يستطيع كل فرد أن يكون بارئه. وفي نهاية التسعينيات تم إستبدال هذه الرؤية بالفوائد التجارية الهائلة – التي استحتثت شهيتها الموجة الأولى من أثرياء الإنترنت – الأفراد الذين جمعوا ثروات ضخمة مما لا يزيد على مجرد فكرة "مرتبة". وقد بلغ هذا الإتجاه أوجه في "ازدهار الدوت كوم"، الذي نتج في غضون سنوات قليلة من الأزمة حيث كان الإنترنت أداة تجارية في أيدي عدد قليل من اللاعبين الكبار على الساحة.
وبالرغم من هذا ثبت أن بنية الإنترنت المفتوحة مثيرة للقلاقل حتى بالنسبة إلى المجالات القائمة، كما توضح ذلك خبرات مجال الموسيقى والأفلام وصناعة السوفت وير، وبافتراض حتمية التقارب الإعلامي (انهيار وسائط الإعلام المنفصلة داخل وسيط رقمي واحد) أصبحت القدرة على الحفاظ على ملكية المحتوى هدفاً رئيسياً، وبالرغم من ذلك تحمل جميع المحاولات لتركيز أو تنظيم الإنترنت بين ثناياها المخاطرة بالتضحية بالمبدأ الأساسي الذي جعل منه هذه الأداة الفريدة، ولذلك يحتمل أن تظل تلك التقانة غير المتوقعة للمستقبل المتوقع.
وبكونه نظام معلومات عالمياً الآن يعدّ الإنترنت جزءاً لا يتجزأ من العولمة، كما إنها تقوم بتعجيل العديد من اتجاهات مجتمع الشبكات، كما تقدم لا مركزيته منبراً للجماعات المهمشة لنشر وجهات نظرها ولتحدي أصالة وسائط الإعلام التقليدية. وبالرغم من هذا ينبغي الإنتباه إلى أن نسبة هائلة من سكّان العالم لا تستطيع الوصول إلى هذا المصدر، ما يؤدي إلى وجود انقسام رقمي حقيقي.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق