يعتبر الأنثربولوجي الشهير إرنست غيلنر (Ernest Gellner) أنّ العالم المعاصر الآن تسوده ثلاثة مواقف أساسية هي:
أ- الأصولية التي تؤمن بواحدية الحقيقة وتعتقد بأنها تملكها. ب- النسبية التي تتلبس جملة متنوعة من الصيغ، وتنكر فكرة الحقيقة الواحدة، لكنها على رغم ذلك تحاول التعامل مع كُل رؤية خاصة وكأنها صادقة. ج- أما الموقف الثالث الذي ينحاز إليه غيلنر، فهو يستبقي الإيمان بواحدية الحقيقة من الأصولية، غير أنّه يختلف عنها في أنّه لا يعتقد بأننا استطعنا امتلاكها – أي الحقيقة – بشكل نهائي وكامل في أي وقتٍ من الأوقات، وهذا الموقف لا يستخدم أي إيمان اعتقادي جوهري ليؤسس سلوكه العملي والبحثي، بل مجرد نوعٍ من الولاء لبعض القواعد الإجرائية المعيّنة، على حدّ تعبيره. الجديد في تقسيم غيلنر هذا هو الاعتراف الضمني بوجود رؤيةٍ أخرى مختلفة عن السياق الغربي، وعلى رغم أنّه يرفضها، إلا أنّه يعترف بها ويعتقد أنّ الكثيرين في العالم الإسلامي ما زالوا يخضعون لقيمها ويؤمنون بها. إنّ غيلنر اعتمد الموقف من الحقيقة كمعيارٍ تصنيفي للتفريق بين المواقف الرئيسة الثلاثة، فالأصولية تقول بأنّ جوهر الدين ليس الاقتناع بحقيقة العقيدة، وإنّما الالتزام بها انطلاقاً من الدافع الإيماني، إذ ليس من الضروري أن تعقل حتى تؤمن، فعندها يفقد الإيمان دافعه الحقيقي والجوهري، وهو الإيمان لمجرد أنّه يشكل جزءاً من جوهر العقيدة التي تؤمن بها، وهذا هو الانعطاف الوجودي الذي يربط الإيمان بالهوية وليس بالدليل البرهاني. بعد ذلك يسحب غيلنر مقاربته النظرية تلك للأصولية ليقارنها مع الدين الإسلامي يطرح الأصولية بوصفها نظاماً معرفياً على الجميع الخضوع له. وانطلاقاً من ذلك فإنّ غيلنر يجزم بأنّ هناك ممانعة بين الإسلام والعلمنة، والاعتقاد أنّ العلمنة يمكن أن تنتشر في الإسلام هو اعتقاد زائف في أصله، وينبع سبب ذلك في رأيه من طبيعته الاعتقادية أوّلاً، ومن الغياب النظري لطبقة رجال الدين ثانياً، فليس هناك مكانة مقدسة متميزة في الإسلام تفضل المرشد الديني للطقوس الشعائرية عن جمهرة المؤمنين من عامة الناس، وهذا ما حجب الإسلام عن الإصلاح السياسي الذي حدث في المسيحية، ذلك أنّ لغة الصراع السياسي في المسيحية كانت قائمة على إلغاء أفضلية هذه الطبقة، في حين أنها لم تؤد في الإسلام إلا إلى تكرار وتعاقب الأشخاص في نظام اجتماعي ثابت لا يتغير، وبذلك ثبت الإسلام في صيغته الحالية على نموذج الإصلاح النهائي الذي يمكن أن يصل إليه، فليس من الضروري إذاً مناقشة أسسه الفكرية والعقائدية بقدر ما يفرض علينا أخذه بعين الاعتبار سياسياً، وعدم إلغائه، والاعتراف بحجم التأثير الهائل الذي تحقق من خلال الوجه الطهراني والمساواتي الذي يطرحه الإسلام عن نفسه، ما جعله ديناً لكثير من المستبعدين والمهمشين في العالم. يخلص غيلنر في النهاية إلى عددٍ من النتائج، وبخاصة في ما يتعلق بالأصولية التي يماهيها مع الإسلام حصراً، فانتشار الوفرة الاقتصادية على عكس ما يرى علماء الاجتماع لن يؤدي إلى تآكل وإضعاف الالتزام الديني. حتى إنّ الثروة النفطية الهابطة من السماء، والتي لم تُكتسب بالجهد والعرق، لم تملك مثل هذا التأثير، يضاف إلى ذلك أنّ الإسلام قد أثبت قدرته على اختراق المبادئ التكنولوجية والتعليمية والتنظيمية الغربية وضمها وتوحيدها مع الإيمان الراسخ والتماهي في الإسلام، بكل ما يمتلكانه من قوة وانتشار. ولا يبدو أنّ الدين العالمي الإسلامي مقرّرٌ عليه بالضرورة أن يتآكل أو يضعف بتأثير الأوضاع والظروف الحديثة، بل على العكس قد تقدم له هذه الظروف والدعم والمساندة. أطلنا قليلاً في تقديم وجهة نظر غيلنر للإسلام، ليس من باب الاستئناس بآرائه بحكم كونه مختصاً في أنثروبولوجيا الإسلام، إذ عاش فترة لا بأس فيها في المغرب ومصر، وكتب كتباً عدة عن ذلك، وإنّما للتعامل مع وجهة نظره، وبخاصة في ما يتعلق بالنظام المعرفي. إنّ الإسلام بالنسبة إليه يمتلك نظاماً معرفياً خاصاً به، وبنيته التكوينية قارة أو ثابتة لا تتغير مع تغير الأزمنة والدهور، على الأقل بالنسبة إلى معتنقيها والمؤمنين بها، وأصواته الأصولية التي تخرج من هنا وهناك، وتتكاثر يمنة ويسرة، لا تمثل خروجاً عن نسقه المعرفي أو النظام النظري الخاص به، لا، بل إنّها تمثل تعبيراً صريحاً عن مكنونه الفكري ومعتقده الإيماني. ولذا، يبدو مكتوباً الإخفاق والفشل الذريع على جميع المحاولات النظرية والعملية التي تسعى إلى مواءمة الإسلام مع العصر، أو تلك التي تحاول أن تفترض انسجاماً بين الإسلام والقيم الكونية. وعلى الغرب، بوصفه يمتلك نظاماً معرفياً مغايراً ومختلفاً، أن لا يضيع وقته في محاولات يائسة وبائسة لإدخال الإسلام في الحداثة، بل عليه أن يحاذر سياسياً الأصولية التي ستشهد صعوداً يخشى فيه. سطّر غيلنر رؤيته تلك قبل أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 بعشر سنين تقريباً، واستحضارها اليوم لقراءتها بعد هذه الأحداث ليس المقصود منه إظهار بعدها التنبؤي أو التحذيري، لا، فالمقصود غير ذلك تماماً، وهو إظهار الصراع الخفي على "القيم الكونية" (Universal). لا يعني الصراع هنا تلك الصورة الحاضرة في مخيّلتنا من الإرث الماركسي عن "الصراع الطبقي"، ولا تلك التي أثارها هانتغنتون في نظريته عن "الصدام بين الحضارات" (Clash of Civilization)، إنما هي أقرب إلى الجدل الدائر والمتجدد دوماً حول الخصوصية والعالمية أو الهوية والعولمة. وبغض النظر عن إقرارنا بمفصلية حدث 11 أيلول/ سبتمبر أم لا، وسواء اتفقنا أم اختلفنا أنّ الإدارة الأمريكية استثمرت حدث 11 أيلول/ سبتمبر لتنفذ برنامجها الخاص، فإنّ هذا الحدث قد أطلق حواراً مباشراً أحياناً، وغير مباشر أحياناً أخرى، بين الرؤيتين الغربية والإسلامية للعالم. صحيحٌ أن هناك أصواتاً ارتفعت لدى الطرفين تنادي بالصدام وحتى الحرب بين الحضارات، وتقسم العالم إلى فسطاطين، كما هي بن لادن، أو تقسمه إلى طرفين، أحدهما مع الإرهاب والآخر ضده، كما هي حال الرئيس الأمريكي بوش، إلا أنّ الرأي العام في كلا الطرفين كان يرى في الحوار مدخلاً ليس ضرورياً فحسب، وإنما وحيداً لتعزيز التفاهم والتبادل والتوصل إلى رؤى مشتركة. برز من بين هذه الدعوات بيان الستين مثقفاً ومفكراً أمريكياً الذي حمل عنوان "من أجل ماذا نحارب؟: رسالة من أمريكا"، وكان من أبرز الموقّعين عليه فرانسيس فوكوياما، ويموئيل هانتغنتون، ويموئيل فريدمان، وتوماس كوهلر، ونيل جيلبرت، وهارفي مانسفليد، وروبرت بوتمان وغيرهم، ورعاه بشكل رئيسي معهد القيم الأمريكية الذي يرأسه ديفيد بلانكنهورن ويدافع بشكل رئيسي عن القيم الأمريكية في المجتمع والأسرة والدين والاقتصاد، ويقود حواراً مهماً حول جميع هذه القضايا في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم. يمكن القول إنّ هذا البيان قد أطلق حواراً من نوع فريد حول معنى ومفهوم "القيم الكونية" أو "اليونيفرسال"، كما يجري تداولها الآن في الفلسفتين الفرنسية والأمريكية بشكل كبير. وعلى الرغم من أنّ البيان قد صيغ بشكل رئيسي لتبرير الحرب الأمريكية على أفغانستان بوصفها حرباً عادلة، إلا أنّه في تعليله ذاك لجأ إلى توظيف "القيم الكونية" بوصفها ملجأ شرعياً على الجميع أن ينضوي تحتها، بل إنّه يخاطب المسلمين مطالباً إياهم بالوقوف إلى جانبهم لمجابهة الأصولية الإسلامية "التي تدّعي بالنطق باسم الإسلام، لكنها تخون المبادئ الإسلامية الأساسية لأنّ الإسلام يقف ضدّ هذه الوحشية الأخلاقية"، ولذلك علينا أن نسترد الإسلام ممن خطفه وقاتل باسمه تشويهاً لصورته وسمعته. على العموم، فالبيان يشدّد على خمس حقائق أساسية تتصل بكل الناس من غير تفرقة، هي: أ- إنّ البشر يولدون متساوين في الكرامة كما في الحقوق. ب- الشخصيّة الإنسانية هي العنصر الأساسي في المجتمع، وتكمن شرعية دور الحكم في حماية هذه الشخصيّة والمساعدة في تأمين فرص التفتح الإنساني لها. ج- يرغب البشر بطبيعتهم في البحث عن غاية الحياة ومقاصدها. د- حرية الضمير والحرية الدينيّة من الحقوق التي لا يمكن انتهاكها في الشخصيّة الإنسانية. هـ- القتل باسم الله مخالف للإيمان بالله، وهو يشكل خيانة عظمى لكونية الإيمان الديني. ويعقب البيان قائلاً: "بناءً عليه، فنحن نحارب للذود عن أنفسنا ودفاعاً عن هذه المبادئ الكونية". بدايةً ينبغي أن نذكّر أنّ هذا البيان ربما لا يعبّر عن وجهة نظر كُلّ المثقفين الأمريكيين، ولا حتى عن معظمهم بحكم التعدد والتنوع الكبير الذي يحظى به المجتمع الأمريكي، بيد أنّه يجب أن نذكر وفي الوقت نفسه أيضاً أنّ رؤية هؤلاء المثقفين الأمريكيين، بغض النظر عن حضورهم ووزنهم الأكاديمي والمعرفي – وهو عملياً ليس بالشيء القليل أبداً – فإنّ رؤيتهم تفتح لنا باباً ثرياً للجدال حول كونية القيم وعالميتها. إنّ هذا السؤال يشكل اليوم هاجساً يؤرق الفلسفة المعاصرة ويطرق بابه معظم وأشهر الفلاسفة المعاصرين، من دريدا وبودريار في فرنسا، إلى هابرماز في ألمانيا، مروراً بالعديد من الكتّاب والباحثين والمحلين وحتى السياسيين أنفسهم، كما ورد عمداً أو سهواً على لسان سيلفيو بيرلسكوني، رئيس الوزراء الإيطالي، الذي اعتبر أنّ "الغرب متفوق حضارياً على العالم الإسلامي". ومن هذا المنطلق يأتي تركيزنا على هذا البيان – الرسالة وعلى التعقيبات المتتالية التي استتبعته، سواء من المثقفين السعوديين الذي عقّبوا عليه في رسالة جماعية، أو المثقفين العرب الذين توالت ردودهم، أو حتى المثقفين الألمان الذي دخلوا في جدالٍ فكريٍ عميق مع بيان المثقفين الأمريكيين، ما استدعى ردوداً متعاقبة من الطرفين كليهما. مهما يكن، فإنّ البيان – الرسالة ينطلق من مجموعة من المبادئ الأخلاقية التي يعتبرها كونية، إذ هي موجودة لدى كُلّ الشعوب من دون تمييز، كحرية الكائن، وحق اختيار الدين الشخصي، وإدانة القتل، كمبدأ لأنّه مناف للأديان جميعها. لا يختلف المثقفون السعوديون ولا الألمان معهم في ذلك، فالسعوديون الذين ينطلقون من كونية القيم الإسلامية يعتبرون أن: أ- الإنسان من حيثُ كينونته هو مخلوقٌ مكرم، فلا يجوز أن يُعتدى عليه مهما كان لونه أو عرقه أو دينه. قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء/ 70). ب- تحريم قتل النفس الإنسانية بغير حقّ، بل قتل نفس واحدة ظلماً عند الله كقتل الناس جميعاً، وحماية نفس واحدة من القتل كإحياء الناس جميعاً. ج- لا يجوز إكراه أحد في دينه، قال تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة/ 256)، بل إنّ الإسلام نفسه لا يصحّ مع الإكراه. د- إقامة العلاقات الإنسانية على الأخلاق الكريمة أساسٌ في رسالة الإسلام. 5- المسؤولية في الجنايات الخاصة فردية، فلا أحد يؤخذ بجريرة غيره، كما إنّ العدل بين الناس حقٌ لهم والظلم محرّم في ما بينهم مهما كانت أديانهم أو ألوانهم أو قومياتهم. قال تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) (الأنعام/ 152). 6- الحوار والدعوة فإنما يتمان بالحسنى. قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125). إنّ المثقفين السعوديين – وأعتقد أنّ معهم الكثير من المثقفين العرب والمسلمين – يرون أنّ المبادئ الكونية التي يبشّر بها المثقفون الأمريكيون قد "أرساها الإسلام قبل أربعة عشر قرناً وقبل أن توجد منظمات حقوق الإنسان أو هيئة الأمم المتحدة ومواثيقها الدولية". أمّا المثقفون الألمان، فقد أكدوا اتفاقهم حول الاشتراك في المعايير الأخلاقية المتضمنة احترام الكرامة الإنسانية، بغض النظر عن الجنس أو اللون أو الدين، واعتبروا أنّ الكفاح من أجل الديمقراطية يمثل أساساً مهماً لحماية الكرامة الإنسانية والحريات الأساسية والحرية الدينية وحقوق الإنسان المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة. يبدو أنّ الجميع متفق على المبادئ الكونية العامة، مثل احترام الإنسان وحقوقه وحريته الدينية وغير ذلك. وهو ما يشعرنا بأنّ "القيم الكونية" باتت كونيةً حقاً، بيد أنّ الاختلافات الجوهرية والثانوية لا تلبث أن تطالعنا عند التدقيق في آلية تطبيق هذه القيم الكونية على أرض الواقع، بمعنى أنّ هناك اتفاقاً في الرؤية، بيد أننا نجد اختلافاتٍ شاسعة في تطبيق هذه الرؤية، حتى ضمن الثقافتين الأمريكية والأوروبية، على رغم أنهما يعودان إلى أصول غربية واحدة. وانطلاقاً من هذه المبادئ نفسها يرى الأمريكيون في بيانهم أنّ "الهدف من جريمة 11 أيلول/ سبتمبر كانت الجريمة نفسها"، وبالتالي "فمهاجمونا لا يحتقرون فقط حكومتنا، بل هم يحتقرون طريقة عيشنا ومجتمعنا كله. وفي الأساس، لا يتناول غضبهم ما يقوم به قادتنا فحسب، بل أيضاً بما نحن كائنون به". والكينونة الأمريكية تلك تتحدد بعددٍ من القيم ليست جاذبة للأمريكيين فقط، بل إنها تصحّ كذلك أيضاً بالنسبة إلى كُلّ الناس وفي كلّ مكانٍ من العالم وتقوم على أنّ: "كلّ الأشخاص يمتلكون كرامة إنسانية مكتسبة، هي حقٌ لهم بالولادة"، ووفقاً لذلك "فالديمقراطية هي الصيغة السياسية الواضحة التي تمثل هذا الإيمان بالكرامة الإنسانية السامية، والتعبير الثقافي الأوضح عن هذه الفكرة هي تأكيد المساواة في الكرامة بين الرجال والنساء". وثانية هذه القيم "هي أنّ القناعة بأنّ الحقائق الأخلاقية الكونية موجودة بالفعل، ويمكن لكلّ الناس الوصول إليها، وهي التي أسماها الآباء المؤسسون بقوانين الطبيعية والفطرة الإلهية". ثمّ تأتي "القناعة بعدم القدرة على الوصول إلى الحقيقة، أفراداً وجماعات، لذلك فكلّ الاختلافات حول القيم تستدعي الروح المدنية والانفتاح على وجهات النظر الأخرى". وأخيراً "فحرية الضمير والحرية الدينية هي من بين الحريات الأساسية المعترف بها، كانعكاسٍ للكرامة الإنسانية الأولية، وكشرطٍ مسبق لقيام الحريات الفردية الأخرى". هذه القيم التي يمكنها أن تنطبق على كلّ الناس وبلا تفرقة، على حدّ تعبير البيان، تفسر لماذا بإمكان أيٍّ كان أن يصبح أمريكياً، "فما من أمةٍ صنعت هويتها، أو كتبت دستورها وسائر وثائقها المؤسسة، كما فهمها الأساسي لنفسها، بهذه الدرجة من المباشرة والإفصاح بالاستناد إلى القيم الإنسانية الكونية". إن ما اعتبره البيان في بدايته قيماً أمريكية أصبحت في نهايته قيماً إنسانية كونية، وكأنّ "القيم لم تصبح كونية بذاتها إلا كناتجٍ لاستيعاب المحصلة الإجمالية لجهد الحداثة. وعلى هذا، فالحضارات والثقافات جميعها شريكة عبر صيرورتها التاريخية في بلورة هذه "القيم الكونية"، ولم تكن أبداً حكراً على ثقافةٍ واحدة بعينها. صحيحٌ أن تعبيرها الأجلى والأوضح برز في السياق التاريخي لتطور الحضارة الغربية، إلا أنّ نفي جهد الحضارات الأخرى يكون كمن يقول إنّ عقارب الساعة لم تكن متساوية قبل اكتشافها، على حدّ تعبير فولتير. بيد أنّ البيان نفسه يتوقف لحظةً عند هذه النقطة ليتساءل: "يؤكّد البعض أنّ هذه القيم ليست كونيّة البتة، بل هي تنحدر بالأخص من حضارة الغرب المسيحي. وهم يحاججون بأنّ الإقرار بكونية هذه القيم يُلغي خصوصية الثقافات الأخرى. نحن نخالف ذلك. نحن نعترف بالطابع الناجز لحضارتنا، لكننا نؤمن بأنّ الناس جميعهم خلقوا متساوين. كما نؤمن بالحرية الإنسانية، كإمكانية كونية ورغبة، وبأنّ هناك حقائق أخلاقية أساسية معينة يشترك كلُّ العالم في الإقرار بها". لا غبار – بكل تأكيد – على أنّ الحرية الإنسانية والكرامة هي محط تبجيل من قبل الثقافات جميعها. بيد أننا نعود إلى القول مجدداً إنّ فهم هذه الثقافات للحرية يختلف من ثقافةٍ إلى أخرى، وهو ما استدعى السعودية والصين، كمثالين فقط يعبّران عن ثقافتين مختلفتين، إلى التحفظ على الإعلام العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948 بحجة أنّه يناقض في عددٍ من بنوده القوانين المرعية في كلا البلدين التي تؤكد على الخصوصية الثقافية لكلٍ منهما. لكننا إذا عدنا إلى بيان المثقفين الأمريكيين وتجاوزنا ديباجته المطوّلة هذه التي تدور حول فكرة "القيم الكونية" لنرى ما المطلوب من هذه القيم أن تشتمل عليه أو تحققه، لوجدنا أنّ البيان صيغ بشكلٍ رئيسي، وكما قلنا، لتبرير الحرب الأمريكية على أفغانستان، وأنّ هدف المثقفين الأمريكيين الأوّل من بيانهم، كما ذكروا ذلك صراحةً في ردهم عل ردّ المثقفين الألمان، هو "أن نسعى إلى الاستناد إلى مفهوم الحرب العادلة لكي نظهر أن استخدام القوة العسكرية ضدّ مجرمي 11 أيلول/ سبتمبر وأولئك الذين يساعدونهم ليس مبرراً أخلاقياً فحسب، بل إنّه ضرورة أخلاقية كذلك". تجد هذه "الحرب العادلة" تبريرها الأخلاقي الموضوعي في "اعتبار الحرب أحياناً دفاعاً عن وجود المجتمع المدني وعن عالم قائم على العدل"، وفكرة الحرب العادلة "تجد جذوراً لها في تقاليد أخلاقية مختلفة، إذ تحتوي التعاليم اليهودية والإسلامية على نظراتٍ جدية في مجال تعريف هذه الحرب"، لكن لا يُعقل لأي حربٍ أن تقع من دون أن يسقط كنتيجةٍ لها ضحايا مدنيون، ارتفع عددهم بشكل كبير في الحرب الحديثة على الرغم من استخدام الأسلحة الذكية. لكن البيان يجد لذلك تبريراً أخلاقياً أيضاً من زاوية أنّه "غير مقصود لكنه متوقع" ما دامت الحرب مبررة أخلاقياً، لا بل ضرورية. ويُنهي البيان كلماته بتكثيفٍ معبّر عندما يقول: "إنّ هؤلاء القتلة المنظمون ذوي البعد العالمي يهدّدوننا اليوم جميعاً. ولذلك فباسم المبادئ الأخلاقية الإنسانية العامة، وبوعي كامل لقيود ومتطلبات الحرب العادلة، نؤيد قرار حكومتنا ومجتمعنا باستخدام السلاح ضدهم". إنّ المثقفين الألمان، وفي تعقيبهم الأول على بيان المثقفين الأمريكين، يثيرون نقطتين بالغتي الأهمية: أولاهما هي أنّ الدول الديمقراطية تمتلك وسائل متطورة بما فيه الكفاية ووفق القواعد القانونية لمحاصرة الجريمة ضمن حدودها، وهنا دار ويدور جدلٌ كبير بين الأمريكيين والأوروبيين حول المنزلة القانونية التي تحتلها أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، فإذا كانت جريمة إرهابية كما يصرُّ الأوروبيون على توصيفها، فإنها ستجد معالجةً لها عبر الوسائل القانونية المحلية والدولية وتشديد دور الاستخبارات وأجهزة الأمن لتفكيك الخلايا المسؤولة عن مثل هذه الأعمال. أما الأمريكيون فإنهم يرون في حدث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر بمثابة إعلان الحرب الموجهة ضدهم، وهم بذلك يمتلكون كُلّ الشرعيّة والأحقية القانونية في الردّ على الحرب المعلنة ضدهم. أما النقطة الأخرى التي يثيرها المثقفون الألمان هي أنّ البيان الأمريكي إياه لا يذكر ولو بكلمة واحدة حوادث القتل الجماعي التي تعرض لها السكان المدنيون الأفغان لدى قصفهم من قبل القوات الأمريكية، فحصانة الكرامة الإنسانية تنطبق ليس على الناس فقط في الولايات المتحدة، وإنَّما على الناس أيضاً في أفغانستان، وحتى جماعة طالبان وسجناء غوانتانامو في كوبا. وهكذا، كما يعلّق المثقفون الألمان "لا تنطبق المعايير الأخلاقية الإنسانية التي وضعتموها إلا على أنفسكم، وبمثل هذه الأزدواجية والانتقائية في الاستعمال توضع هذه المعايير العالمية على المحك وتُثار شكوك حقيقية حولها". كما يغمز المثقفون الألمان من قناة المثقفين الأمريكيين ومن دوافعهم وأهدافهم الإنسانية النبيلة، عندما يذكّرونهم بأنهم يصمتون أيضاً عن الأهداف الحقيقية للإدارة الأمريكية الحالية من وراء حربها على أفغانستان، والتي تعود في معظمها إلى خيارات جيواستراتيجية عبر السيطرة على طرق نقل النفط، وتقوية موقعها المهيمن ليس على حساب روسيا فحسب، وإنَّما على حساب القوة الإقليمية الصاعدة المتمثلة في الصين، ومقابل أوروبا واليابان، وترسيخ هيمنتها لعدة عقود قادمة. يبدو واضحاً من هذه الاتهامات المتبادلة أنّ القيم الكونية قد تبددت تماماً على مذبح السياسة، وأنّ ما صدرته البيانات جميعاً في مقدماتها تبخّر مع نهاياتها عندما تغوص في وحول السياسة ورمالها المتحركة، ذلك أنّ المثقفين الأمريكيين وجدوا في الردّ الألماني استفزازاً من نوع خاص، حيثُ إنهم لا يتخذون أيّ موقف ذي منطق متماسك من أخلاقية استخدام القوة، لا بل إنهم يصفون تقليد الحرب العادلة التي يدعو إليها المثقفون الأمريكيون بـ"المفهوم هل يدفعنا ذلك إلى القول إن السياسة هي من يحرك الثقافة ويحدد أطرها، أم على العكس إنَّما تنطلق السياسة في بدايتها من مبادئ فكرية وثقافية هي الأصل اليت تتغذى منه وتقوم عليه؟ يمكن متابعة ذلك بوضوح بالنظر إلى تعقيب المثقفين السعوديين والردّ الأمريكي عليهم، إذ يتساءل السعوديون: لماذا لم يختر منفذو جريمة الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر بلداً آخر غير الولايات المتحدة ممن يتبنى القيم الغربية طالما أنّ البيان الأمريكي اعتبر أنّ القيم الأمريكية هي المستهدفة من هذه الجريمة؟ ثُمّ يتساءل البيان السعودي مرة أخرى: "لماذا لم يتوجه هؤلاء إلى دولٍ ومجتمعاتٍ أخرى تدين بالوثنية في آسيا وأفريقيا هي أولى بالحرب لو كان دافعهم هو محاربة من يختلف معهم في القيم؟". في الواقع نصل هنا إلى نموذجين في التفكير متناقضين تماماً: أولاهما يصرُّ على البحث عن الأسباب القريبة والبعيدة التي دفعت مرتكبي جريمة 11 أيلول/ سبتمبر إلى تنفيذ فعلتهم، والآخر يعتبر أنّ سؤالاً من هذا النوع هو نوعٌ من "العمى الأخلاقي"، فالإرهاب شرٌّ بطبيعته ويجب ألا نسأل عن مصدره، بل أن نبحث في طرق استئصاله، فما حدث في 11 أيلول/ سبتمبر لا يدخل في باب الإرهاب ذي المقصد أو المغزى السياسي، وإنَّما هو نوعٌ من العدمية اللاأخلاقية، فالضحايا المدنيون الذين قضوا في هذا الحدث لم يكونوا من طرفٍ أو نوعٍ واحد، بل كانوا من كلّ الجنسيات والألوان والأعراق، واستهدافهم كان لسببٍ وحيد هو أنهم على أرضٍ أمريكية، وعند ذلك تنتفي كُلّ الأسباب والمبررات. بيد أنّ الرأي السائد والذي اتخذته الإدارة الأمريكية الحالية نهجاً لها لا يُسأل عن سبب الإرهاب، وإنَّما علينا مكافحته. يعلّق المثقفون الأمريكيون في ردّهم على الرًّد الألماني المتسائل عن سبب غياب أيِّ ذكرٍ للضحايا المدنيين الأفغان في مانفيستو "من أجل ماذا تحارب؟"، بالقول: "أحزنتنا تلك التعليقات، إذ من العمى الأخلاقي أن تساووا بين ضحايا مدنيين سقطوا على نحو غير متعمّد على مسرح حربٍ دوافعها عادلة وهدف محاربيها عدم تجاوز الحدّ الأدنى من الخسائر في أرواح المدنيين،والقتل المتعمد للمدنيين في مكاتبهم في المدينة وهو قتلٌ دوافعه غير عادلة، وهدف مرتكبيه تحقيق الحدّ الأقصى من الخسائر في أرواح المدنيين". مهما يكن، فإذا كانت أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر قد وحّدت الثقافة الغربية لفترةٍ قصيرة ودفعت رئيس تحرير جريدة لوموند الشهيرة جان ماري كولومباني ليكتب في اليوم التالي لحدث 11 أيلول/ سبتمبر "كلنا أمريكيون"، فإنّ الكاتب نفسه وبعد الإجراءات التي اتخذتها إدارة بوش في حربها ضدّ أفغانستان وإطلاقها وصف "محور الشرّ" تساءل في كتاب له: هل صحيحٌ أننا كلناً أمريكيون؟ ليعتذر فيه عن اندفاعه المبدئي، ويمارس نقداً بالغ الحدة والعنف للسياسات الأمريكية. بيد أنّ الأمر كان أعمق من ذلك بكثير، فالغرب نفسه أصبح موضع تساؤل: ألم يتحدث أناتول ليفين عن "نهاية الغرب"؟، ثُمّ أتت الحرب الأمريكية، ما يدفعنا إلى القول مرة أخرى إنّه ربما تكون "القيم الكونية" متفقاً عليها بين الجميع، بيد أنّ الزاوية التي ننظر إليها إلى هذه القيم تختلف بين ثقافة وأخرى اختلافاً شاسعاً، لا بل إنها اختلفت ضمن الثقافة نفسها، وهي الثقافة الغربية. بعد الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر تمحورت الفكرة الأوروبية على ضرورة توسيع أطر الأنظمة القضائية الجزائية التي كانت تعمل على المستوى المحلي لكي تصبح في المستقبل أكثر شمولية، وعندما خاضت بعض هذه الدول الحرب على أفغانستان مع الولايات المتحدة، فإنما دخلتها من باب تعاطفها الأوّلي مع الولايات المتحدة بعد مصابها، وكرهها لنظام طالبان الاستثنائي في قيمه ورؤيته العالم. بيد أنّ الولايات المتحدة أرادت من خلال "حربها على الإرهاب" أن تخوض حرباً مستمرة ودائمة لتحقيق أهدافها وطموحاتها، وهو ما وضع الولايات المتحدة ضدّ البقية، على حدّ تعبير فوكوياما، ذلك أنّ معظم دول العالم أصبح يؤمن بأنّ القوة الأمريكية وليس الإرهابيين المزوّدين بأسلحة الدمار الشامل هي من يزعزع استقرار العالم. وتبدو هذه القناعة راسخة لدى العديد من الدول الأوروبية الحليفة للولايات المتحدة. وقد تعزّز الافتراق الأمريكي عن الآخرين مع تعزيز الرؤية الأحادية الأمريكية وترسيخ العزلة الخاصة بها عن طريق الانسحاب من الاتفاقية المضادة للصواريخ البالستية، وسعيها في الوقت نفسه لبناء الدرع الصاروخي وخروجها من "اتفاقية كيوتو" المتعلقة بارتفاع درجات حرارة المناخ العالمي. ويضاف إلى هذه القائمة معارضة واشنطن حظر استخدام الألغام الأرضية واعتراضها على اتفاقية حظر الحرب البيولوجية، ثمّ معارضتها المحكمة الجنائية الدولية. كلُّ ذلك عزّز التفكير لدى الأوروبيين في البحث عن ثقافتهم وقيمهم الخاصة بهم، والتي راحوا يجدونها عبر التمايز والمفارقة. إنّ الأمريكيين على سبيل المثال ميّالون لأن يروا لأية شرعية ديمقراطية وجوداً يفوق ما تتمتع به الدولة القومية من شرعية، أمّا الأوروبيون فعلى العكس تماماً، إذ يرون أنّ الشرعية الديمقراطية إنّما تنبع من إرادة المجتمع الدولي أكثر من كونها مستمدة من أيّة دولة قومية منفردة على الأرض. ويعود الخلاف في الرؤى حول الشرعية الديمقراطية إلى الخلاف حول دور القانون الدولي، وأوّلها انعدام توازن القوى بين الولايات المتحدة الأمريكية وأيّة دولة أخرى سواها، ما يدفع الدولة العظمى الوحيدة في العالم إلى الانفلات من القيود وإلى تحرير قدرتها على الفعل. كما إنّ الأوروبيين يعتبرون أنّ سلوكهم في مواجهة المشكلات أكثر براعةً وتنوعاً بحكم خبرتهم التاريخية، وخبرتهم تلك هي التي دفعتهم إلى اتّخاذ موقفٍ سلمي من الحرب على العراق، ما شكّل تناقضاً جذرياً مع الثقافة الاستراتيجية التي سادت في أوروبا طوال أربعة قرون. وهكذا فقد تبادل الأمريكيون والأوروبيون مواقفهم ووجهات نظرهم، فالانكفاء الأمريكي عن التدخل أصبح جموحاً بعد قرنٍ من الزمان، أمّا الحماسة الأوروبية للصراع والتدخل فقد قلمت أظافرها وأصبحت تنشد السلام أكثر من رغبتها في الحرب. غير أنّ أوروبا اليوم لا تستطيع أن تكبح جماح الولايات المتحدة في حروبها المتكررة، فهي لم تستطع مثلاً أن تمنعها عن خوض الحرب على العراق، لكنها تسعى وباستمرار للسيطرة على الوحش من خلال إيقاظ ضميره وتذكيره بماضيه. لكن المحافظين الجدد الذين يسيطر معظمهم على المواقع الحساسة في الإدارة الأمريكية الحالية، يؤكدون بما لا يقبل الشك أنّ أمريكا وأوروبا قد أصبحنا منتميتين إلى عالمين مختلفين: أحدهما متحدر من الزهرة، وثانيهما من المريخ، وأنهما تالياً، لا يؤمنان بالقيم نفسها. من الصحيح كما قلنا أكثر من مرة أنّ "القيم الكونية" تكاد تكون هي ذاتها، إلا أنّ طرق تطبيقها يزداد تبايناً حتى ضمن الثقافة نفسها، كما نجد في الثقافة الغربية، فالأوروبيون والأمريكيون يمتلكون قيماً أساسيةً مشتركة، لكنهم لا يشتركون في فهمٍ واحدٍ لهذه القيم المشتركة. على سبيل المثال، يمجد كلا الطرفين الكرامة الإنسانية، إلا أنّ الأوروبيين يرون في عقوبة الإعلام انتهاكاً لها، لكن الأمريكيين يستمرون في تطبيقها، كما إنّ أوروبا تتحول أكثر فأكثر إلى تبني العلمانية، في حين يمثل الدين مكانة مهمة في الحياة السياسية والاجتماعية الأمريكية، والرئيس بوش نفسه يفاخر بتدينه العميق. كما إنّ الولايات المتحدة تنزع نحو تفردٍ أكثر فأكثر وضوحاً في القرار والقيادة، معتبرةً أنّ المعاهدات الدولية ليست سوى قيود غير مبررة تكبل السيادة الأمريكية، أما الأوروبيون فيدعون، اقتناعاً وتركيباً وحاجةً، كما يقول باسكال بونيفاس، إلى تعددية قطبية لأنهم مقتنعون بأنّ قواعد الحقّ تحمي الجميع، ولا سيما الأضعف. إنّ الأوروبيين، وعلى رأسهم الفرنسيون، ينتهون إلى القول إنّ "العالم الغربي الذي طالما وقف صفاً واحداً إلى جانب الولايات المتحدة في مواجهة التهديد السوفياتي، يميل اليوم إلى التصدع. وما عاد مؤكّداً أننا نشترك بالعزم نفسه في تبني القيم نفسها والتصور نفسه للتهديدات والمخاطر وأساليب المواجهة. "لم يعد من المجدي التغافل عن هذا الواقع متذرعين بوازع التضامن الغربي، والأحرى بنا، إذا أردنا أن نقيم علاقة عبر أطلسية جديدة، أن نقيمها على أسس جديدة وواضحة، وليس على أسس مفترضة مسبقاً وبعيدة كل البعد عن الواقع". أمّا الأمريكيون فيعلنونها صراحة: "علينا أن نكفّ عن التظاهر بأنّ للأمريكيين والأوروبيين رؤية مشتركة عن العالم، بل عن الادعاء بأنهم يعيشون على الكوكب نفسه". وإذا كان التصدع قد أصاب الثقافة الغربية ذات الأصل التاريخي المشترك والهوية المسيحية اليهودية الواحدة والتحالف السياسي الاقتصادي الاستراتيجي منذُ نهاية الحرب العالمية الثانية، فإنّه من الأسهل علينا القول إذاً إن "الثقافة الكونية" التي يبشر بها البعض، هي أكثر بعداً ونأياً مما نتخيله. إنّ الصراع على القيم في جوهره هو اختلافٌ على المصالح والرؤى وامتلاك الأفضلية، وإنّ التفوق الحضاري الذي يشمل تفوقاً فكرياً وتكنولوجياً واقتصادياً وسياسياً وعسكرياً سيفرض حتماً تفوقاً قيمياً لصالحه. هذا ما يعلّمنا إياه التاريخ، والواقع المعاصر لا يبدو أنّه يشذُّ عن تاريخه، لا بل إنّه يصدقه ويؤكده. بيد أنّ ذلك يجب ألا يعني بأي حالٍ من الأحوال انغلاق الثقافات وراء متراس خصوصياتها، إذ في ذلك انتحارٌ لها، وإنّما انفتاحٌ على الآخر المختلف، بيما فيه اغناءٌ لها وبها، وسعيٌ حثيث باتجاه الإنساني المشترك منعاً ومحاصرةً للأصوليات التي لا تهدد "القيم الكونية" فحسب، وإنما تفجّر الخصوصيات الثقافية ذاتها وتدمرها. المصدر: مجلة المستقبل العربي/ العدد 331 لسنة 2006ممقالات ذات صلة
ارسال التعليق