• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

مدن التمرد

وفاء نصر شهاب الدين

مدن التمرد

أجبرته الصدفة يوماً ما أن يمر من طريق ظل لسنوات طويلة يتحاشى المرور به، حاول إجبار قدميه على هجر عادتهما في المشي بذلك الكبرياء، خذلته دقات قلبه التي تقارعت لتعلن للعالم كلّه  أنّ هنالك خوفاً يمشي بينهم على قدمين.

في ماضي قديم كان نفس القلب يمارس هوايته الأثيرة في نداء قلب  استوطن رئتيها، تقوست قامته التي نافست هامات السحب، عانقت عيناه التراب الذي أنف أن ينظر إليه يوماً ما.

حركت رأسه مشاعر قديمة ليتفقد شرفة غرفتها، غامت الشمس وتخلت طبقة الغلاف الجوي عن محتواها من الأوكسجين، أمطرت سحب الحب دماء بلون التخاذل، تلوّن العالم بلون قدرها الذي اختارته بإرادة حسدها عليها .

كانت تقف خلف قضبان شرفتها الفولاذية تتأمل كيف يتحرك العالم من دون خطواتها، كيف يمكن لعجلة الحياة أن تسير بدونها وهي التي تحرك العالم كلّه بابتسامة، لم لم تتوقف القلوب تعاطفاً مع قلب رفع بيارق الحب على أنسجته؟ ورئتان تواطئتا معه وبدلاً من أن تمد خلاياها بالأكسجين مدته بالمشاعر، وعقل نشر عدوى المحبة بين كلّ محاوريه.

أجبره قلبه على تأملها وقد ثار شعرها الأسود كجنيه هاربة من كتب السحر القديمة، تبدل وجهها إلى لوحة بستان  ملته وروده وفقدت عيناها حيوية الأمل وأصبحت مرآه لا تعكس سوى ضوء ضئيل يلقي الحسرة في كبد من يراها. وأصبحت مثال نصف حي للجزاء العادل التي تناله من تطأ قدمها أعتاب مدن التمرد .

ارتجفت يده عندما مده عقله بذكريات محاها ليتمكن من الحياة بعد فقدانها، تذكر نسائم حب رقيقة داعبته بها، وكلمة "أحبـــــــــــــــــك"  وقد نطقت بها كلّ خلية منها، كلمات همست بها عينيها  كان يشعر بها بين خدر الوسن وخدر الحب متحدية آلاف من الرؤى والكوابيس وأضغاث الكلمات.

وقفت أمامه تعترف لوالدها باقتراف ذنب الحب، قالت كلمات كثيرة، استعطفت نجدته كأب ألا يمنحها لآخر  كدمية باهرة الحسن باردة الجسد، أخبرته أنّ الحب سيطعمها ويكسوها ثوب الرضا، منحته دموعاً فاضت بها أنهار قلبها، ورغم كلّ محاولاتها تمسك برفضه.

حرمت جسدها ما يبقيه دافئاً، تركت له طعامه، امتنعت عن كلِّ مظاهر الحياة، أغلقت نوافذها، استوطنت فراشها، وتحولت حياتها إلى ليل طويل.

ذات ليله تمكن من كسر حاجز الليل وتواعد معها على الهرب، وبلحظة تخللى عنها العقل طوع لها طوفان المشاعر بداخلها  تخطي كلّ السدود وتحطيم كلّ الموانع وتسللت معه .

تزوجا بدون أن ترتدي الثوب الأبيض، ولكنها ارتدت ثوب المحبة، امترجت دمائهما وأصبحا كائن واحد ينبض بداخله قلبان، دخل معها غابات خيالاتها وأشركته معها بأروع أحلامها.

وفي لحظة جذر عجزت كلّ بحار العالم عن تعويض نتائجه جاءت اللحظة التي خيرت بها بين علاقتهما وحياته، وبنخوة شرقيه اختار زوجته  فامتدت يد الأب لتبطش به، إلا أنها  ركعت أمام والدها للمرة الأولى وطالبته بألا يسلبها الحياة فهو حياتها،  وكان الوالد قد اقتنع أنها فقدت الحياة فلم يلتفت لصرخاتها، كان هدفه الوحيد أن يزرع تلك الرصاصه بداخله.

جعلت من جسدها درع بشري يحميه وأغمضت عينيها وطالبته بتنفيذ ماطلبه والدها، رفض بضراوة وحاول الدفاع عن مشاعرها التي قررت اغتيالها ولكنها صاحبت والدها وهجرت درب الحب.

لم تكن صدفة حقيقية  هي ما أجبرته على المرور لكنه طيف تلك الليله التي قضتها معه متدثره بغمائم المحبة، طيف حنان غامر فتت كبريائه كذكر وحولها إلى شعلة من الحنين. غادر الوالد عالم الأحياء بعد أن غادرت هي عالم العقلاء بعدة سنوات، خشى أن يصعد إليها فتنكره مشاعرها ولكنه استجمع كلّ خلايا الشجاعة وصعد إليها، أعلنت دقات قلبه عن وجوده.. ناداها باسمها.. لم تلتفت إليه.. حادثها.. اقترب أكثر حتى لامس كفه شعرها.. فأحنت عنقها لتمنح كفه فرصة الاعتذار .

ارسال التعليق

Top