• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

ليلٌ أزرق

نسرين حمّود

ليلٌ أزرق

كنتُ أنتظره كلَّ مساء، ولا يتأخّر عن الموعد. حين توشك أجزاءُ دواخلي على الانفصال عنّي، يُسرع إلى توضيبها. كأنّه يسمع نشيجي، كأنّه يشاطرني سريري!

خيرَ مسكِّنٍ لنوبات الأرق، كان. في اللحظة التي ينهار فيها جسمي، متوسِّلاً النومَ، كان يأتي. في اللحظة التي أتكوَّر فيها كجنينٍ ضعيفٍ في السرير، كان يأتي. في اللحظة التي أطرق فيها مؤخِّرةَ رأسي على الوسادة، بعد استرجاع أحداث يومي الرتيب، كان يأتي. في اللحظة التي يفرغ فيها رأسي من مخزونه العكر، كان يأتي.

سعياً إلى شغل ساعات أرقي المستفحلة، لطالما طهوتُ بعد منتصف الليل، وعزَّلتُ غرفتي، وغسلتُ ملابسي النظيفة، وقرأتُ جريدة اليوم التالي أونلاين، وشاهدتُ أفلاماً من كلِّ الصنوف، كما الأجزاء الأربعة من «حريم السلطان». إلى أن يأتي.

غير أنّ «المصائب لا تأتي فرادى»، بحسب شكسبير. فقد كنتُ عاطلةً من العمل، ثمّ تلقَّيتُ إنذاراً من مالك الشقّة بوجوب إخلائها بعد شهرين. تقطّعت بي السُّبلُ، فما كان لي من معينٍ غيره، غير وصلة صراخه. كان جاري، الذي لم أعرف وجهَه قطّ، مصاباً بعُصابٍ، لا يفرِّغ عنه إلّا الصراخ.

وكان صراخُه متقطِّعاً، يتكرَّر كلحنٍ موزون: صراخاً سمعتُ فيه التعاضدَ معي؛ صراخاً كان مِطفأةَ كلِّ فكرةٍ سيّئةٍ عن حياتي، والألمَ الذي يعلو على ألمي، مُهوِّناً عليَّ الأُمور. كأنّه منوِّمٌ أحتاجُه؛ ضابطٌ كفوء لساعتي البيولوجية، وحده يقدر على أن يُسلمني إلى النوم: يلتقط يدي بحنان، ويدخلني إلى الهدأة، ولا يتأخَّر عن وظيفته كلَّ ليلة.

لكن، ما بالُه يغيب عنّي الآن، ويتركني فريسةً لهذا الليل البهيم؟

كدتُ أخرج إلى الشرفة وأنده: أين أنت يا مخلِّصي؟ كدتُ أقلِّد نبرةَ صراخه كي أستثيرَه. كدتُ أطرق باب جاري الآخر، الذي يشتمه حين يعلو صوتُه كلَّ ليلة. كدتُ وكدتُ...

جافاني النومُ هذه الليلة. لم تنفع الحلقاتُ الأخيرة من «حريم السلطان». طهوتُ المعكرونة بالصلصة الحمراء، ونفضتُ الغبار عن المكتبة، من دون أن يحنَّ عليَّ جفناي بتغطية عينيّ. خطّطتُ أن أتوجَّه إلى ناطور البناية للسؤال عنه. حضّرتُ سيناريو يقضي بالتحرِّي عنه، متّخذةً دورَ الجارة الشاكية من صراخه الليليّ. أقسمت أن أصرَّ على مبتغاي حتى أقابله. تخيّلتُ نفسي جالسةً على أريكةٍ مقابلَ أُمِّه العجوز، نحتسي القهوة، وهي تتأسّف لي، حتى يطلَّ برأسه مستفهماً عمّا يدور.

كان صراخه يوحي لي أنّه في الأربعين، سمين، ومربوع الطول. قلتُ هذه الليلة إنّ شكواي المفترضة ستضع لعالمي الليليّ أشكالًا محدَّدةً وألواناً. وأضفت أنّه الذكرى الوحيدة الحسنة من هذا المنزل الذي أزِف موعدُ مغادرته.

حين أطلَّ خيطُ الصباح أقسمتُ أن أذهب إلى أقرب عيادة. لا مفرّ؛ فقد غاب طبيبي الشافي من العُصاب.

ارسال التعليق

Top