• ١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٨ ربيع الثاني ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الصلاة.. مدرسة داخلية

الصلاة.. مدرسة داخلية
مفهوم الإيمان.. مرّة أخرى: إنّ قصة الإيمان في الواقع العام ربّما يحملها الكثير من الناس على أن تكون مجرد فكرة في العقل أو نبضة في القب أو حركة في اللسان، لا أن تكون حياة وحركة في الواقع تحدد للإنسان دوره وعلاقاته وأوضاعه ليكون الإيمان شيئاً يتجسد فيه لا مجرد شيء يتمثله.   سرّ الفلاح: وهذا الذي يمثله الإيمان في الداخل والخارج في بعض امتداداته هو سرّ فلاح الإنسان. والله عندما يطلق الفلاح فإنّه يطلقه للدنيا وللآخرة (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (المؤمنون/ 1)، هؤلاء الذين عاش إيمانهم في عقولهم وقلوبهم حتى تحول إلى عنوان لشخصياتهم في معناها الإنساني الذي يمثل علاقة الإنسان بالله تعالى فيما يتمثله من عظمة الله فيتحول ذلك إلى خشوع وخضوع وإحساس بمقام الله ومقام الإنسان أمامه.   الصلاة مدرسة ذاتية: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون/ 2)، وقصة الصلاة – أيها الأحبة – كما قدّمها الله لنا هي أنها مدرسة داخلية تخاطب عقل الإنسان وقلبه ومشاعره وأحاسيسه لتصنع منه شيئاً في الداخل ينظّم للإنسان خط السير في الاتجاه المستقيم في الخارج. ومن هنا كانت الصلاة في القرآن شيئاً يتحرك مع الإيمان حتى كأنّه يمثل عمقه ويمثل أصالته، وكأنّ الإنسان الذي لا صلاة له هو إنسان لا إيمان له، لأنّ الإيمان إذا كفّ عن أن يجعلك تعيش عبوديتك لربِّك في ممارساتك العضوية والروحية فإنّه يبقى مجرد شيء ليس فيه روح وليس فيه حياة تماماً كما لو كان الإيمان معادلة فكرية ترقد في زاوية من العقل ولا تلامس الروح ولا تعيش في الشعور والفكر. وإنما تكون إيماناً إذا نزلت إلى القلب وإلى الإحساس وإلى الشعور، بحيث يهتز القلب معها كما قرأنا في الآية الكريمة التي تقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (الأنفال/ 2)، اهتزوا واهتزت قلوبهم جرَّاء إحساسهم بعظمة ربهم.   الممارسة اليومية للإيمان: والصلاة – أيها الأحبة – تمثل الممارسة اليومية للإيمان، فالإنسان إذا لم يمارس إيمانه يجمد ويموت روحياً، في حين أنّ الممارسة التي يشارك فيها العقل والقلب واللسان والحركة تجعل الإيمان يعيش معك بكلّك وبذلك يتأصّل في وجودك، وهذا ما تعطيه الصلاة في دلالاتها. فعندما تبدأ صلاتك بتكبيرة الإحرام "الله أكبر" فإنّ الأكبر يختزن في داخله النظر إلى الأصغر، ولذلك فإنّ الصلاة تحمل لك معنىً إيحائياً أنّ كل ما عداه أصغر، فإذا كان ما دونه الأصغر فكيف يمكن لك أن تهمل الأكبر في وحيه والأكبر في عظمته والأكبر في نعمه، كيف يمكن أن تهمله لتسقط أمام الأصغر، وعندما تنفتح بك كلمة "الله أكبر" في الآفاق فإنك ستأخذ منها روحاً في معنى الروح لتتصور الله سبحانه وتعالى في كلِّ صفاته التي لا يقترب منها أحد، ولتعيش الله سبحانه وتعالى في أسرار قدرته التي لا يمكن أن يدنو منها أحد، ولتتصور الله في نعمه التي لا يمكن أن يعطيها أحد غيره، فهو الأكبر في الصفات، وهو الأكبر في الخلق والقدرة، وهو الأكبر في النعم التي ينعمها على الإنسان. وعندما تعيش ما يعيشه الناس من قوىً يمكن لها أن تسقط نفسك، ويمكن لها أن تسقط موقفك، عند ذلك تلتفت إلى الله سبحانه وتعالى لتقول "الله أكبر" وإنّ الآخرين مهما بلغوا من قوة فـ(أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) (البقرة/ 165)، و(فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) (النساء/ 139)، وبذلك تحفظ لك هذه الكلمة بمعناها الرحب والخصب توازنك أمام الكبار، لأنّك عندما تلتفت إليهم وتدخل في مقارنة بينهم وبين الله فإنّك تتصورهم صغاراً وبذلك تتوازن حركتك في الحياة، وعندما تتوازن تفكّر، وعندما تفكّر، تخطّط، وعندما تخطّط، تتحرك.   من موانع التفكير: إنّ مشكلة الذين يخافون هي أنّ الخوف يمنعهم من أن يفكروا، لأنّ الخوف يُطبق على كلِّ عقولهم فلا تملك عقولهم أن تتوازن وتستقر، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى وهو يحدثنا عن الخوف (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) (آل عمران/ 175)، فالشيطان هو الذي يخلق في نفوسكم الخوف وهو الذي يسقطكم من خلال هذا الخوف، يسقط فكركم كما يسقط حياتكم ويسقط مواقفكم (فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ) (آل عمران/ 175)، وحده خوف الله هو الذي يجعلك تتوازن في عقلك عندما تشعر بأنّ نور الله يشرق في عقلك، فأنت عندما تخافه فإنك تتحمل المسؤولية، إنك تخافه فتفكّر فيما لا يغضبه عليك، ذلك أنّ التفكير الحقّ هو الذي يجعلك تبذل جهدك في أن يكون حقاً حتى لا يغضب الله عليك، وتفتح عاطفتك لتكون عاطفة الحقّ حتى لا يغضب الله عليك، وتفتح حياتك لتسير في طريق الحقّ حتى لا يغضب الله عليك. وفي المحصلة فإنّ الله هو الذي يحرّرك من كلِّ خوف آخر وهو الذي يؤمنك من كلِّ ما تخافه في الدنيا والآخرة، لذلك فإنّ هذه الكلمة يمكن أن تعطي الكثير كل ما اتسعت آفاقك وامتدت معها.   أمّ الكتاب: وهكذا عندما تقرأ سورة الفاتحة، وما أدراك ما الفاتحة إنها أمّ الكتاب، لأنّها اختصرت الكتاب كلّه فاختصرت معنى الله (.. رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (الفاتحة/ 2-4)، هو المعبود وحده، وهو المستعان وحده، وهو الهادي إلى الصراط المستقيم وحده، وهو الذي يمنعك من أن تنحرف مع المغضوب عليهم لتجحد الحقّ أو تسير مع الظالمين لتضيّع طريق الحقّ. ومن ثمّ تأتي آيات الله والسور الأخرى، وتسبّح ربّك العظيم وليتجسد إحساسك بالعظمة وأنت تركع، ويتعاظم إحساسك بالعظمة وأنت تسجد. وهكذا تظل في الصلاة من تكبير إلى تكبير ومن قراءة إلى ذكر ومن ركوع إلى ركوع، وفي النهاية تعيش السلام، لأنّك في الصلاة عشت السلام مع نفسك والسلام مع ربّك والسلام مع الناس، ولذلك تقول "السلام عليك أيها النبيّ ورحمة الله وربكاته" لأنّه هو الذي شقّ لنا طريق السلام من خلال وحيّ الله، وتقول بعد ذلك "السلام علينا" لتعيش السلام مع نفسك فلا تحارب الخير والعدل والحقّ في نفسك وتسلّم على عباد الله الصالحين باعتبار أنهم فريقك، ثمّ تنطلق لتسلّم على الملائكة وتسلّم على الناس جميعاً لتنطلق الصلاة في سائر الأرجاء والأجواء وليكون تحريمها التكبير لتعيش في أجواء التكبير، وليكون تحليلها التسليم لتكون الصلاة بالتالي حركة في العقل وفي القلب وفي الجسد، بل حركة من أجل السلام: السلام مع النفس ومع الله ومع الناس. (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت/ 45)، وبذلك تعني الصلاة شيئاً كثيراً للإنسان، فهي ليست شيئاً على الهامش ولكنها شيء في عمق العمق. ويروى عن رسول الله (ص) أنّه قال: "إنّ الصلاة عمود الدين وإنها أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من الأعمال، وأول ما يُسئل عنه العبد بعد المعرفة، فإن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد ما سواها"[1] ذلك أنّ الدِّين يرتكز على الإيمان بالله والصلاة هي "معراج المؤمن"[2] إلى الله وكلّما عرج الإنسان إلى الله بروحه في صلاته عرف الله أكثر وقرب من الله أكثر (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (المؤمنون/ 2)، لأنهم تمثلوا صلاتهم فيما يذكرون ويقرأون ويفعلون وبذلك جسّدوا الإيمان في الممارسة الصلاتية.   الإعراض عن اللغو: (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) (المؤمنون/ 3)، واللغو هو كلّ ما لا ينفع، وكلّ الكلمات التي لا معنى لها، وكلّ الأفعال التي لا مضمون لها، وكلّ العلاقات التي لا جدوى منها، وكلّ المواقف التي لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، فأنت في الحياة طاقة لابدّ أن تعطي الحياة شيئاً، أما أن يكون كلامك لغواً لا معنى له، وأن يكون عملك ونشاطك لغواً لا نتيجة له، وأن تكون علاقاتك لغواً لا فائدة منه، وأن تكون مواقفك شيئاً لا يحقق لك ولا للحياة شيئاً، فإنّ معنى ذلك أنّك أعطيت شيئاً من الحياة موتاً، لأنّ الحياة هي بمقدار ما تنتج من خير وبمقدار ما تعطي منه (وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) (يس/ 33)، (وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (الحج/ 5)، فالبطالة موت واللغو موت والجمود موت، ولذلك فأنت تعيش من أجل أن تعطي الفكر أفقاً جديداً، وأن تعطي الحياة حركة جديدة وأن تعطي الواقع شيئاً جديداً من خلال انطلاق روحك في كلِّ روح الحياة، وعقلك في كلِّ عقل الحياة، وحركتك في كلِّ حركة الحياة، حتى إذا جاءك الأجل ومت بقي منك للحياة شيء بقدر طاقتك (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا) (الكهف/ 46)، (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ)، هي ما يبقى لك مما ينفع الناس ويبقى لك مما يرفع الله به درجتك ويرضى به عنك. لذلك فالمؤمن هو الذي يعرض عن اللغو، لا سيما وأنّ من يعيش اللغو يفقد شيئاً كبيراً من الإيمان ويعيش ضعف إيمانه وفقر إيمانه، فالحقيقة هي أنّ المؤمن لا يفرغ للهو وللعبث ولكنه يفرغ للعمل، وهذا ما عبّر عنه الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) في مناجاته لربه عندما قال "يا من ذكره شرف للذاكرين، ويا من شكره فوزٌ للشاكرين، ويا من طاعته نجاة للمطيعين، صلّ على محمد وآل محمد واشغل قلوبنا" قبل ألسنتنا "بذكرك عن كلِّ ذكر، وألسنتنا بشكرك عن كلِّ شكر وجوارحنا بطاعتك عن كلِّ طاعة، فإن قدّرت لنا فراغاً من شغل فاجعله فراغ سلامة لا تدركنا فيه تبعة ولا تلحقنا فيه سآمة، حتى ينصرف عنا كتّاب السيئات بصحيفة خالية من ذكر سيِّئاتنا ويتولى كتّاب الحسنات عنا مسرورين" بما كتبوا من حسنات لأننا لم نفعل إلا خيراً ولأننا لم نترك إلا شراً، أما الشيء الذي لا خير فيه ولا شرّ فيه فلماذا تستهلك طاقتك فيه؟!   فعل الزكاة: (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) (المؤمنون/ 4)، والزكاة في القرآن لا تختص بالزكاة وهديّة تهديها وحقّ تعطيه وما إلى ذلك: فالمؤمن هو الذي يعيش روح العطاء وهو الذي لا يبخل بشيء، لأنّه إذا بخل فإنما يبخل على نفسه، أما إذا أعطى فإنّ العطاء ينطلق منه إلى الله سبحانه وتعالى فهو الذي يتقبل عطاءنا وهو الذي يجزينا على ذلك، لذلك فالمؤمن ليس بخيلاً وهو ليس إنساناً لا يتحسس حاجات الناس الذين تثقلهم حاجاتهم والذين تؤلمهم معاناتهم.   المؤمن عفيف: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) (المؤمنون/ 5)، والمؤمن عفيف يعيش العفّة في شهواته، فالله سبحانه وتعالى عندما خلق شهواتنا لم يرد منّا أن نقتل شهواتنا وأن نجمّدها، بل أراد للإنسان أن يعيش حياته بشكل طبيعي جدّاً شريطة أن يتوازن. كلّ ما شئت ولكن في الحلال والبس ما شئت وأعمل أي شيء ولكن في الحلال. وكذلك الجنس الذي هو غريزة حيوية أساسية تشبع للإنسان حاجته في أحاسيسه الجسدية وتحقق له امتداده في الزمن، ولكن الله قال لك ليس الجنس مجرد شيء تتلهى به وتطلق فيه حريتك، بل لابدّ من أن تنظّم غريزتك من خلال طهارتك النفسية، ومن خلال نظام المجتمع الذي حولك، لأنّ الجنس عندما يعيش الفوضى فستكون الأنساب فوضى، وستكون العلاقات فوضى، وسوف يفقد المجتمع هذا السكن الذي يوحي بالطمأنينة والذي يقيم العلاقات حتى لو كانت الشهوة في داخلها على أساس المودة والرحمة (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم/ 21)، لذلك قال الله لك إنّ عليك أن تحفظ فرجك إلا في المواقع المباحة. والخطاب قد يكون في شكله اللفظي للرجال ولكنه يشمل النساء أيضاً بلحظات التغليب، ولأنّ مسألة الحديث عن الجنس بالنسبة للنساء قد يكون شيئاً غير مألوف، ولذلك كان الحديث دائماً مع الرجل ولم يكن مع المرأة، وإلا فإنّ كلاً من الرجل والمرأة سواء في عالم العفة أو في عالم الانحراف، ولذلك جعل عقابهما سواء بسواء وجعل ثوابهما سواء بسواء (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ) (الأحزاب/ 35)، (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) (النور/ 2)، (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (المؤمنون/ 5-6)، ذلك بأنّ الله أباح لهم ذلك (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ) (المؤمنون/ 7)، في أية ممارسة لم يأذن بها الله سواءً كانت زنى أو كانت لواطاً أو كانت سحاقاً أو حتى لو كانت كما في بعض الروايات إستمناءً (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) (المؤمنون/ 7)، ولقد ورد في بعض الكلمات المأثورة أنّ العفّة عبادة "ما عبد الله بشيء أفضل من عفة بطن وفرج"[3]، "يكادُ العفيف أن يكون ملكاً من الملائكة"، (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ)، هم المنحرفون عن خط الله المتعدّون لحدود الله.   مراعاة الأمانة والعهد: (وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) (المؤمنون/ 8)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة/ 1)، (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) (النحل/ 91)، وهكذا (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء/ 58)، وعندما تكبر الأمانة فتكون بحجم المسؤولية كلّها (إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ) (الأحزاب/ 72)، والأمانة هي المسؤولية عن المال والعرض والنفس والبيئة والوحدة والحياة كلّها. (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) (النساء/ 58)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ) (الأنفال/ 27). (وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)، يرعون أمانتهم فلا يخونون ويرعون عهدهم فلا ينقضون هذا العهد، فالله تعالى يريد أن يقول لنا، إنّ كلمتك لابدّ أن تكون قانونك، ولقد قالها علي (ع): "الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به فإذا تكلّمت به صرت في وثاقه"[4] فأنت كلمة وعندما تقبل الأمانة فأنت موقف أيضاً، وهي تعني إنسانيتك، والكلمة عهدٌ وهي موقف وتعني إنسانيتك أيضاً، فمن احترم إنسانيته احترم كلمته وعهده وموقفه وأمانته.   الابتداء والانتهاء بالصلاة: لقد بدأ الله تعالى بالصلاة خشوعاً حتى يعيش الإنسان روحية الصلاة مع الله، وبدأ بالصلاة التزاماً حتى يحافظ الإنسان عليها من كلِّ ما يشغله عنها من علاقاته وأعماله وأوضاعه (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) (المؤمنون/ 9)، كن الإنسان الذي يحافظ على صلاته ليحافظ بالتالي على أوقاتها وعلى إخلاصها (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (الماعون/ 4-7).   من هم الوارثون: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ) (المؤمنون/ 10)، هؤلاء هم الذين يورثهم الله أرضه ليجعلهم قادة أرضه وطليعة الحركة في أرضه والذين يديرونها ويصنعون فيها الكثير مما يريده ومما جاء به وحيه حقاً وعدلاً وخيراً ورحمة وبركة في كلِّ المجالات.. (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) (المؤمنون/ 11). أيّها الأحبة: إنّ الله يقول لكم، إنّ الفردوس هو إرث هؤلاء فيما يعيشون من عمق هذه العناوين وفيما يتحركون في واقعها.. أتحبون الفردوس؟ والفردوس ليس مجرد نعيم فيه الحور والوالدان وما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين ولكنه النعيم الكبير (وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ) (التوبة/ 72)، هذه المتعة الروحية، وهذا العنفوان الكبير الذي يعيشه الإنسان عندما يحسّ بأنّ الله راضٍ عن عقله عندما كان عقله يفكّر، وراضٍ عن قلبه عندما كان قلبه ينبض ويخفق بالعاطفة، وراضٍ عن حياته عندما تتحرك حياته في الحق والعدل والخير، وذلك ما يمثله هذا النداء الحبيب الذي يتمنى كلّ واحد منا أن يكون هو المناديه، وهو الذي عانى تعب الحياة في الخمسين والستين والسبعين، وأثقلت ظهره الأعباء وبدأ يستعد للقاء ربّه، كلّ واحدٍ منا ينتظر هذه الهمسة الربانية الروحية الحبيبة (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) (الفجر/ 27-29)، الذين رضيت عنهم (وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر/ 30). هل نعمل من أجل تحصيل هذه الطمأنينة؟ هل نعمل على أن نكون الراضين بالله بكلِّ قضائه وقدره وكلّ وحيه، المرضيين عنده بإيماننا وعملنا الصالح؟ هل نطمع في أن نتحرك في هذا الاتجاه (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) (المطففين/ 26).   الهوامش: [1]- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج10، باب 25، ص394، رواية 1. [2]- المرجع السابق نفسه: ج81، باب 16، ص255، رواية 52. [3]- الكافي، الكليني، ج2، ص79، رواية 1.

[4]- نهج البلاغة، الإمام علي (ع)، قصار الحكم: 381، ص410، دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الأولى، 1410هـ/ 1990م.

     المصدر: كتاب الندوة/ 4

ارسال التعليق

Top