يبدو الإعلام اليوم وكأنّه أمسك بمقاليد الأمور في العالم كله، هيمنته شاملة، تأثيره كوني، ومتغيراته لا حدود لها، أما تأثيراته على المستقبل فهي خارج القياس والتوقع؛ لأن إنسان الموجة الثالثة – على حد تعبير "توفلر" – بشخصيته ووسائله ووعيه، بعيد عن كل تجاربنا السابقة. وإذا كان الغرب المتقدم يعاني من وطأة وسائل الإعلام وقنواتها الضاغطة على الفكر والشعور، فإنّ السيادة الوطنية في دول العالم الثالث – وفي مقدمته عالمنا الإسلامي – يتآكل معناها التشريعي والجغرافي، حيث تنهار الحواجز أمام الفضاء المفتوح والمسموم في آنٍ واحد، إنّ استراتيجية الإعلام الغربي تنطوي على خطة محكمة للسيطرة الإعلامية يصبح الاستقلال السياسي أمام بثها المباشر ليس أكثر من لافتة. إنّ الثقافة الوطنية والهوية الإسلامية تتعرضان من خلال الفضاء الإسلامي لنسق قيمي مضاد ومغاير، وهو نسق له جاذبيته وإبهاره في ظل التقدم الذي أحرزته صناعة الكلمة المسموعة والمرئية والمقروءة، لا توجد لحظة في ساعات البث الفضائي الطويلة تخضع للارتجال، كل شيء هادف، وله دوره في الآلة الجهنمية التي ترنو إلى إحداث تغييرات فسيولوجية وسلوكية ومعيارية تكرس التبعية، وتجعل القيم الذاتية للمجتمعات قوالب ثلجية تحت وهج الإعلام الكوني.
لكل هذه الأسباب والدواعي، تبدو أمامي أهمية لقاء القاهرة في الخامس عشر من يناير 1992، حيث بدأت اجتماعات المؤتمر الثاني لوزراء إعلام الدول الإسلامية، المؤتمر يعنى أنّ المبادرة نحو تغيير الخطاب الإعلامي جاءت من أصحابها، كلنا يعلم أنّ الإعلام الغربي لا يكترث بمشكلاتنا، ولا يتحدث عن منجزاتنا، ومهما حاولنا لفت الأنظار إلى هذا الخلل في التوازن، وهذا التشويه للحقائق والتزييف للأخبار، فالحوار بيننا وبينهم – بين الشمال والجنوب – سيظل حوار طرشان، إنهم لا يجهلون ما نريد، ولكنهم يرفضون تنظيم الأدوار من أجل خلق نظام إعلامي عادل، لقد أدرك وزراء إعلام الدول الإسلامية أنّ الثقافة لا تموت بتهديد الآخرين لمواقعها، وإنما بتبديد أصحابها لما لديهم من عمق حضاري، ومخزون قيمي، فالحفاظ على الهوية الإسلامية، والثقافة الوطنية، ينبغي أن يكون همّا عاما لدى صانع القرار السياسي، ورجال الخطاب الإعلامي، لم يعد يخيفنا الصاروخ والبوارج، إن استراتيجية الصورة الدافئة التي تتسلل في ليل الشتاء الطويل إلى العقول قبل الجسد، وإلى القيم قبل العيون، هذه الاستراتيجية هي الخطر الحقيقي، إنّه "إيدز الصورة" بكل ما تثيره الكلمة من رعب وغثيان. والإيجابي في التجمع الإسلامي الإعلامي، هو الإدراك الحقيقي للخطر الحال والطوفان القادم. لقد كان واضحاً أمام المجتمع أن ابتلاع الثقافات شيء والحوار بين الأُمم والانفتاح على حضارتها ومنجزاتها شيء آخر. وهذا توجه إيجابي له وزنه؛ لأن إدراك المشكلة هو أهم الخطوات المعرفية نحو الحل، وهو إدراك جاء متزامناً مع أمرين: (أ) شعور متزايد بضرورة تجميع عالمنا الإسلامي بعد فرقة، وتقاربه بعد تباعد، وكان ميثاق الشرف لإعلام الدول الإسلامية خطوة هامة نحو إيقاظ روح الوحدة الإسلامية، وبث أهمية التعاون بعيداً عن التراشق بالألفاظ، والتنابذ بالألقاب والأقلام. (ب) شعور متزايد بالاغتراب الإعلامي في عالم تحكمه القوة بكل مدركاته المادية والمعنوية، وكانت محاولة دعم وكالة الأنباء الإسلامية – وقد طالت غفوتها – هذه المحاولة هي رؤية نافذة للاستلاب الخَبَري الذي نعانيه، وللمعطيات الخرساء التي تصوغها وكالات الأنباء العالمية على هواها لتجعل صورتنا عند "الآخر" هي صورة المتسول الجائع، والإرهابي الفظ، والمتوحش الأوحد، إنها صورة تفتح بوابة الغزو الثقافي على مصاريعها. إنّ هذا التوغل فينا سوف يوقف التنمية لصالح المحاكاة، ويعطل العقل الإبداعي لصالح القلم الاستهلاكي، وكما قيل، فإنّ الغزو الحضاري الذي يخدم غايات الغزو والإبقاء على الظلم ينطوي دائماً على نظرة ضيقة للواقع، ومفهوم جامد للعالم، وفرض رأي عالمي واحد على رأي آخر، إنّه ينطوي على تفوق الغازي، والشعور بالنقص من جانب ضحايا الغزو، وتُفرض على هؤلاء قيم معينة من جانب الغازي الذي يمتلكهم ويشعر بالخوف من فقدهم. وفكرة الامتلاك والخوف من الفقد هي جوهر النظرة الإعلامية الغربية لعالمنا الإسلامي ومقاومتها تكون بخلق تيار قيمي أصيل ينبع من وسائل الإعلام بعيداً عن الإنتاج الفج والهدف التجاري، إعلام يستهدف تحقيق الذات لا تسويق المنتجات، وهو ما يستدعي وقفة حساب مع النفس تستوعب المادة الإعلامية والكوادر الإعلامية والسياسية الإعلامية. أي وقفة حساب مع النفس تستوعب خريطة إعلام الدول الإسلامية بكل خطوطها وكل سفوحها ووديانها، حتى يمكن أن يختزن العقل المسلم خبرات وقيماً تستمد من هويته الحضارية وتحمي ثقافته الوطنية، فبغير قدر هائل من الخبرات وأنساق القيم وأنماط السلوك التي تكون عصية على الاختراق الإعلامي، فسوف نظل ريشة في مهب رياح الإعلام الغربي. إنّ الاستقبال أو التلقي ليس إلا استجابات تنطوي على مجموعة من الخبرات، فإذا أمكن دعم هذه الخبرات بنسق قيمي مستمد منا ومن ثقافتنا وإسلامنا، فإنّ هذه المقاومة الداخلية سوف تُفقد الاتصال الخارجي كل مدلولاته العقلية والشعورية. إنّ الكلمة المنطوقة لا توجد في وقت ثابت، وإنما توجد فقط كسلسلة من الذبابات، والصورة التليفزيونية لا توجد قط على الشاشة، وإنما توجد كتجميع لنقط متحركة، ويتولى تركيب نتاج ما يسمعه وما يراه في وقت لا يكاد يذكر، وطبقاً لنظرية "الرنين في الاتصالات"، فإنّ الاستقبال يتم بإيجاد تناسق بين الرسالة وخبرات الجمهور السابقة. ويصرح "مارشال ماكلوهان" بأنّ المعلومات التي تصل في حينها تحدث ارتباطاً يصل إلى الأعماق، فالتفاعل بين المواد المنقولة إعلامياً وبين المخزون الثقافي للذين يتلقون الاتصال هو المضمون الحقيقي لعملية الاتصال، وهذا المخزون الثقافي هو البعد الغائب في إعلام الدول الإسلامية، وهو المكون الأساسي لاستراتيجية الدفاع الإعلامي، بل إنّ هذا المخزون يتعرض يومياً للتبديد ومهدد من خلال المادة المستهلكة للضياع، وما لم ينتبه المسلمون لأهمية هذا المخزون الذي لا يصنعه لنا إلا الإسلام بمنجزاته في داخل العقل المسلم والبيت المسلم والمذياع المسلم والتلفاز المسلم والصحيفة المسلمة، فإنّ النزيف اليومي للهوية هو التهديد الحقيقي الذي يواجهنا اليوم، فإنسان بلا هوية هو إنسان مقطوع الصلة بماضيه وتراثه، محجوب عن كل ما يبصر على مرآة حاضره الكائن ومستقبله الذي سيكون. إن أهم ظاهرة في الكون المعاصر هي السيطرة عن طريق وسائل الإعلام بالكلمة التي تؤثر أو تثير حسبما يستهدف الإعلامي الخبير، وبالصورة التي تشكل الذهن وفق نمط معد سلفاً، ولإحداث متغيرات في السلوك والتصرفات محسوبة بدقة، ومستخدمة لصالح قوى تمسك بمقاليد الأمور، وعن عمد وسبق إصرار تحاول أن تصنع منا عقلاً تابعاً وأمة بلا جذور. إنّ إنسان العالم الثالث، خاصة العالم الإسلامي مطارد تحت وطأة إعلام معاد يصنع له عالمه على نحو لا يريده، ويصوغ سلوكياته في اتجاه زيادة الفجوة بين ما يعتقد وما يفعل. وقد يحدث ذلك عن وعي وقد يتم في خضم التخدير الإعلامي بعيداً عن إرادته. في كتابه (Media The Seconol God) "وسائل الإعلام الرب الثاني" يتحدث رجل الإعلام الشهير "توني شوانز" عن تجربة عريضة في التأثير بواسطة الإعلام في صنع قرارات الأُمم والأفراد حيث تؤثر وسائل الإعلام تأثيراً عميقاً على اتجاهات المجتمع، وعلى الهياكل السياسية وعلى الحالة النفسية لبلدان بأكملها. إنّ الآثار الجانبية لإعلان على الشاشة أو لدعاية عبر المذياع قد تكون أخطر في تأثيرها من الكلمة المباشرة أو الموقف الصريح. إن ترسانة ضخمة من أسلحة امبراطورية الإعلام الرهيب أصبحت تجتاح العالم كله تعربد بلا وازع، وتبنى وتهدم بلا غرض سوى تنفيذ سياسات من يملكون السيطرة عليها. لقد جعلت وسائل الإعلام كامنة فنياً تتحكم في داخلنا، وليس أمامنا مزيد من الوقت يضيع في الجدل حول ضرورة إعلام إسلامي يمثل استراتيجية حضارية تحمي الهوية المهددة، والفكر المستلب، والنفس الحائرة التي تضطهد ذاتها. أقولها: يا قوم إن المُرسِل في الرسالة الإعلامية اليوم يريد بنا كل شر، أما الرسالة فهي توزع علينا بالمجان وكل ثانية "تذاكر الهروين" الإعلامي المدمر، والذين يوزعون هذه السموم منهم الوافدون علينا، ومنهم من هم منا يحملون أسماءنا وبطاقات هويتنا ويأكلون معنا في الأطباق، ويسيرون إزاءنا في الأسواق، وكأنّهم مسلطون علينا وعلى أنفسهم. إنّ الوقت قصير، والخطر الحال والقادم لا حدود له فينبغي أن نتواصى جميعاً على إيقافه قبل أن يجرفنا الطوفان. المصدر: مجلة المسلم المعاصر/ العدد 60 و61 لسنة 1993ممقالات ذات صلة
ارسال التعليق