• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

سرّ الله تعالى في ليلة القدر

عمار كاظم

سرّ الله تعالى في ليلة القدر

(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ* سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (سورة القدر). إنّ التّدقيق في الآيات التي تحدثت عن نزول القرآن، يوحي بأنّها من ليالي شهر رمضان، وذلك كما في قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) (البقرة/ 185)، وقوله تعالى: (إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) (الدّخان/ 3ـ5)، فإنّ الظاهر منها ـ بالمقارنة مع سورة القدر ـ أنّ المراد بها ليلة القدر. وقد اختلفت الأحاديث في تحديدها، ولعلّ المشهور أنّها ليلة ثلاث وعشرين.

(وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ)، فهي سرّ من أسرار الله فليس شأنها مما يمكن للإنسان أن يدركه بنفسه، لأنّ ذلك سرّ الله في الزمان، كما هو سرّه في المكان وفي الأشخاص، فهو الخالق للوجود كلّه، بكلّ أنواعه، وهو الذي يمنح هذا بعضاً من الخصوصية التي تجعل منه "شيئاً مذكوراً"، ويمنح ذاك بعضاً من الأسرار التي تجعله شيئاً عظيماً، لأنّ الّذي يخلق الوجود هو القادر على أن يمنحه قيمته. وهكذا جعل الله لهذه الليلة قيمتها الروحية: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)، وقد لا يكون هذا الرقم تحديداً في الكمّ، فربما كان تقريباً للنوع في الدرجة التي يتضاءل أمامها كلّ زمنٍ من هذه الأزمنة التي لا تحمل إلّا الذرات الزمنية المجرّدة.

وهل أخذت شرفها من إنزال القرآن فيها، أم أنّ شرفها سابقٌ عليه؟ الظاهر الثاني، لأنّ الله يقول: (إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ) (الدخان/ 3)، فهي مباركةٌ في ذاتها. وربما كان نزول القرآن فيها على أساس أنّه من الأمر الإلهيّ الذي يتنزل به الملائكة. وأيُّ أمرٍ أعظم من القرآن الذي هو النور والهدى للبشرية من خلال اللطف الإلهيّ الّذي يصل الأرض بالسماء، ويدفع بالحياة إلى السير على الخطّة الإلهيّة الحكيمة في الفكر والمنهج والشريعة والمفهوم الكامل الشامل للحياة، الذي يفتح للإنسان أكثر من نافذةٍ على الروح القادم من عند الله، ليزداد ـ بذلك ـ ارتفاعاً في السماوات الروحية العليا في رحاب الله؟!.

(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ)، وهذا هو سرّ الليلة الذي تتنزّل به الملائكة، الذين يوكل الله إليهم المهمّات المتعلقة بالكون الأرضي المتصل بالإنسان من كلّ أمرٍ يهمّه أو يتعلّق بشؤونه، في رزقه، وحركته وعمره، ونحو ذلك. كما يتنزّل به الروح الذي قد يكون المراد به جبريل (ع)، الذي امتاز عن الملائكة بأنّه الرسول الذي يحمل الوحي للأنبياء ليبلّغوه للناس، وقد يكون المراد به الخلق العظيم الذي يتميّز بقدرةٍ خاصّةٍ غامضةٍ، أو بطبيعة مختلفةٍ عن طبيعة الملائكة. ومهما كان، مما يمكن للإنسان فهم معناه، وبلوغ مداه، أو مما لا يمكن له الوصول إلى ذلك، فإنّ الآية توحي بأنّ هناك سرّاً ربّانياً يثيره الله في هذه الليلة في الكون الإنساني، من خلال رحمته التي يرحم بها عباده، ولطفه الذي يلطف به في حياتهم العامّة أو الخاصّة.

ارسال التعليق

Top