• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

أثر العقيدة في الفَن الإسلامي

محمد عودة سلمان

أثر العقيدة في الفَن الإسلامي
الإسلام هو خاتم الرسالات الإلهية، ومن أجل ذلك كان دعوة عالمية وديناً للناس جميعاً دون استثناء. وقد تكفّل الإسلام ببيان الإصول الاعتقادية والمبادئ الخلقية والتشريعات العملية التي من شأنها أن تنظم حياة الإنسان مع ربّه تعالى، ومع نفسه وأُسرته ومجتمعه وأمته من ناحية الحقوق والواجبات. وهذا كله يرتكز إلى عقيدة عظمى وأساس راسخ لا يتزعزع، هذه العقيدة هي كلمة التوحيد: (لا إله إلاّ الله). والتوحيد هو القاعدة الأولى في الإسلام التي يجب أن يؤمن بها قلب المسلم وينطق بها لسانه بقوله: أشهد أن لا إله إلاّ الله. لذلك قرر الإسلام التوحيد المطلق لله عزّ وجل في الذات، والصفات، والتوجه له وحده عزّ وجلّ بالعبادة. وقد قضت سُنّة الله في خلقه أن يكون للعقائد سلطان على الأعمال الدينية والدنيوية، فما يكون في الأعمال من صلاح أو فساد فإنما مرجعه إلى فساد العقيدة أو صلاحها. فالتوحيد في الإسلام هو التوحيد الخالص من الشوائب، الصادر من القلب، تتبعه حتماً جميع الفضائل المتعارف عليها، وذلك لأنّ كلمة التوحيد ليست لفظاً يقال، ولكنها كلمة ترسّخ في قائلها الاعتقاد بأنّ لا معبود ولا محيي ولا مميت ولا ضار ولا نافع ولا رازق إلاّ الله سبحانه وتعالى. بهذا تتحرر عقيدة المسلم، فليس لأحد عليه سلطان إلاّ الله عزّ وجلّ، ومن هنا، كانت عقيدة التوحيد هي لب الإسلام وقوته الدائمة المؤثرة في كل أفعال الناس، فما دامت عقيدة التوحيد مترسخة في نفس قائلها ومؤمناً تمام الإيمان بها فإنّ سلوك هذا المؤمن لا تشوبه شائبة من شِرك أو كفر. فالمعبود هو الله، ولذا، فعقيدة التوحيد تحرر المؤمن بها من عبوديته لإنسان مثله أو لشجرة من الأشجار أو لقطعة من الخشب أو لصنم من الأصنام أو لوثن من الأوثان. ولهذا فقد حرمت الشريعة الإسلامية رسم كل ذي روح، وذلك بنصوص صريحة جاءت في أمهات كتب الحديث والفقه الإسلامي، بعبارات لا تخضع لتأويل بعيداً كان أو قريباً، وذلك لوضوحها ونصاعة نصوصها. ولم يك هذا التحريم إلاّ لإبعاد كل مظهر يتنافى مع عقيدة التوحيد الصافية، ولمحو كل عهد جاهلي أو أثر وثني كان عليه الإنسان قبل أن يبصر طريق الهداية والرشاد، لذلك كان تحطيم الأصنام أول عمل قام به الرسول الأعظم (ص) عندما فتح مكة ودخل الكعبة، فلم يعد لها وجود في حياة العرب، وكذلك فعل المسلمون حينما فتحوا بلاد الروم فحطموا ما فيها من أصنام أو أزالوا منها ما يتنافى مع الشريعة الإسلامية، كما حرّم على المسلم صنعها أو بيعها أو اقتناؤها، لأنها دليل على الشِرك والوثنية ومظهر من مظاهر العبودية لغير الله، وقد أشار إلى هذا ابن القيّم رحمه الله في كتابه "زاد المعاد" وكذلك الصنعاني في "سبل السلام" وغيرهما. ولم يكن التصوير بأقل شأناً من الأصنام، فقد نهي الإسلام عن التصوير وأنذر المصورين بأشد العقوبات وذلك في أحاديث صحيحة تشير إلى انه أشد الناس عذاباً يوم القيامة هم المصورون. وأخرج الترمذي عن جابر (رض): نهى رسول الله (ص) عن الصور في البيت ونهى أن يصنع ذلك. فإن أزيل من الصورة ما لا تبقى معه حياة لم تكره في المنصوص، بأن أزيل منها رأسها أو لم يكن لها رأس. قال النووي رحمه الله: قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر، لأنه متوعد عليه بالوعيد الشديد المذكور في الأحاديث، وسواء صنعه لما يمتهن أو لغيره فصنعته حرام بكل حال، لأنّ فيه مضاهاة لخلق الله تعالى، وسواء ما كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس وإناء وحائط وغيرهما. وأما تصوير صورة الشجر وجبال الأرض وغير ذلك مما ليس فيه صور حيوان فليس بحرام. وهناك أحاديث أخرى تتضافر بالمعنى من ناحية تحريم صور ذوات الأرواح، لا يتسع المجال لتتبعها وسرد نصوصها، ويكفينا انّ الفقهاء قد أجمعوا على تحريم إتخاذ الصورة لكل ذي روح. ولم ينه الإسلام عن تصوير ذوات الأرواح فقط، بل نهى أيضاً عن تعليق وتزيين الجدر بها، كما تبيّن هذا من الحديث الذي رواه أبوطلحة (رض) انّ رسول الله (ص) قال: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة" (رواه البخاري ومسلم والترمذي). إنّ هذا التحريم لم يرم إلى حجز المواهب الفنية والحد من نشاطها، وإنما كان يهدف إلى ناحية معينة ومقصد محدد، وهو نقل الفرد المؤمن إلى حظيرة التوحيد والإسلام، وإبعاده عن كل أثر جاهلي، وصرف نظره عن كل ما يتصل بالجاهلية من أدران ومفاسد، وتنمية شعور التزام العقيدة الإسلامية وتشريعاتها، هذا من جانب، ومن جانب آخر، وهو الأهم، هو الحد من إتخاذ هذه الصور للشخصيات الإنسانية التي تستحق التعظيم ثم الإنتهاء بعد أجيال إلى عبادتها، وقد حدث هذا في الأمم السابقة، وكنائس النصارى أكبر شاهد على ذلك. فالإسلام بهذا التحريم أدرك الواقع ونظر إلى المستقبل، فجاء بمنهج سليم يضمن الحال والمال، لذلك كان لباب سد الذرائع فيه أثر كبير في حفظ الكيان الإسلامي. وقد يستغل بعضهم ما ذكرناه فيقول: بأنّ التحريم كان بسبب عبادة الناس للأوثان حينما كانوا مشركين، والآن فقد آمن الناس جميعاً وبعدنا عن عهد الوثنية، إذاً فلا بقاء لحكم التحريم. وفي هذا الادعاء جهل وتضليل. فأما الجهل: فانّه على الرغم من تقدم الإنسان، وعلى الرغم من حضارته المادية الغالبة في هذا الزمان، فانّ الكثير من البشر ما زالت عقائدهم تقوم على خرافات وأوهام باطلة، ومنها ما يقوم على عبادة الأوثان والأبقار – كما عند البوذيين والهندوس – ولهذا، فانّ عنصر الوثنية والجاهلية ما يزال موجوداً لدى بعض الفئات من البشر إلى جانب من الضلالات كبير في عبادات بعضهم. وأما التضليل: فانّ نصوص التحريم لم تكن لهذه العلة فقط، إنما جاءت لعلل كثيرة، منها: علة المضاهاة لخلق الله تعالى، وهي أهمها، وهذه العلة ملازمة لرسم ذوات الأرواح ولا تزول إلاّ بزوالها، وكل من حاول اخضاع الأحاديث الواردة لمثل تأويلات الإدعاء السابق فقد أفرط إفراطاً كبيراً، وحملها ما لا تحتمل، وزاغ بها عن الطريق الصحيح، فالمسلم يلتزم النصوص والعمل بها قبل أن يخضعها إلى أي تفسير، وخاصة إذا كانت واضحة جلية. كما لم يكن تحريم تصوير ذوات الأرواح في الإسلام لهدف آني فقط، بل هو لهدف بعيد، وهو الحفاظ على الأجيال القادمة ووقايتها من مكائد الشيطان وحجزها عن الوقوع في الشِرك بعد الإيمان، وإننا نلاحظ في زمننا الحاضر ما جلبه انتشار التصوير من فساد عارم شمل البشرية عامة، ولم تنج منه الأمة الإسلامية على الرغم من نصوص التحريم الصحيحة الصريحة، فلقد أصبح التصوير وسيلة مهمة لعرض مفاسد الأخلاق في كثير من بقاع الأرض، والدفع بالناس إلى أحضان الرذيلة. وهنا تتجلّى روعة الإسلام وحكمته البالغة في هذا التحريم، لأنه خبير بنفوس البشر عليم بغرائزها، وقد أراد لها النهوض بهذه الغرائز إلى المستوى اللائق بالإنسانية، فلم يحرم عليها شيئاً إلاّ وأباح لها ما يقوم مقامه ويسد مسده ويفوقه في حسن عاقبته، لذا فقد أجاز للمسلم رسم كل شيء ماعدا الأرواح، وحديث ابن عباس واضح جلي: فعن سعيد بن أبي الحسن (رض) قال: جاء رجل إلى ابن عباس (رض) فقال: اني رجل أصور هذه الصور فأفتني فيها، فقال له: أدن مني، فدنا حتى وضع يده على رأسه وقال: انبئك بما سمعت من رسول الله (ص)، سمعت رسول الله يقول: "كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صوّرها نفساً فيعذبه في جهنم" وقال ابن عباس: فإن كنت لابُدّ فاعلاً فاصنع الشجر وما لا نفس فيه. وقف الفنان المسلم أمام هذه النصوص تتنازعه رغبتان: رغبة الفن الحبيسة في نفسه تطلب منه الخروج، ورغبة التمسك بأمر الله ورسوله، لذلك بدأت عملية البحث عن منطلق سليم جديد، يحقق له رغبته ولا يتصادم مع تعاليم دينه، ويكون شاهداً على أصالته وغير مسبوق من أحد قبله، أي أسلوب فني جديد يحطم ما كان قائماً على أسس جاهلية ويعطي انطباعاً إسلامياً خالصاً. وبالفعل بدأت عملية التفكير والتطوير لما يراه، ثم يتعبها الإبداع الذي يصب فيه الفنان أحاسيسه وذوقه، بدأ الفنان المسلم يتفقد ما حوله وينظر إلى ما يراه محاولاً أن يجرد الأشكال الطبيعية من صفاتها الحقيقية مبتعداً عن أي شبهة في التحريم حتى ولو كان عمله مباحاً، محاولاً أن يصوغ أعماله في قوالب فنية بحتة رائعة يمنحها عناصر جمالية فريدة من نوعها، وبذلك يكون قد انتهج أرقى خطة مثالية في التعبير عن المشاعر، فالفن يبدأ حينما يأخذ الفنان في الانحراف عن المحاكاة الدقيقة للطبيعة، ويفرض عليها وزناً من عنده أشبه بأوزان الشعر وفقاً لما توحي به مشاعره وإحساساته بالجمال. وهكذا تكون العقيدة الإسلامية هي العامل الأول والأخير في قضية الفن الإسلامي، وما وصل إليه من إبداع، فقد دفعت الفنان المسلم إلى استغلال جميع قدراته العامة، فشحذ خياله لتحرير ما يراه حتى لا يطابق الطبيعة أو الواقع، فجاء فنه بطابع زخرفي بحت اعتبره بعضهم من أرقى الفنون. لقد نظر الفنان المسلم إلى الطبيعة بما فيها من ورود وزهور وأوراق وغصون، ولاحظ أشكالها وتمايلاتها وانحناءاتها، فجردها من واقعيتها وناغم بين حركاتها ثم كرر وناظر، وشابك وعانق، كل ذلك ضمن حركات فنية رائعة، وتوزيعات خلابة، وألوان ساحرة، ودقة متناهية لا نظير لها في باقي الفنون، حتى لتظن نفسك وأنت تنظر إلى زخرفة تشجيرية متشابكة وكأنك تائه في غابة متشابكة الغصون. ونظر الفنان المسلم إلى ما يراه في أعمال المهندسين والرياضيين وما يرسمونه من أشكال هندسية، فأخذ عنها وراكب بعضها فوق بعض فكونت لديه اشكالاً جميلة كالمسدسات والمثمنات والنجوميات وغيرها، فوزعها توزيعاً منطقياً دقيقاً متوازناً وجانس بينها، وجعل لنفسه نقاطاً ينطلق منها، فقرر بذلك قواعد وأصولاً ثابتة اختص بها الفن الإسلامي. ونظر أيضاً إلى ما يكتبه الناس في مراسلاتهم ومؤلفاتهم، وعلى الأخص كتابة القرآن الكريم الذي لاقى عناية بالغة لم يلقها كتاب في العالم، فاعتنى بخطوطه ونمقها وزخرفها ووشاها، وأبدع فيها غاية الإبداع فكان ما يسمى بالخط العربي. وفي كل هذا نرى الفنان المسلم ينطلق من مبدأ الخلية الواحدة، واهباً الخلية الفنية صفة التكاثر ليعمم بها الصفحة الفنية، ومبدأ الانطلاق من الأصل الواحد مبدأ أصيل في التصور الإسلامي النابع من تصور الإسلام للكون والحياة والإنسان. ويلاحظ انّ الفن الإسلامي لم يكن في أي مرحلة من مراحله حكراً على فئة دون أخرى، أو منتشراً في طبقة دون غيرها، إنما كان فناً شائعاً منتشراً في كل مكان وفي أي فئة دون تمايز أو تفاضل، بعكس ما كان موجوداً في الفن الأوروبي في العصور الوسطى، حيث كان حكراً على طبقة الأشراف والنبلاء. كما أنّ الفن الإسلامي لم يستغل لخدمة الدين كما هو الحال في الفن المسيحي، فأنت لا تراه في كتب الإسلام الدينية على اختلافها، إنما وجّهته العقيدة الإسلامية توجيهاً سليماً فقط لئلا يجمح به الهوى ويشتط به الخيال فيتنكب الطريق السوي.   المصدر: مجلة التوحيد/ العدد 58 لسنة 1992م

ارسال التعليق

Top