• ١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٨ ربيع الثاني ١٤٤٦ هـ
البلاغ

سمو القرآن على الدساتير الوضعية

سمو القرآن على الدساتير الوضعية
◄درج أكثر الحكومات على وضع دستور يحدد نظام الحكم وحقوق الحاكم والمحكوم ووظائف السلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية، وقد حرص أكثر واضعي الدساتير في العالم العربي على أن يتضمن الدستور ما ينص على إسلامية الدولة وانّ الشريعة الإسلامية مصدر رئيس للتشريع أو المصدر الرئيس للتشريع، وبهذا تسمو الشريعة الإسلامية على القانون والدستور الوضعيين. ومع ذلك تتعالى أحياناً بعض الأصوات الشاذة بالمطالبة بتقديم القوانين الوضعية المعارضة لأحكام الشريعة لتسمو على أحكام الشريعة الإسلامية بتفسير خاطئ لعبارة "مصدر رئيس للتشريع" إذ يزعم أولئك أنّ هذه الصياغة تسمح بإصدار قوانين تتعارض مع الشريعة الإسلامية. ولقد حسمت محكمة النقض المصرية هذا الخلاف في ظل النص المماثل قبل التعديل، واعتبرت أنّ كلمة رئيس تسمح بوجود مصادر أخرى بشرط ألا تتعارض مع الشريعة الإسلامية. وهذا يتسق مع المعنى الصحيح لكلمة رئيس؛ فهي تعني المهيمن وبالتالي تهيمن أحكام الشريعة على المصادر الأخرى، وجاء الحكم كالتالي: "إذا خالف الحكم نصاً في القرآن أو السنة أو الإجماع فإنّه يبطل، وإذا عرض على من أصدره أبطله وإذا عرض على غيره أهدره ولم يعمله". إنّ الحاكم في المجتمعات العربية والإسلامية يدرك أنّه لن يصبح ولي الأمر إلا إذا رضيت به الأغلبية وهي مسلمة، ومن ثمّ كان الحرص على أن يتضمن الدستور إسلامية الدولة وسيادة الشريعة الإسلامية، ولكن خصوم الشريعة الإسلامية وهم قلة قليلة تعالت أصواتهم باللجوء إلى القوانين الوضعية – التي تحمي الفواحش وتضر بالفرد والمجتمع – وإبعاد الشريعة الإسلامية من واقع حياة المسلمين. إنّ الأغلبية الساحقة من شعوب العالم العربي والإسلامي هم من المسلمين الذين يؤمنون بأنّ القرآن الكريم هو شريعة الإسلام وهو أسمى من أيّ دستور مهما كانت صياغته ودلالاته، كما أنّ القرآن الكريم وشريعته لا يستمدان سموهما من أحكام القضاء وإنما من التنزيل والوحي الإلهي. إنّ الحاكم يمثل الأغلبية وهي لم تخوله أن يصدق على أي قانون يعارض الشريعة الإسلامية، ذلك أنّ الله تعالى قد ألزم ولي الأمر أن يحكم بالحقِّ وقد قال تعالى عن القرآن وشريعته: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) (الإسراء/ 105). كما قال تعالى مخاطباً الحكام في نموذج سيدنا داود (ع): (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) (ص/ 26). كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب/ 36). وقال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر/ 7). كما حذّر الله من اتباع أهواء خصوم الشريعة الإسلامية، وقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) (النساء/ 61). وقد تضمنت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية تشريعات تتناول أموراً أساسية في حياة الفرد، من حفظ النفس والعقل والدين والمال والنسل، وهي تُسمّى الضرورات الخمس، ومن هذه الضرورات تشريعات تتعلق بالأسرة، وعلاقة الزوجين والأولاد وتحديد حقوقهم والتزاماتهم، وتشريعات تنظِّم المعاملات بين أفراد المجتمع وأخرى تنظّم علاقة الفرد بالمجتمع والدولة التي ينتمي إليها، وتشريعات تنظم العلاقة بالمجتمع الدولي. أما في الأمور التي تخضع للتجارب وتتغير بتغير الزمان والمكان كشؤون الزراعة والصناعة والمعمار وقواعد المرور والصحة والتعليم، فقد تركها الإسلام للناس يجتهدون فيها ويصدرون القوانين التي تنظِّمها بما يحقق مصالح الناس وذلك بشرط ألا تخالف أصلاً من أصول الإسلام فلا تحرِّم حلالاً ولا تحلّ حراماً، وفي هذا قال النبي (ص): "أنتم أعلم بشؤون دنياكم" (رواه مسلم/ 7/95). وهذا النوع من القوانين يصدره الناس من خلال الشورى فيما بينهم. قال تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى) (الشورى/ 38). كما يقول الله عزّ وجلّ عن شؤون الحرب: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ) (آل عمران/ 159). يقول ابن خلدون: "إنّ النبي (ص) يقول في أمور المعاش من طب وزراعة بما يقول به الناس حوله ناتجاً عن التجارب والعادة". وكثيراً ما نزل النبيّ (ص) على رأي أهل الخبرة في أمر الدنيا. ويروي ابن كثير وغيره أنّه في غزوة بدر الكبرى نزل الصحابة على أوّل ماء من بدر، فقال الحباب بن المنذر: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدم ولا نتأخر عنه، أم هو الحرب والرأي والمكيدة؟، قال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، قال: يا رسول الله: إنّ هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم، فنزله ثمّ نغوِّر ما وراءه من القليب – أي نردم الآبار الأخرى – ثمّ نبني عليه حوضاً فنملأه ماءً ثمّ نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال له النبيّ (ص): "أشرت بالرأي" فنفذ ما أشار به، السيرة النبوية لابن هشام ص 620. وهكذا يتضح بطلان زعم البعض أنّ تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية سيؤدي إلى الفوضى وإلغاء القوانين التي تنظم مصالح الناس في الأمور الصناعية والزراعية والمهنية والعلمية والتي اهتدت إليها البشرية من خلال التجارب بعد أن ذاقت العذاب من الحكم الديني في أوروبا، إنّ هذا الزعم يتجاهل أنّ ضلال الحكم الديني في أوروبا يرجع إلى التحريف في دين الله بإعطاء رجال الدين عصمة تخولهم أن يكونوا شركاء مع الله وأرباباً من دونه، وبهذا حكموا فيما لا علم لهم به ولا شأن لهم به، فضلوا وأضلوا، وقد حذرنا القرآن الكريم من ذلك كما في قول الله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) (التوبة/ 31). فقد زعم البابوات أنهم ظل الله في الأرض، وأنّ ما يحلونه للناس في الأرض يحله الله في السماء، وما يحرمونه للناس في الأرض يحرمه الله في السماء، وأصدروا تشريعات وقوانين من عند أنفسهم ونسبوها زوراً إلى الله تعالى، وحرّموا البحث في العلوم التجريبية وأصدروا الأوامر بسجن أو إعدام كلّ من يبحث فيها. وقد جاء الإسلام ليرفع عن الناس هذه المظالم والأغلال، فكيف ينسب إليه ما جاء لدحضه وإلغائه؟ إنّ الشعوب العربية والإسلامية تعلم علم اليقين أنّ صلاح أمرها في تطبيق شرع الله، وبقي أن تستجيب الحكومات للأمر الإلهي، ثمّ للرغبة الشعبية ليتحقق التوافق والانسجام بين الجانب العقدي في القلوب والنفوس والجانب المادي المعاش الذي تحكمه النصوص.   المصدر: مجلة المجتمع/ العدد 1472 لسنة 2001م

ارسال التعليق

Top