• ١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٨ ربيع الثاني ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العرب بعد نور الإسلام

العرب بعد نور الإسلام

لا شك بأن الإسلام قد أثر تأثيراً مباشراً ومتنوعاً في العرب، سواء من الناحية الدينية، أو الاجتماعية، أو السياسية، أو الأدبية أو الأخلاقية، فكان له الفضل في إعداد أمة حضارية جديدة، وبناء شخصية قوية متكاملة أدت دوراً بنّاء في تاريخ الإنسانية، وما تزال الآمال معقودة عليها في أن تتحرك حركة عنيفة تتخلص بها من كل عوامل الضعف، وتعيد للبشرية تحقيق الحلم العذب الذي تتطلع إليه الأنظار، ويطمح في تحقيقه والوصول إليه أولو الغيرة والإخلاص والإنصاف.
وأعرض أهم هذه الآثار إجمالاً في ضوء مقارنتها بماضي العرب، لتكون شاهد إثبات واقعي من التاريخ، وحافز بناء مجد حديث لأمة سقطت صرعى لتيارات متعددة وحملات مشككة، فصارت لا تجمع بينها رابطة معينة، ولا تجذبها مقومات محددة، أو حضارة عريقة، وكادت تفقد ثقتها بنفسها بسبب مؤثرات المخططات العالمية. فلم يعد هنالك أمل إلا في الإسلام، بعد أن جرب ساستنا عدة ألوان بديلة عن الإسلام، فسقطوا في هوة سحيقة من الخيبة والفشل والتعثر. والإسلام بمبادئه الخالدة لم يُنسخ بداهة ولم يستنفد أغراضه بعد، وإنما ما زال مصدر هداية، ومطلع نور، وموئل حضارة، إذا تدرع أهلة بالصبر وتحلوا بالجهاد والحزم، وتسربلوا بالنشاط والحركة، والعمل والتضحية، وصمموا على تصحيح الأخطاء، وتغيير المفاهيم الراكدة بسبب الاستعمار والأفكار المصاحبة له والباقية بعده، ونفضوا غبار الوهم، وانتزعوا ثقة الناس بهم، واعتمدوا على أنفسهم، وتخلصوا من كابوس الارتماء في أحضان غيرهم، وأوقفوا حدة الترف، وسيل البذخ والإسراف في بعض قصور العروش والإمارات والوزارت.
1- الآثار الدينية:
إن أوضح أثر للإسلام في العرب هو التأثير الديني، سواء في مجال العقيدة أو العبادة أو الحياة العملية.
أ_ ففي العقيدة: أبدل الله العرب بوثنية الجاهلية التي هي وكر الخرافات والأباطيل مبدأ التوحيد، والإيمان بالرسالة الإلهية، واليوم الآخر، بصراحة لا وسيط ولا شفيع فيها.
في مبدأ الأمر كان العربي في الجاهلية يرى أن الأصنام واسطة الشفاعة والقربى إلى الله: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)(الزمر/3)، ولا يكاد يتصور الحظوة عند الله بالقبول مباشرة، قياساً على أوضاع العالم، فصار بالإسلام يدرك أن الله وحده هو رب السماوات العلا الذي بيده كل شيء، وأنه ليس مع الله آلهة أخرى. وجميع المخلوقات سواء بالنسبة إلى الله، فتلاشت النظرة الطبقية وسمت الكرامة الإنسانية، وأحسَّت النفوس بالعزة، وارتقت العقول، وارتفعت الوجدانات، وسخرت من أفكار الجاهلية التي كانت تصنع الإله أحياناً من تمر، فإذا جاعوا أكلوه، أو تخضع لأصنام من حجر لا تدفع عن نفسها ضرراً ولا تجلب لأحد خيراً. أي أن ديانة العرب كانت سطحية بدائية ليس لها سلطان على نفوسهم، ولا تأثيراً لها في أخلاقهم وسلوكهم، فصارت بالإسلام مشتملة على معرفة عميقة ذات تأثير على النفس والجوارح والأخلاق والاجتماع والحياة كلها.
ولم يكن العربي يدرك أن مهمة الأنبياء والرسل الجوهرية واحدة وهي الدعوة إلى وحدة الإله وعدم الشرك به إلى بمجيء الإسلام الذي أعلن ذلك بوضوح: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين، ولا تتفرقوا فيه، كبر على المشركين ما تدعوهم إليه)(الشورى/13).
وكان بعض العرب ينكر البعث وهم الدهريون القائلون: (إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما يهلكنا إلا الدهر)(الحج/37)، ويشك بعضهم في إمكان القدرة الإلهية إعادة الأجسام إلى الحياة بعد الموت، قال تعالى: (ضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم)(يس/78)، فصار الناس بالإسلام يدركون ضرورة الإيمان باليوم الآخر لإقامة العدالة بمثوبة الطائع، وعقوبة العاصي. واهتمام المسلمون بالعمل المخلص في سبيل الله، وصار همّهم الآخرة وبغيتهم الجنة ـ دار الخلود، فهانت الحياة في أنظارهم، وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم حق الجهاد، وقاوموا الصعاب وذللوا المخاطر، وتفانوا في إرضاء الله ورسوله: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله إلا أن نصر الله قريب)(البقرة/214).
وأصبح الإيمان بالبعث يوم القيامة، وما فيه من حساب وجزاء وتقويم لأعمال الإنسان هو ركيزة تفكير المسلم، ومطمح نظره وغاية أمله لتحقيق الفوز برضا الله مالك يوم الدين، بعد أن كان هم العربي هو قضاء الحياة الدنيا مترعة باللذات والمغانم والمكاسب مما أحدث بين صراعاً عنيفاً، وغارات متوالية من أحل النهب والسلب والظفر بأوفر نصيب من الكلأ والمتاع، وكسب السمعة والشهرة وإذاعة الصيت. أما في الإسلام فصار الخوف من الله تعالى ميزان الأعمال: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره *ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)(الزلزلة/7-8).
ولم يهمل الإسلام في تقرير عقيدته حكم العقل وأصالة التفكير، وإنما على العكس جعل العقل سبيلاً للإيمان وحكماً للإيمان وحكماً في الدين، فلا يكون المرء مؤمناً إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى اقتنع به، وقد كرر القرآن مئات المرات الدعوة إلى وجوب النظر في الكون للاهتداء إلى الإيمان ببارئه، وتدبر سنته وتأمل عجائبه، ليكون الإيمان عن عقل ووعي وبينة، كما قال الشيخ محمد عبده.
ب_ وفي العبادة: صار للعرب وغيرهم عبادات منتظمة تؤدي في أوقات محددة وفي أحوال معينة، بعد أن كانوا فاقدي النظام في الحياة، فلا قانون يرجع إليه، إلا مشيئة رئيس القبيلة ومحض عقله وتجاربه وخبراته. وإذا أدوا عبادة كالحج مثلاً كانت مشوهة مزرية كالطواف حول الكعبة عراة، وكتقديم القرابين للأصنام، أو استشارتها بالأقداح وزجر الطير لمعرفة ويمن العمل أو شؤمه، ونحو ذلك.
فشرع الإسلام عبادات له مقرى معقول وهدف إنساني صحيح، فالصلاة بطهارة بدن وخشوع قلب ووعي عقل صلة الوصل بالله التي تزود المصلي بالعون الإلهي، وتحرره من سلطان المادة، وسيطرة الشهوة، وتملأ النفس برقابة قوية لله تعالى.
والصوم وسيلة فعالة لتقوية الروح والإرادة وتعلم الصبر وتحمل المشاق والتغلب على مصاعب الحياة.
والحج بمناسكه وشعائره الصحيحة سبيل التعارف والتآلف وجمع الكلمة ووحدة الصف، ورمز التخلص من أهواء الشيطان ووساوسه، والتزام جادة الإخلاص لله في كل عمل.
والزكاة طريق المحبة والترابط والتعاون، والترفع عن الشح والبخل، واعتياد البذل والسخاء بانتظام، وتفضيل المصلحة العامة، وتوزيع الثروة العامة بين الجميع، وتحقيق التكافل الاجتماعي، والأخذ بيد الضعيف ليعود إلى المشاركة الإيجابية في العمل والبناء، أو لإقامة نوع من التأمين الجماعي ضد العجز والفقر الطارئ الذي قد يتعرض له كل إنسان في المجتمع.
ج‍_ وفي الحياة العملية: ارتفع شأن العرب وَسَما مجدهم وابتدأت مدنيتهم بالدستور والنظام الإلهي الذي ظهر فيهم، وهو القرآن الذي غذى أرواحهم، وربى نفوسهم بالإيمان وقادهم إلى العمل الصالح، وأنشأ منهم رجالاً صاروا في عقلهم وعدلهم وعلمهم وتمثلهم الحياة الفاضلة سادة الناس وقدوة العالم على ممر الدهور والقرون.
وكان هذا القرآن مدداً فكرياً زاخراً في نقاشهم أهل الشرك والأهواء، أو في حجاج اليهود ومجادلتهم الذين استكثروا على العرب الأميين بعثة رسول منهم، وهم الشعب المختار وأصفياء الله.
ولم يضن هذا القرآن على الأمة الجديدة الناشئة بكل ما تتطلع إليه من عزة ومجد، وبناء شخصية مستقلة متكاملة، فرفدها بمقومات الحياة الصحيحة وأرشدها إلى كيفية إقامة دوحة المجد، وعلمها أصول الجهاد والتضحية والكفاح، وأخذ بيدها في المعارك الفاصلة التي فرقت بين الحق والباطل. وكان من أبرز مظاهر استقلال الشخصية الذاتية تحول القبلة في الصلاة عن بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة: (قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم، وما الله بغافل عما يعملون)(البقرة/144).
ومن أجل تأصيل وحدة اتجاه العالم الإسلامي إلى قبلة واحدة خاصة بالمسلمين لا مجال فيها للتشكيك، أو الإصغاء إلى محاولات اليهود فتنة الناس عن دينهم المستقل، تابع القرآن الرد على هؤلاء اليهود الذين امتلؤوا غيظاً وحقداً، وانطلقوا يخططون المكائد، ويصنعون المؤامرات ويثبطون عزائم أهل الإيمان الجديد، فقال الله تعالى مبيناً حقيقة نواياهم، وكذبهم في تصديق الرسول فيما لو رجع إلى قبلتهم: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)(البقرة/142). وأكد القرآن إصراره على القبلة الجديدة، وموقف أهل الكتاب المعاندين المستكبرين عن قبول دعوة الحق، فقال الله عز وجل: (ولئن أتيت الذين أتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك، وما أنت بتابع قبلتهم، وما بعضهم بتابع قبلة بعض، ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم، إنك إذاً لمن الظالمين)(البقرة/145).
وشمخ العربي المسلم بأنفه حينما أحس بأن تاريخاً قديماً قد انتهى، وبدأ تاريخ جديد بالإسلام الذي وضع أصول الحضارة، وبيَّن أنها ليست مقصورة على الشعوب الأخرى، وأن المسلمين هم الآن بما تحلوا به من صبر وعزيمة وجد واجتهاد، هم شمس الحضارة وسدنتها ورعاتها إلى الأبد.
2-الآثار الاجتماعية:
الإسلام منهج كل للحياة ولا ينفصل جزء من مبادئه عن الجزء الآخر، وإنما يكمله ويساعده على تحقيق الهدف العام، فما التدين في الحقيقة إلا وسيلة بناءة لإقامة المجتمع الفاضل، وما النظم الاجتماعية إلا حارسة أمينة لأصول الدين، وقيم الأخلاق، ويتبيّن هذا فيما شرعه الإسلام من أنظمة تمس المجتمع، وهي أحكام المعاملات.
كانت معاملات العرب في الجاهلية مشتملة على الغبن والغرر والاستغلال وأكل المال بالباطل والظلم ومصادمة الرضا، وعدم الاستقرار والإخلال بالالتزامات والعهود، والمساس ببعض الحقوق الطبيعية كحق الحياة والحرية.
فقام الإسلام بتنظيم المعاملات وبيان أحكام العقود والتصرفات والجنايات والعقوبات وغيرها مما يقصد به تنظيم علاقات الناس بعضهم مع بعض، سواء أكانوا أفراداً أم جماعات، بالإضافة إلى تنظيم الأحكام الاعتقادية التي تتعلق بما يجب على المكلف اعتقاده في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتنظيم الأحكام الخلقية التي تتعلق بما يجب على الإنسان أن يتحلى به من الفضائل، ويتخلى عنه من الرذائل. وتحديد أحكام العبادات المفروضة من صلاة وصيام وزكاة وحج ونذر ويمين ونحوها مما يقصد به تنظيم علاقة الإنسان بربه.
هذا الشمول في بيان علاقة الإنسان بربه وبنفسه وبمجتمعه هو الذي أمتاز به الإسلام عن غيره من النظم الوضعية والديانات الأخرى، وهو الذي تضمنه القرآن.
أما أحكام المعاملات فتتناول ما يلي:
1-أحكام الأحوال الشخصية: وهي التي تتعلق بالأسرة من بدء تكوينها ويقصد بها علاقة الزوجين والأقارب بعضهم مع بعض. فوضعت أحكام الزواج والطلاق والنفقة والميراث، على أساس من العدل، والحفاظ على روابط الود والألفة والمحبة، ومنعت أنواع الزواج المصادمة للأخلاق التي أشرت إليها سابقاً، ومن أخصها تحريم المحرمات من النساء، وكل ما يؤدي إلى السفاح واختلاط الأنساب ومنع الزواج بأكثر من أربع نسوة.
ووضعت بعض الآداب والفضائل التي تنظم أواصر القرابة أو علاقات المجتمع كالاستئذان عند دخول البيوت، ومنع الخلوة بأحد من أقارب الزوجين الأباعد، كبقية الأجانب على المرأة، وغض البصر، وإفشاء السلام ورد التحية بمثلها أو بأحسن منها، والحجاب الشرعي للنساء الحرائر البالغات ونحو ذلك.
2- الأحكام المدنية: وهي التي تتعلق بمعاملات الأفراد ومبادلاتهم من بيع وإيجار ورهن وارتهان وكفالة وشركة ومداينة ووفاء بالالتزام. ويقصد بها تنظيم علاقات الأفراد المالية وحفظ حق من له حق. فأقيم العقد على مبدأ الرضائية، قال الله سبحانه: (يا أيها الذين أمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم)، وحرم الله الربا منعاً من الاستغلال، ونشراً لمبادئ المحبة والتعاون والتراحم وحثاً على التعاون بين الناس، والحد من شهوة جمع المال والتكالب على الدنيا. قال الله تعالى (وأحل الله البيع وحرم الربا)(البقرة/275) (يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين* فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون)(البقرة/278-279) وحث الإسلام على كتابة عقود القرض ونحوها وتوثيقها بالإشهاد والرهن: (يا أيها الذين أمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه)(البقرة/282). ونظم الفقهاء وجوه الانتفاع بالحقوق وأقيمت علاقات الجوار وغيرها على مبدأ "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام".
3- الأحكام الجنائية: وهي التي تتعلق بما يصدر من المكلف (أي البالغ العاقل) من جرائم وما يستحقه عليها من عقوبة، ويقصد بها حفظ حياة الناس أموالهم وأعراضهم وحقوقهم وتحديد علاقة المجني عليه بالجاني وبالأمة.
فحرم القرآن سفك الدماء: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق)(المائدة/151) وحوربت عادة الأخذ بالثأر التي كانت شائعة في الجاهلية، وجعل تطبيق العقاب إلى الحاكم أو نائبه: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب)(البقرة/179)، وحث الشرع على العفو: (يا أيها الذين أمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى، فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف، وأداء إليه بإحسان)(البقرة/178) وشرعت الحدود (العقوبات المقدرة شرعاً) على جرائم الزنى والسرقة والقذف وقطع الطريق وشرب المسكرات. وفوض الشرع الحاكم بتقدير العقوبات الزاجرة الملائمة لحال الجاني وظروف الجريمة في المعاصي أو الذنوب أو الجرائم الأخرى، وهي المعروفة بالتعزيرات.
وفتح الله باب التوبة لمن ندم من العصاة وأصر على التزام أحكام الإسلام.
ووضعت العقوبات البدلية عن بعض العقوبات البدنية كالدية والتعويض المادي: (ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدَّقوا)(النساء/92).
4-أحكام المرافعات والإجراءات المدنية أو الجنائية: وهي التي تتعلق بالقضاء والشهادة واليمين. ويقصد بها تنظيم الإجراءات لإقامة ميزان العدالة بين الناس. قال الله تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيماً)(النساء/105) (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)(النساء/58) (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)(المائدة/8) (يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين)(النساء/135) (وأشهدوا ذوى عدل منكم)(الطلاق/2) (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه)(البقرة/283) (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان)(المائدة/89).
5-الأحكام الدستورية: وهي التي تتعلق بنظام الحكم وأصوله، ويقصد بها تحديد علاقة الحاكم بالمحكوم، وتقرير ما للأفراد والجماعات من حقوق. والمبدأ الإسلامي العام في ذلك: (وأمرهم شورى بينهم)(الشورى/38) (وشاورهم في الأمر)(آل عمران/159) وترك تفصيل كيفية تطبيق هذا المبدأ لعقول العلماء بما يتلاءم مع ظروف الزمان والمكان.
واعتبر الحكم في الإسلام غرماً لا غنماً: "إنها ـ أي الإمارة ـ أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها "(1). والطاعة الواجبة للحاكم تكون في المعروف: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" ومسؤولية الحاكم تقوم على أساس القاعدة الشرعية: "التصرف على الرعية منوط بالمصلحة" أي المصلحة العامة، وهي مستمدة من الأحاديث النبوية: "ما من عبد يسترعيه الله عز وجل رعية يموت وهو غاش رعيته إلا حرم الله تعالى عليه الجنة" "ما من أمير يلي أمور المسلمين، ثم لم يجهد لهم وينصح لهم كنصحه وجهده لنفسه، إلا لم يدخل معهم الجنة".
6-الأحكام الدولية: وهي التي تتعلق بمعاملة الدولة الإسلامية مع غيرها من الدول وهي القانون الدولي العام، وبمعاملة غير المسلمين المواطنين في داخل الدولة الإسلامية، وهي القانون الدولي الخاص. ويقصد بهذه الإحكام تحديد علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول في السلم والحرب، وتحديد علاقة المسلمين بغيرهم في بلاد الدولة الإسلامية.
وأساس هذه العلاقات السلم: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله)(الأنفال/61) وعدم العدوان: (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لايحب المعتدين)(البقرة/190) والمودة بالقسط والعدل: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين)(الممتحنة/8) والجهاد عند العدوان على الدولة الإسلامية أو الدعوة في سبيل الله، أو الدعاة أو المستضعفين: (وجاهدوا في الله حق جهاده)(الحج/78) (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة)(التوبة/36) (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)(التوبة/29) (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله)(التوبة/41) (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل)(البقرة/191) (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان)(النساء/75).
واهتم الإسلام في هذه العلاقات، سواء كانت عامة أو خاصة بالعهد والميثاق ووفاء الالتزام: (يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود)(المائدة/1) (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً)(النحل/91) (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق)(الأنفال/72) (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً، ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين)(التوبة/4).
7- الأحكام الاقتصادية والمالية: وهي التي تتعلق بحقوق الأفراد المالية والتزاماتهم في نظام المال وحقوق الدولة وواجباتها وتنظيم موارد الخزينة. ويقصد بها تنظيم العلاقات المالية بين الأغنياء والفقراء، وبين الدولة والأفراد.
وهذه تشمل أموال الدولة العامة والخاصة كغنائم الحرب والأنفال والعشور والخراج، ومعادن الأرض وموارد الطبيعة، وأموال المجتمع كالزكاة والصدقات والنذور والقروض والضرائب المفروضة على الأغنياء عند الحاجة إلى الدفاع عن البلاد وخلو بيت المال، وأموال الأسرة كالنفقات والمواريث والوصايا، وأموال الأفراد كأرباح التجارة والإجارة والشركات، وكل مرافق الاستغلال والإنتاج والعقوبات المالية كالكفارات والديات والفديات.
وفي كل ما ذكر توجد آيات قرآنية أو أحاديث نبوية، أو أحكام اجتهادية سليمة الاستنباط والمأخذ من مصدري الشريعة الأصليين؛ لأن بيان الشرع إما عام يعرض القواعد العامة والمبادئ الأساسية، أو خاص يفصل الأحكام تفصيلاً كاملاً كالميراث. وفي حال العموم والإجمال يترك أمر التفصيل لعلماء الأمة ليقرروا ما يتناسب مع تحقيق المصالح والحاجات، وما تمليه ضرورات التطور، ومراعاة البيئات في كل عصر ومصر. فيتحقق خلود الشريعة الإسلامية وصلاحيتها لكل زمان ومكان، وتتهيأ قرائح العلماء وأذهان المجتهدين للبحث فيما جد من الأمور والقضايا، مما ينبئ عن تكريم الله لهذه الأمة، وعدم إهمال عقولها، وحضها على التفكير والاستنباط وحل مشكلات الحياة، ووضع الخطط السليمة لحياة أفضل ومستقبل باسم مشرق.

المصدر : نظام الإسلام
الهامش
ــــــــــــــ
(1)نص الحديث هو ما أخرجه مسلم وأحمد عن أبي ذر"قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها" "قال النووي: هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية، ولا سيما لمن كان فيه ضعيف، وهو من دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل، فإنه يندم على ما فرط منه إذا جوزي بالخزي يوم القيامة، وأما من كان أهلاً وعدل فيها، فأجره عظيم كما تظاهرت به الأخبار، ولكن الدخول فيها خطر عظيم، ولذلك امتنع الأكابر منها".
(نيل الأوطار: 8/267 وما بعدها، 273، ط الحلبي).

ارسال التعليق

Top