• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الإمام الحسين (ع).. برؤية حضارية

الإمام الحسين (ع).. برؤية حضارية

ذكرى العاشر من محرّم تشكّل قمة شامخة من قمم المواقف الإسلامية المشرّفة.
ذكرى كربلاء الحسين درس ضروري وهام لأمتنا.
الاهتمام الإسلامي بهذا المقطع التاريخي يستطيع أن يحيي روح "العزّة" في نفوس المسلمين.
الإسلاميون الذين ارتفعوا عن الحالة الطائفية توجّهوا نحو هذه الصفحات المضيئة من تاريخنا.
سيد قطب: ما من شهيد في الأرض تهتزّ له الجوانح بالحبّ والعطف، وتهفو له القلوب، وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين رضوان الله عليه.
يمرّ علينا شهر محرّم، ويوم عاشوراء، وذكرى كربلاء، وترتسم أمام الأعين مرّة أخرى صفحة من أنصع صفحات تاريخنا الإسلامي.
ذكرى العاشر من محرّم سنة 61هـ رغم كلّ ما فيها من مآس وفجائع، وما اشتملت عليه من صور انحطاط النفس الإنسانية وبيع الضمير والقسوة والوحشية في جبهة قَتَلَة الحسين بن علي (ع)، تشكّل قمة شامخة من قمم المواقف الإسلامية المشرّفة الرامية إلى تسجيل المثل الأعلى في السمو الإنساني، والصمود على طريق المبدأ، وإباء الضيم والطغيان، والتضحية بكل غال ونفيس في سبيل تحقيق رضا الله سبحانه، وفي سبيل انتشال الأُمّة من حالة الذل والهوان والاستسلام.
ذكرى كربلاء الحسين درس ضروري وهام لأمتنا تحتاجه دائماً، خاصة حين تتفاقم ظروف الإذلال والاستسلام. وهذا وأحاسيسها، وذاك مالا تستطيع الكتب والمقالات وحدها أن تفعله. لابدّ من استخدام الأدب والفنّ. ولابدّ من اهتمام تربوي وإعلامي وشعبي واسع، وهذا غير شائع مع الأسف على النحو المطلوب على صعيد عالمنا الإسلامي.
الاهتمام الإسلامي بهذا المقطع التاريخي الهام، وإحياؤه إحياءاً يدخل في الوجدان الشعبي، يستطيع أن يحيي روح "العزّة" في نفوس المسلمين، ويستطيع أن يعبّأ عواطف الأُمّة المسلمة في اتجاه رفض الخضوع للظلم والاستسلام للطغاة والمتجبرين. وبذلك يسهم في استنهاض الأُمّة وفي استعادة حركتها الحضارية.
لا يجوز أن تبقى ذكرى الحسين حيّة لدن طائفة من المسلمين دون غيرهم. لابدّ من إحيائها على الصعيد الإسلامي، عندئذ ستكون وسيلة "تقريب" بل توحيد لعواطف الأُمّة وأفكارها واهتماماتها وتطلّعاتها.
الإسلاميون الذين ارتفعوا عن الحالة الطائفية توجّهوا نحو هذه الصفحات المضيئة من تاريخنا، واستلهموا منها العِبَر والدروس، ومنهم "سيد قطب" رضوان الله تعالى عليه. فهو حين يقف عند معنى النصر في قوله سبحانه: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ) (غافر/ 51). يضرب مثلا من تاريخ الأنبياء بإبراهيم (ع) وهو يُلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته ولا الدعوة إليها، فهو في موقف نصر لا هزيمة.
ويضرب مثلا من تاريخنا الإسلامي بالحسين "وهو يُستشهد في تلك الصور العظيمة من جانب، المفجعة من جانب. أكانت هذه نصراً أم هزيمة؟ في الصورة الظاهرة بالمقياس الصغير كانت هزيمة. فأما في الحقيقة الخالصة وبالمقياس الكبير فقد كانت نصراً. فما من شهيد في الأرض تهتزّ له الجوانح بالحبّ والعطف، وتهفو له القلوب، وتجيش بالغيرة والفداء كالحسين (ع). يستوي في هذا المتشيّعون وغير المتشيعين، من المسلمين. وكثر من غير المسلمين!". (سيد قطب، في ظلال القرآن).
ولنقف عند نصوص من تاريخ ثورة الحسين لنتبين أهدافَ النهضة وأبعادها الإحبائية الحضارية:

- أنا أحقّ من غيّر:
قال الحسين (ع): "أيها الناس إنّ رسول الله (ص) قال: "من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله (ص) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله) ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله، وأنا أحَقّ من غيّر، وقد أتتني كتبكم ورسلكم ببيعتكم، وأنّكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن أقمتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، وأنا الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله (ص) نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهلكم، فلكم فيّ أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدي وخلعتم بيعتي فلعمري ماهي لكم بنكير، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم بن عقيل، والمغرور من اغترّ بكم، فحظَّكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم: (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ) (الفتح/ 10).

- كفى بك ذلاً أن تُرغما:
وقال الحسين (ع): أبالموت تخوّفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ وما أدري ما أقول لك! ولكني أقول كما قال أخو الأوسي لابن عمّه وهو يريد نُصرة رسول الله (ص) فقال له: أين تذهب؟ فإنّك مقتول! فقال:
سأمضي وما بالموتِ عارٌ على الفتى **** إذا ما نَوى خيراً وجاهدَ مسلما
وواسَى رجالاً صالحينَ بنفسهِ **** وخالفَ مثبوراً وفارق مجرما
فإنْ عشتُ لم أندَمْ وإن متُّ لم أُلَمْ **** كفى بك ذلاً أن تعيشَ وتُرغما

- أذنت لكم جميعاً فانطلقوا:
وقال (ع): "أثني على الله أحسن الثناء وأحمده على السراء والضراء، اللّهمّ إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة وعلمتنا القرآن وفقّهتنا في الدين فاجعلنا لك من الشاكرين، أمّا بعد فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا وخيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً عني خيراً، ألا وإنّي لأظنّ يومناً من هؤلاء الأعداء غداً، وإني قد أذنتُ لكم جميعاً فانطلقوا في حلّ ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي فجزاكم الله جميعاً، ثمّ تفرّقوا في البلاد في سوادكم ومدائنكم حتى يفرّج الله، فإنّ القوم يطلبونني ولو أصابوني لهوا عن طلب غيري".
فقال له إخوته وأبناؤه وأبناء إخوته وأبناء عبدالله بن جعفر: لِمَ نفعل هذا؟ لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبدا! فقال الحسين: يا بني عَقيل حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا فقد أذنت لكم. قالوا: وما نقول للناس؟ نقول: تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمال ولم نرمِ معهم بسهم ولم نطعن معهم برمح ولم نضرب بسيف ولا ندري ما صنعوا؟ لا والله لا نفعل ولكنّا نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك!
وقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال: أنحن نتخلّى عنك ولم نُعذر إلى الله في أداء حقّك؟ أما والله لا أفارقك حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، والله لو لم يكن معي سلاحي لقذبتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك. وتكلّم أصحابه بنحو هذا، فجزاهم الله خيراً.

- أنت ثقتي وعدّتي:
وقال (ع): "اللّهمّ أنت ثقتي في كلّ كرب ورجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدَّة، كم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت به العدوّ أنزلته بك وشكوته إليك رغبةً إليك عمّن سواك ففرّجته وكشفته وكفيتنيه، فأنتَ وليّ كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كلّ رغبة".

- إنّ وليّيَ الله:
وقال (ع): "يا أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوني حتى أعظكم بما يجب لكم عليّ وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري وصدّقتم قولي وأنصفتموني كنتم بذلك أسعد ولم يكن لكم عليّ سبيل، وإن لم تقبلوا مني العذر (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) (يونس/ 71)، (إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) (الأعراف/ 196)".

- لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل:
وقال (ع): "أما بعد فانسبوني فانظروا من أنا ثمّ راجعوا أنفسكم فعاتبوها وانظروا هل يصلح ويحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي، ألست ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه، وأولى المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله؟ أوَليس حمزة سيد الشهداء عمّ أبي؟ أوَليس جعفر الشهيد الطيّار في الجنّة عمّي؟ أوَلم يبلغكم قول مستفيض [فيكم]: إنّ رسول الله (ص) قال لي ولأخي: أنتما سيدا شباب أهل الجنة وقرة عين أهل السنة؟ فإن صدّقتموني بما أقول، وهو الحق، والله ما تعمّدت كذباً مذ عَلِمت أنّ الله يمقت عليه [أهلَه]، وإن كذّبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبدالله أو أبا سعيد أو سهل بن سعد أو زيد ابن أرقم أو أنساً يخبروكم أنّهم سمعوه من رسول الله (ص) أما في هذا حاجزة يحجزكم عن سفك دمي؟"
فقال له شِمر: هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول! فقال له حَبيب بن مظاهر: والله إنّي أراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وإنّ الله قد طبع على قلبك فلا تدري ما تقول.
ثمّ قال الحسين: فإن كنتم في شك ممّا أقول أو تشكّون في أنّي ابن بنت نبيّكم؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري منكم ولا من غيركم. أخبروني أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو بمال لكم استهلكته، أو بقصاص من جراحة؟ فلم يكلّموه، فنادى: يا شبث بن ربعيّ! ويا حجّار بن أجبر! ويا قيس بن الأشعث! ويا زيد بن الحارث! ألم تكتبوا إليّ في القدوم عليكم؟ قالوا: لم نفعل. ثمّ قال: بلى فعلتم. ثمّ قال: أيّها الناس إذ كرهتموني فدعوني أنصرف إلى مأمني من الأرض.
فقال له قيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم ابن عمّك، يعني ابن زياد، فإنّك لن ترى إلا ما تحبّ. فقال له الحسين: أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنوهاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد. عباد الله إنِّي عذت بربي وربكم أن ترجمون، أعوذ بربّي وربّكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب. ثمّ أناخ راحتله ونزل عنها".

المصدر: مجلة ثقافة التقريب/ العدد 44 لسنة 2011

ارسال التعليق

Top