• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

العبادة.. تواصل مستمر مع الخالق

الشيخ نعيم قاسم

العبادة.. تواصل مستمر مع الخالق

◄قال تعالى: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى) (طه/ 13-16).

 

العبادةُ تواصلٌ مع الخالق، تُنَوِّرُ قلوبَنَا، وتُغيِّرُ سلوكَنا، وتُهدينا إلى طريق الاستقامة.

كان النبيّ موسى (ع) يسير مع عياله في الصحراء، فرأى عن بُعْدٍ ناراً لم يعلم ماهيتها، فطلب من أهله أن يمكثوا مكانهم ليستطلع النار، لعلّها تعينهم على إنارة الطريق أو التدفئة والاستخدام، فلما وصل إليها تبيَّن له أنها نور النبوة.

تتحدث الآيات عن بدء الوحي لموسى (ع) واختياره كنبيٍّ مكلَّفٍ ليكون رسولاً إلى الناس، يحمل شريعة الله تعالى. فاختيار الأنبياء بيد الله تعالى، الذي يقرِّر من يكون نبياً، والرسالة التي يحملها، وإذا ما كانت رسالة شاملة كما مع النبي محمّد (ص)، أو كانت رسالة أولي العزم كما مع موسى (ع)، أو كانت رسالة لنبيٍّ في مدينة لجماعة محدودة كما مع الكثير من الأنبياء الذين بلغ عددهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبيٍّ، أو كانت رسالة لنبيٍّ في مدينة لجماعة محدودة كما مع الكثير من الأنبياء الذين بلغ عددهم مائة وأربعة وعشرون ألف نبيٍّ، كما في بعض الروايات.

قال تعالى لموسى (ع): (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى)، فما هو هذا الوحي؟ كلَّم الله تعالى موسى (ع) من الوادي الأيمن، من خلف الشجرة، لكنه ليس كلاماً على الطريقة البشرية، بل صوتٌ سمعه موسى (ع) من خلق الله تعالى، فالله تعالى لا يظهر لأحد بمن فيهم الأنبياء، لأنّه مطلق لا شكل له ولا حدود.

 

1-    أقِمِ الصلاةَ لِذِكْرِي:

(إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)، يا موسى: أنا الله، ولا إله غيري، واحدٌ أحد. (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) (الأنبياء/ 22)، ولاختلفت أوامر كلّ واحد منهم عن الآخرين، واختلّ النظام الكوني. إذاً هو إلهٌ واحد، لا شريك له، (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) (الإخلاص/ 4). فاعبدني يا موسى، وهي دعوة لجميع البشر إلى عبادة الله تعالى، وما إرسال الأنبياء إلى الناس إلّا ليعبدوا الله تعالى، لا لأن الله تعالى بحاجة إلى عبادتنا (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران/ 97)، ولكن ليستفيد المخلوق المحتاج والناقص والعاجز من علاقته بالخالق الكامل والقادر، فالعبادة اعتراف بقدرة الله تعالى ونِعَمِهِ، وأداء يهدي الإنسان إلى الطريق الصحيح.

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي)، فالصلاة ذكرٌ لله تعالى وتقرُّبٌ منه، وهي نموذج من العبادات التي تقربنا إلى الله تعالى، كالصوم والزكاة والحج والخمس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...

تتطلب العبادات نية القربة إلى الله تعالى، وهي نتيجة الإيمان والطاعة، وليست لفظة النية مطلوبة، وإنما عيشها فعلياً أثناء قيام الإنسان بالعبادة، فلا تتقوَّم العبادة من دون النية.

أما الواجبات الأخرى كالمعاملات مثل الإنفاق على الزوجة والأولاد، أو الطهارة المائية من النجاسة، أو حدود الحلال من المعاملات كضوابط عقد البيع أو حرمة الإقراض الربوي... فهي واجبات توصلية، أي أنها توصل إلى الله تعالى، ولكن لا يشترط فيها نية القربة إلى الله تعالى. فلو أنفق على زوجته وأولاده ولم ينموِ القربة إلى الله تعالى، وإنما أدى الحق كواجب أو لاعتقاده بمسؤوليته عنه، فقد قام بواجبه ولا شيء عليه، وكذلك لو تنجست يده فمرَّرها من غير قصد تحت الماء الطاهر تطهر من دون نية التطهير، وهذا يختلف عن الوضوء أو الغُسل اللذين يشترط فيهما نية القربة لصحة العمل.

(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى)، ولم يخبرنا الله تعالى عن وقت القيامة ووقت الساعة، ما يجعلنا مختارين لتصرفاتنا من دون ضغط التوقيت ليوم القيامة.

(فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى)، فلا يمنعك عن يوم القيامة، أي عن الاستقامة التي تكون سبباً لنجاتك في يوم القيامة، من لا يتبع الله تعالى بل يتبع هواه الذي يسقطه في عذاب جهنم.

 

2-    تعزيزُ العلاقة مع الله:

نحن مأمورون بالعبادة لله تعالى، فهي التي تعزز صلتنا به، وتقوي علاقتنا به، وتؤثر على مسار حياتنا.

العبادة تعزيزٌ للعلاقة مع الله تعالى، من خلالها نكون قد استمدينا منه، وحقَّقنا مرضاته، لنصل إلى أعلى المستويات الإنسانية التي لا تتحقق إلّا بالعلاقة معه، مصدرٍ كلِّ الخيرات والعطاءات، ومصدر الكمال والتوفيق.

يقول تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا) (الزّمر/ 9)، هذا الإنسان الذي يصلّي صلاة الليل، ويتعبّد لله تعالى والناس نيام، (يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) (الزّمر/ 9)، يريد التقرّب إلى الله تعالى ليسوِّي صحيفة أعماله لمصلحة الطاعة، ويرجو رحمة ربه، والزيادة من فضله بغير حساب. (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ) (الزّمر/ 9)، هل يستوي الذي يعلم حقيقة العبادة وآثارها، والجاهل الذي لا يعرف قيمة ومعنى الصلاة في جوف الليل المظلم؟ العاقل هو الذي يلجأ إلى العبادة، ويتذلل لله تعالى ويتقرب منه، فمع عبادة الله تعالى لا حدود للرقي ودرجات الكمال والسعادة البشرية، تصاحبها المغفرة والرضوان.

قال رسول الله (ص): "إنّ الله جلّ جلاله أوحى إلى الدنيا: أتعِبي من خدَمَك واخدمي من رفَضَك، إنّ العبدَ إذا تَخَلّى بِسَيِّدِهِ في جَوفِ الليلِ المظلِم وناجاهُ، أثبَتَ اللهُ النُّورَ في قَلبِهِ، فإذا قال: يا رَبِّ يا رَبِّ، ناداهُ الجليلُ جَلَّ جلالُهُ: لَبَّيكَ عَبدي، سَلني أُعطِكَ، وتَوَكَّل عَلَيَّ أكفِكَ. ثمَّ يَقولُ جَلَّ جلالُهُ لملائِكَتِهِ: يا ملائكتي، انظُروا إلى عَبدي، فقد تَخَلّى بي في جَوفِ الليلِ المظلِم، والبَطّالونَ لاهونَ، والغافِلونَ نِيامٌ، إشهَدوا أنّي قَد غَفَرتُ لَهُ". هل يُدرك الإنسان معنى أن يخاطب الله تعالى الملائكة ويُشهدهم بأنّه قد غفر لعبده؟ الربحُ دائمٌ مع عبادة الله تعالى، تعطي القليل ويعطيك الكثير، وهذا القليل الذي تُعطيه يرتد إيجاباً عليك من الله الغني عن العالمين.

يقول الإمام عليّ (ع) في نهج البلاغة: "طُوبى لنفسٍ أدَّتْ إلى ربِّها فرْضَها، وعَرَكَتْ بجَنْبِها بُؤسَها، وهَجَرَتْ في الليلِ غُمْضَها، حتى إذا غَلَبَ الكَرَى عليها، افتَرَشَتْ أرضَها، وتَوَسَّدَت كَفَّها، في مَعْشَرٍ أسْهَرَ عيونَهُم خَوْفُ معادِهِمْ، وتجافَتْ عن مضاجِعِهِم جُنُوبُهُمْ، وهَمهَمَتْ بذكرِ رَبِّهِمْ شفاهُهُمْ، وتقَشَّعَتْ بِطُولِ استغفارِهِمْ ذُنوبُهُم، أولئكَ حِزْبُ الله ألا إنَّ حِزْبَ الله هُمُ المُفلِحُونَ". هذا المقام الرفيع هو للعابدين الراكعين الساجدين الخاشعين لله تعالى، والمنفِّذين للأوامر الإلهية، وأولئك هم المفلحون.

انظر إلى عبادة أمير المؤمنين عليّ (ع) الذي يقول: "ما رأيتُ شيئاً إلّا ورأيتُ الله قبله"، حيث اختلط كيانه بالإيمان الذي أزال الحواجز، ليكون كلُّ شيء مع الله، وهذا هو العيش العملي لقوله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) (الحديد/ 4)، إنّها بركات ونور الطاعة التي توصل إلى هذا المقام العظيم.

تتغيَّر حياة الناس، وتتغيَّر طريقة التفكير لديهم، ويتغيَّر سلوكهم، إذا عبدوا الله وتفاعلوا معه. فلا يمكن أن ترتكبَ معصيةً إذا عشت وجود الله تعالى معك في كلّ لحظة، كما لا يمكن أن ترتكِبها لو كنت تعيش رقابة الله تعالى كما تحذر من رقابة أخيك أو أبيك أو زميلك، فاعمل وجاهد نفسك لتعيش العبادة أُنساً وتفاعلاً، فتكون مع الله ويكون معك.

تساعد العبادة على التقوى التي تحمي من المعاصي والآثام، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 21).

وبما أنّ الإنسان يحتاج إلى قوة يلجأ إليها لتساعده وتعينه، فأي قوة أقدر وأعظم من قوة الله الخالق العلي القدير؟ وماذا سيربح العابدون لغير الله تعالى؟ (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ) (الأنبياء/ 66). لقد فطر الله تعالى الإنسان على غرائز ثابتة، ومنها غريزة التدين، فإمّا أن نعبُد الله تعالى، وإما أن نعبد الصنم أو الشهوة أو الهوى، إذ لابدّ للإنسان أن يكون له معبود، ولكن غير الله تعالى مسلوب القدرة والسيطرة، لا يضرّ ولا ينفع، أما الله تعالى فهو الخالق المدبر، الذي بيده كلّ شيء وإليه تُرجعون.

حاور النبيّ إبراهيم (ع) أباه آزر، حول عبادة الله تعالى في مقابل عبادته وقومه للأصنام، مبيِّناً بالدليل والبرهان سبب الدعوة إلى عبادة الله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (الشعراء/ 69-82). كلّ الأمور بيد الله تعالى، وكلّ العطايا من عند الله تعالى، وكلّ حركة الحياة وما فيها بإرادة الله تعالى، فإذا ما عبد الإنسان ربَّه، يكون قد وجَّه غريزة التدين بشكل سليم، ما يريحه معنوياً وعملياً، فيربح الدنيا والآخرة.

لا تقتصر عبادة الأصنام على عبادة الحجارة الصمّاء، إذ يوجد ما هو أسوأ من الأصنام، كالشهوات، والانحراف، والمال، والسلطة... التي إذا تمسَّك بها الإنسان، وضحّى من أجلها، وتعلَّق بها، كان عابداً لها من دون الله تعالى. أما العابد لله تعالى فهو في مسارٍ مناقض تماماً لعبدة الأصنام، يعرِضُ عن المحرمات والشهوات والهوى ويواجهها، لأنّها تحرفه عن خياره المستقيم.

عن الإمام الرضا (ع): "إن قال قائلٌ: لم تَعَبَّدَهُم؟ قيل: "لئلا يكونوا ناسين لذِكره، ولا تاركينَ لأدبه، ولا لاهِين عن أمره ونهيه، إذا كان فيه صلاحهم وفسادهم وقوامهم، فلو تُرِكوا بغير تَعَبُّد، لطالَ عليهم الأمد فقستْ قُلوبهم". محور العبادة لله تعالى استمرار التواصل مع الله تعالى وذكره الدائم، ما يساعد على مواصلة طريق الهدى.

 

3-    آثَارُ العِبَادة:

قال تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) (العنكبوت/ 45). عندما تصلي قربة إلى الله تعالى، فإنَّك تعبِّر عن التزامك بأوامر الله تعالى ونواهيه، وتكون بتواصلك مع الله مُنتبهاً إلى خطواتك اليومية، ومُراعياً لمسائل الحلال والحرام، ما يؤدي بشكل انسيابي إلى الانتهاء عن الفحشاء والمنكر، وهذه النتيجة من آثار الصلاة الحقيقية.

قال رسول الله (ص) لأمير المؤمنين عليّ (ع): "يا علي! إنما منزلةُ الصلوات الخمس لأُمّتي كنهرٍ جارٍ على باب أحدكم، فما يظن أحدُكُم لو كان في جسده درن، ثمّ اغتسل في ذلك النهر خمس مرات، أكان يبقى في جسده درن؟ فكذلك والله الصلوات الخمس لأُمّتي"، فالصلاة عملية تطهير، خمس مرات في اليوم حيث يستيقظ الإنسان صباحاً ويستفتح، بذكر الله تعالى (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد/ 28)، ثمّ من الصباح إلى الظهيرة يتعامل مع الناس، فيُحسن ويُسيء، فيحين وقت صلاة الظهر فيصلِّي ويستغفر الله تعالى، ما يُصوِّب سلوكه وحُسن تعامله مع الناس، ومع صلاة العصر يزداد انتباهه. ثمّ من العصر إلى المغرب، يُحسن ويُسيء، فيحين وقت صلاة المغرب، فيُصلّي ويستغفر، ثمّ يختم بصلاة العشاء ويذهب إلى النوم، فيكون قد بدأ يومه بطاعة الله تعالى، كذلك وتوسطه طاعة لله تعالى، وأنهاه كذلك، ما يطوِّق الانحراف قبل أن يستفحل، ويُعالج الانحرافات الطارئة من بدايتها. إنّ التواصل اليومي خمس مرات مع الله تعالى، يجعل الفاصل الزمني بين الاتصال والآخر قصيراً، والغفلة عن ذكر الله تعالى محدودة، ما ينبِّه الإنسان ليستدرك قبل أن تتفاقم المعاصي وتزداد.

وقال تعالى عن الصوم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183). فالصيام يهدف إلى تقوية الإرادة ليمتلك الإنسان قدرة حماية نفسه من الانزلاق، وهذه الإرادة تعزِّز حالة التقوى التي تشمل أعمال الإنسان في حياته، وقوله لعلكم تتقون، لارتباط التقوى بأداء حق الصيام بالشكل والمضمون الصحيحين.

في الحديث القدسي سأل النبيّ (ص) أثناء المعراج: "يا رب، وما ميراث الصوم؟ فأجابه: الصوم يورث الحكمة، والحكمة تورث المعرفة، والمعرفة تورث اليقين، فإذا استيقن العبد، لا يبالي أصبح بعُسرٍ أو بيُسر". انظر إلى هذه الآثار العظيمة للصوم، والتي تتدرج نحو الكمال، بحيث لا يبالي العبد إذا ما أصاب نعمة أو نقمة، لأنّه ناظرٌ إلى نجاحه في الامتحان وتحقيق مرضاة الله تعالى.

أمرنا الله تعالى بأعمال محدَّدة واجبة كعبادات، إذا ما التزمنا بها بشروطها، حصدنا آثارها في السلوك والمعاملات، فعن الإمام السجاد (ع): "يقول الله تعالى: يا بن آدم، اعمل بما افترضتُ عليك تكن من أعبد الناس".

 

4-    صفاتُ العَابد:

سبع صفات بيَّنها رسول الله (ص) في حديث المعراج، عندما خاطبه الله تعالى:

"يا أحمد، هل تدري متى يكون لي العبد عابداً؟

قال (ص): لا يا رب؟

قال تعالى: "إذا اجتمع فيه سبع خصال: ورعٌ يحجزه عن المحارم، وصمتٌ يكفه عما لا يعنيه، وخوفٌ يزداد كلّ يوم من بكائه، وحياءٌ يستحي مني في الخلاء، وأكلُ ما لابدّ منه، ويُبغضُ الدنيا لبَغضي لها، ويحبُّ الأخيار لحبي إياهم". اسألوا الله تعالى أن تتصفوا بها، واعلموا أن بإمكانكم أن تصلوا إليها جميعاً، بتطبيق ما فرضه الله تعالى، وما أمر به من العبادات والمعاملات.►

 

المصدر: كتاب مفاتيح السعادة

ارسال التعليق

Top