• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

وقفات مع النفس في شهر شعبان

وقفات مع النفس في شهر شعبان

◄شهر شعبان هو شهر مميّز لما له من العظمة والمكانة، فأيّامه المباركة تُقبل مُبشِّرة بقدوم شهر رمضان الفضيل، وبين يدي هذا القدوم تهلّ نفحات من الرحمة والمغفرة الإلهية والفضل العظيم.

إنّ شهر شعبان يهلّ علينا مُذكِّراً جميع المسلمين بما يحمله لهم من خير، فهو الشهر الذي يتشعَّب في الخير، وهو الشهر الذي يسبق رمضان، وهو شهر الهدى النبويّ والسنّة النبويّة في حبّ الطاعة والعبادة والصيام والقيام.

ولمّا كان شعبان كالمقدَّمة لرمضان فإنّه يُستحب فيه الاجتهاد في النوافل والطاعات، مثل الصيام وقراءة القرآن والصدقة والذكر والاستغفار، ليحصل التأهُّب الروحي والبدني لتلقي رمضان وتتروض النفوس بذلك على طاعة الرحمن. ولهذه المعاني المتقدِّمة وغيرها كان النبيّ (ص)، يُكثر من الصيام في هذا الشهر المبارك، ويغتنم وقت غفلة الناس، وهو رسول الله (ص)، الذي غُفِر له ما تَقدَّم من ذنبه وما تأخّر.

    

 - غفلة عن العبادة:

وَرَد عن رسول الله (ص)، أنّه قال عن شهر شعبان، عن أسامة بن زيد (رض)، قال: قلت يا رسول الله: لم أرَكَ تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: "ذاك شهر تغفل الناس فيه عنه، بين رجب ورمضان. وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى ربّ العالمين، وأُحب أن يرفع عملي وأنا صائم"، رواه النسائي. وقد تضمّن الحديث الشريف إشارة إلى أنّ شهر شعبان تغفل الناس فيه عنه، وذلك لأنّه بين شهرين عظيمين، وهما الشهر الحرام رجب، وشهر الصيام رمضان، فاشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولاً عنه.

وفي قوله (ص): "يغفلُ الناس عنه، بين رجب ورمضان" إشارة إلى أنّ بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو حتى الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه، إمّا مطلقاً أو لخصوصية فيه لا يفطن لها أكثر الناس، فيشتغلون بالمشهور عندهم عنه، ويفوّتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم. ولمّا كان الناس يشتغلون بغير شعبان عن شعبان فإنّ النبيّ (ص)، كان يعمره بالطاعة وبالصيام. ولذلك قال أهل العلم: هذا فيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأنّ ذلك محبوب لله عزّوجلّ. وكذلك فإنّ النبي (ص)، فضَّل القيام وسط الليل لشمول الغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر. كما قال (ص): "إنّ أفضل الصلاة بعد المفروضة الصلاة في جوف الليل".

ولهذا المعنى كان النبيّ (ص)، يريد أن يؤخّر العشاء لنصف الليل، وإنّما علّل ترك ذلك لخشية المشقة على الناس، فعن ابن عمر (رض)، قال: مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله (ص)، لصلاة العشاء الآخرة، فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده، فلا ندري أشيء شغله في أهل، أو غير ذلك؟ فقال حين خرج: "إنّكم لتنتظرون صلاة ما ينتظرها أهل دين غيركم، ولولا أن يثقل على أُمّتي لصليت بهم هذه الساعة"، رواه مسلم. وفي رواية: "ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم". وفي هذا إشارة إلى فضيلة التفرّد بالذكر في وقت من الأوقات، لا يوجد فيه ذاكر ولاستيلاء الغفلة على الناس.

    

- فضل صيام التطوع في شعبان:

ذكر أهل العلم حكماً في تفضيل التطوع بالصيام في شعبان على غيره من الشهور، منها: أنّ أفضل التطوع ما كان قريباً من رمضان قبله وبعده، وذلك يلتحق بصيام رمضان، لقربه منه، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، فيلتحق بالفرائض في الفضل، وهي تكملة لنقص الفرائض، وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده. فكما أنّ السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالنسبة إلى الصلاة، فكذلك يكون صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بعد منه. ولذلك فإنّ رمضان يُسبق بالصيام من شعبان والاستكثار منه، ثمّ بعد انقضاء رمضان يُسَنّ صيام ست من شوال، فهي كالسنن الرواتب التي قبل وبعد الصلاة المفروضة.

 

 - نوافل الطاعات:

شهر شعبان شهر لنوافل الطاعات كلّها بما فيها الصيام، وينطلق فيه المسلم من الحديث الذي رواه أبو هريرة (رض)، أنّ رسول الله (ص)، قال: "إنّ الله قال: مَن عادَى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ ممّا افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه.."، صحيح البخاري. ولمّا كان شعبان كالمقدَّمة لرمضان فإنّه يكون فيه شيء ممّا يكون في رمضان من الصيام وقراءة القرآن والصدقة، فهو ميدان للمسابقة في الخيرات والمبادرة إلى الطاعات قبل مجيء شهر الفرقان.

     

- تدريب وتأهيل:

شهر شعبان هو شهر التدريب والتأهيل التربوي والربّاني، يُقبل عليه المسلم ليكون مؤهلاً للطاعة في رمضان، فيقرأ في شهر شعبان كلّ ما يخصّ شهر رمضان ووسائل اغتنامه، ويجهز برنامجه في رمضان ويجدول مهامه الخيرية، فيجعل من شهر شعبان دورة تأهيلية لرمضان، فيحرص فيها على الإكثار من قراءة القرآن والصوم وسائر العبادات، ويجعل هذا الشهر الذي يغفل عنه كثير من الناس بمثابة دفعة قوية، ودورة تأهيلية لمزيد من الصيام والقيام والطاعات، حتى لا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرّن على الصيام واعتاده، فيدخل في صيام رمضان بقوّة ونشاط.►

ارسال التعليق

Top