• ١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٨ ربيع الثاني ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الماهية الأخلاقية والمعنوية لحياة الإنسان الشرقي والغربي

الماهية الأخلاقية والمعنوية لحياة الإنسان الشرقي والغربي

نقرأ في القرآن أنّ الله ربُّ المشرق والمغرب: (وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ) (البقرة/115)، والشجرة المباركة (الزيتونة) وهي رمز عالم المعنى ليست بشرقية ولا غربية.
واليوم وأكثر من أيّ زمن مضى، نحن بحاجة إلى أن نعرف الماهية المشتركة للحقيقة، والتي لا تختصّ بأيٍّ من الشرق والغرب، إلاّ أن الواقع هو أنّ جماعة من الغرب لا يعترفون بالإسلام، وينظرون إليه بشكل آخر. من هنا، فهم لا يحترمون الإسلام، ولا يُراعون حرمته، ويحقِّرونه قدر ما استطاعوا، مقابل ذلك يوجد في عالم الإسلام مَن ينظر إلى الغرب على أنّه العدوّ الأول للإسلام.
في هذا الخضمّ، إنّ مَن يرى أنّ الله ربُّ المشرق والمغرب يجب أن يقف بوجه تلك الممارسات والسلوكيات الهوجاء والمبنية في بعض الأحيان على سوء النية والتي أدّت إلى الاضطرابات والاختلال في هذا التوازن البسيط بين الشرق والغرب.
لقد كان الإسلام أجنبياً في نظر الغرب إلى ما قبل المرحلة المعاصرة، لكن معرفة الحضارة الغربية في مرحلة تبلورها ورشدها كانت إلى حدّ بعيد ببركة هذا الذي يعدّونه أجنبياً عنهم، كذلك إنّ حضارات متعددة كان لها علاقة بالإسلام من قَبيل الحضارة الهندية والصينية اللتين كانتا أجنبيتين بالنسبة للإسلام.
إنّ اعتقاد المسلمين بأنّ الإسلام مركز الحضارة العالمية استدعى أن يبقى المسلمون بعيداً، ولقرون عن عصر النهضة الأوروبية والتحولات العقلية الدينية العظيمة التي حدثت في هذا العصر، والتي منها ظهور علوم جديدة وتقنيات جديدة.
قد يعتقد البعض أنّ الحضارة الإسلامية كانت مقصّرة في عدم اتّباعها أساليبَ التنمية التي اتبعت في الغرب، وبالتالي يطرحون سؤالاً على ضوء ذلك: ما هو الخطأ الذي وقع فيه العالم الإسلامي؟
غير أنّه بالنظر إلى تاريخ العالم يجب أن يتبدل السؤال إلى: ما الخطأ الذي وقعت فيه أوروبا؟ بدل السؤال عن خطأ العالم الإسلامي.
إنّ السؤال نفسَه عن الخطأ الذي وقع؟ هو بمثابة حقّ يُعطى للسائل للبتِّ في أمر غير صحيح.
لقد كان المقياس العالمي ذات يوم قائماً على أساس الأصول الدينية والمعنوية، وكان النظرة الكونية تستقي مفرداتِها من محورية الربّ (المحورية الإلهية)، ومثال ذلك يمكن رؤيته في حضارات كل من اليابان والصين والهند، والإسلام، والبيزانطيين، وأوروبا القرون الوسطى.
في الواقع إنّ أوروبا وبعد القرون الوسطى ابتعدت عن معاييرها، وأصبح الإنسان محوراً عندهم بدل محورية الله في نظرتهم الكونية، وبعبارة دينية ساد (ملكوتُ الإنسان) بدل (ملكوت الله) في أدبياتهم وممارساتهم الحياتية.
إنّ التحُّرر العقلي من الوحي، والشهود العقلي، مع التأكيد على مذهب (الإنسانية) و(الفردانية) والتجريبية و(الطبيعية)، يستتبع تغييراتٍ وتحوّلاتٍ جديدة كثيرة، منها ظهور علوم جديدة مبنية على القوة، بدل الحكمة، وقد شكّل هذا فرصةً سانحة لأوروبا للسيطرة على العالم كله وعلى الحضارات. وقد أفضى الوضع الجديد إلى: الثورة الصناعية، التكنولوجيا الحديثة، والعلوم الطبية الجديدة.
ولقد أدت العلوم الطبية في هذه الأيام إلى اجتثاث الكثير من الأمراض والقضاء عليها، لكنها في الوقت نفسه أدّت إلى ازدياد عدد السكان. وكما ساهمت التكنولوجيا الجديدة في هدم الطبيعة وتخريبها، وخلقت أجواء من الرفاهية والاستقرار.
وقد أدّى موتُ عشرات الملايين في أوروبا في القرن العشرين على أثر أدوات التقدم الجديدة، مع فقدان معنى الحياة، والمروق عن الدين، وعلمَنةِ العالم والخروج عن الإنسانية، وانهيار البنية الاجتماعية، وهدم الطبيعة، والكثير من مخلّفات المدنية الجديدة. إلى بروز علماء وشعراء غربيين بارزين تبنَّوا انتقاد التمدن الغربي الجديد على مدى القرن الماضي.
وإن كان الكثيرون لم يقرأوا الكتاب المعروف لـ(رينو كنون لاتين وهو (أزمة العالم الجديد)، غير أنّ أكثر الأمريكيين يعرفون كتاب (الأرض البوار) للكتاب (تي إس إليوت).
ويعرفون أيضاً كتاب (اللحظة التي تنتهي فيها الأرض إلى البوار) للكاتب (TONEODOROSZAK)، وكذلك إنّ الكثيرين من الناس مطّلعون على آثار لكتّاب أمريكيين وأوروبيين على مدى العقود الماضية، التي إمّا أنْ تتحدث عن الوضع المعنوي المنهار والمؤسف الذي يسُود حياة الإنسان في المجتمعات الحديثة أو أنها تنتقد المساراتِ والميول والشواخص في المدنية الغربية، ودورَها في سقوط تلك المدنية.
ترى هل يجب أن نتغاضى عن تلك الانتقادات والطُّعون ونفرض أنّ مقاييسَ وسنن الحضارة الغربية الجديدة صحيحة، وأنها معيار نعرف به الصحيح من غير الصحيح؟
لا يمكن لأيّ إنسان عاقل، مع ما يرى ما يحصل للطبيعة من حولنا، وانحطاط البناء الاجتماعي، والأهم من ذلك التسافل الحاصل لأرواحنا، أن يصدّق بأنّ الحضارة الغربية، وبهذا الطرح يمكن أن تكون حكماًً ومعياراً للحضارات الأخرى، سواء الإسلامية منها أم غيرها. بالإضافة إلى أنّ الحضارات الإسلامية أو الصينية لو اتّبعَت النهج الغربي بعد القرون الوسطى بالإضافة إلى إنكلترا في الصين والهند وتركيا ومصر، ثم حصلت الثورة الصناعية فإننا كنا سنقع في أزمات مرتبطة بالبيئة، قد لا نكون أحياء على أثرها، حتى نطرح مثل هذا السؤال: (ما الخطأ الذي وقع)؟
في الواقع إنّ كل حضارة سواء في الشرق أو الغرب تعاني من الانحطاط والأفول، ولابدّ لها أن تطرح هذا السؤال: ما هو الخطأ الذي وقع؟ بدل أن تتبجّح غروراً وتكبّراً، وتسأل عن أسباب أخطاء الآخرين، بسبب عدم قبولها لأفكارهم، وآرائهم، وأعمالهم. علينا أن نكفَّ عن مدح أنفسنا وذمّ الآخرين. ولقد قال المسيح (ع): (الحُسن المُطلَق لله فقط).
لا بدّ لكل حضارة أن تدرك الجوانب السيِّئة والحسنة فيها، وينبغي أن يسأل كلٌّ من المسلمين والغربيين أنفسَهم عن الخطأ الذي وقعت فيه مجتمعاتهم. وهذه الوظيفة تتأكد وتتحتم بالنسبة للغرب، إذ إنّ الحضارة الغربية في هذه الحقبة الزمنية تُعدّ من أقوى وأشمل الحضارات.
هذا مع أننا لا يمكن أن نعدّ الغرب وعالم الإسلام حضارتين متقابلتين، على غرار ما كانت تفعله الجيوش في القرون الوسطى حيث كان يقف الجيشان على خط واحد استعداداً للمعركة.
منذ أزمنة بعيدة احتلّ المسلمون السواحل الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط وغرب السواحل الشمالية، وبعد ذلك وَضعَتِ الإمبراطورية العثمانية يدَها على أوروبا الشرقية، وعلى الحضارات الغربية من غرب فيينا.
إنّ العلاقة بين عالم الإسلام والغرب التي يشكّل فيها عنصرا: "يين" و"يان" دائرة، تُعدّ مظهراً للكمال؛ على هذا الترتيب يعيش الكثيرون من الغربيين في العالم الإسلامي في حين تعيش جاليات إسلامية كبيرة في أوروبا وأمريكا. على أنّ وجود الغربيين في العالم الإسلامي يعود إلى قضايا اقتصادية، وإلى حدًّ ما سياسية بالنسبة للغرب، في حين أنّ مشاركة المسلمين المقيمين في الغرب تعود إلى قضايا عقلية وفكرية بالدرجة الأولى، ثم تأتي القضايا الاقتصادية بالدرجة الثانية.
في الواقع، إنّ أساطين العقل، وأصحاب النفوذ، لم يعيشوا في أيّ مرحلة من مراحل تاريخ الإسلام في حضارة أخرى، خارج دار الإسلام، والعجيب أنّ الأجواء خارج دار الإسلام مؤخّراً مناسبة لمثل هذه الأبحاث، حيث الحرية العقلية والفكرية، وهو الأمر المعدوم في أكثر الدول الإسلامية، بسبب الوضع السائد فيها.
على أيّ حال، إنّ مصير الغرب والعالم الإسلامي محبوكٌ بطريقة لا يمكن للأوضاع الحالية أن تفرّق بينهما، وفي هذه المرحلة الحساسة من التاريخ، فإنّ مستقبل الإسلام والغرب، بل وكلّ الحضارات، سيكون، شئنا أم أبينا، في خط المواجهة مع قوى العلمَنة.
فإذا كانت العلمانية قبل ذلك تسعى إلى القضاء على النظرات الكونية القديمة المبنية على المقدّسات، فإنّ حركة العولمة، وحسب مفهومها الرائج، تريد وبسرعة أن ترفع رايتَها وتفرض نظاماً قيمياً واحداً؛ إلاّ أنّ هذا النظام القيمي يمكن أن نطلق عليه اسمَ (معبر الإنسان)، لأنه يستند إلى أشياء وقتية وزائلة، كالسوق وما يستتبعه، وليس له حقائق ثابتة ومفردات معنوية. من هنا، فإنّ المَسائلَ الاقتصادية والسياسة المشتقّة من العولمة – وكما في القوى العلمانية – في مواجهة مع القيم الدينية التي كانت سائدة في الماضي، والآن وفي هذا المنعطف التاريخي الذي تتعرض فيه المشروعيةُ المعنوية الإنسانية إلى الخطر الكامل، يجب السعيُ للحفاظ على المزايا الخاصة لكل دين، والتذكير بالمزايا العامة له. وباستخلاص هاتين المزيّتين يتمُّ عرض وتعريف ومقارنة ذلك الدين مع الأديان الأخرى.
إنّ مواجهة المَسائل المعقدة في هذا المقطع من حياة البشرية لا تستند إلاّ على الحوار المثمر والبنّاء بين الأديان، التي يفترض أن يحترم كلُّ منها خصوصياتِ الآخر وأن يحافظ على الحقائق المشتركة المودَعة في قلب أو مركز كلّ واحد من تلك الأديان.
وفي هذه اللحظة التاريخية من حياة الناس، يتحتم، ليس على المسلمين والغربيين فقط، بل على الجميع أن يسعَوا إلى الحياة الأخلاقية المستندة إلى الاحترام المتبادل وإلى التفاهم. وبالنظر الدقيق إلى الإسلام والغرب ينبغي التأكيد على أننا سواء أكنا مسلمين أم يهوداً أم مسيحيين، أو حتى علمانيين، وسواء أكنا نعيش في عالم الإسلام أم في الغرب، سنظلّ بحاجة إلى حياة ذات معنًى، وإلى موازينَ أخلاقية تدلّل على أعمالنا، وكذلك بحاجة إلى أيديولوجية تجعلنا نعيش مع بعضنا البعض ومع بقية مخلوقات الله، بسلام.
إنَّ تحقُّق تلك الأهداف والحاجات يتم عن طريق الاستعانة بالرسالة الظاهرية والباطنية للإسلام وبقية الأديان، وخصوصاً الرسالة الباطنية، إذ إنها تتمتع بميزة خاصة، فتلك الرسالة هي الحقيقة الجامعة التي أَودعَها اللهُ في قلوب الناس، والتي تحظى بمنزلة في قلوب الأديان السماوية جميعها.
إنّ قلب الإسلام، أو الإسلام القلبي، هو ذلك الإحساس الذي يمنحنا القدرة في هذا العالم على رؤية الله في كل مكان، وعلى أن نكون عينَه وسَمْعَه ويدَه.
إنّ قلب الدين هو بالأحرى الدين القلبي المتجلّي في الصور والأشكال الظاهرية كلها، القلب الذي عبَّر عنه النبّي (ص) بأنّه (عرش الرحمن).
وفي باطن هذا الدين قلبٌ، وهو الحكمة الخالدة التي هي جوهرٌ يضيء في مركز كلِّ رسالة إلهية.
وفي هذه المرحلة المظلمة المضطربة، تظلّ هذه الحكمة فقط، كنور معتدل نابع من معرفة أصيلة يشعُّ لنا، ويتحفنا بالمحبة والرحمة للآخرين.
إنّ الإسلام، وهو آخر فصل من فصول الوحي، وفي هذه المرحلة من حياة الإنسان، استطاع إلى اليوم، ومع كل الاضطرابات الخارجية والدمار والخراب في عصرنا، أن يحفظ رسالة تلك الحكمة الخالدة حيّةً في قلبه. إنّ فهم الإسلام مرتبطُ بفهم تلك الرسالة الجامعة النابعة من قلبه، ومعرفة كيفية ارتباط عوامل السنّة الخارجية الإسلامية بذلك المركز المكنون.
وتقع مسؤولية الاستفادة من هذه المنابع الباطنية للحكمة على عاتق المسلمين، وعلى كلّ رجل وامرأة غربيَّين ينشدان الحكمة والخير، ويريان الإسلام من خلال تلك الحقائق، الحقائق التي يمكن التماسُها في اليهودية والمسيحية والأديان الأخرى.
وينبغي علينا جميعاً أن نتعرّف مرة أخرى إلى قلب الدين (الدين القلبي) حتى نرتويَ من زلال هذه العين التي تغلي وتفور بالحكمة، ونتمتع بحياة مصحوبة بالسلام والتعادل على أساس الحقائق الجامعة الموجودة في الحكمة الخالدة المشتركة بين جميع الشرائع الدينية. وأن نحبَّ جميع خلق الله، حتى نحظى باللطف والرحمة الإلهيين.
في هذا العالم الممتلئ بالقبائح والأنانية لا يوجد شيء أدعى للخلاص منه، من الحكمة، وحبّ الدين القلبي.
إنّ قلب الإسلام ليس سوى الشهادة بالتوحيد للحقيقة الإلهية، وشمولية وجامعية الحقيقة (أيْ عالمية الحقيقة)، وضرورة التسليم للإرادة الإلهية وأداء الإنسان لمسؤولياته وأدائه حقوق الآخرين: إنّ قلبَ الإسلام يوقظنا من نوم الغفلة إلى صَحْوِ السؤال عن: مَن نحن؟ ولماذا نحن في هذا العالم؟ ويدعونا إلى معرفة الأديان الأخرى، وإبراز الاحترام لها، إنّ من الضروري أن يضع المسلمون هذه الدعوة والنداء النابَعين من قلب الإسلام نصبَ أعينهم.
أمّا الغربيون الذين يبحثون في حياتهم عن المعنى، فيجب عليهم الرجوعُ إلى منابعهم ومصادرهم الأصيلة، وأن يعلموا أنهم إذا عرفوا الإسلام جيداً، فإنّهم سوف يحصلون على رؤية واسعة، وبصيرة أكثر في حضارة أخرى ودين آخر، وسوف تكون لهم رؤيةٌ عميقة في قلب ذلك الدين وروحه، إنّ قلب كل دين لا يعني سوى الحقيقةِ الواحدة الجامعة المتربّعة في قلب جميع الأديان الأصيلة، والتي تضع أسس الدين القلبي.

المصدر: كتاب قلب الإسلام (قيم خالدة من أجل الإنسانية)

ارسال التعليق

Top