• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

زكاة العلم

حسن بن موسى الصفار

زكاة العلم

◄الزكاة لغة: النمو والزيادة. يقال: زكا الزرع: إذا نما وزاد، وزكت النفقة: إذا بورك فيها. وقد تطلق بمعنى الطهارة، قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) (الشمس/ 9)، أي طهّرها عن الأدناس. ومثله قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (الأعلى/ 14). جاء في لسان العرب: "وأصل الزكاة في اللغة: الطهارة والنماء والبركة، وفي حديث الباقر (ع) أنّه قال: "زكاة الأرض يُبسها، يريد طهارتها من النجاسة كالبول وأشباهه بأن يجفّ ويذهب أثره".

ومن فلسفة الزكاة في التشريع الإسلامي يظهر أنّ المعنيين قد أخذا فيها بعين الاعتبار، فإيتاء زكاة المال يطهّر نفس الإنسان من الأنانية والبخل والحرص، لشعور الإنسان بأنّ المال الذي يحصل عليه ملك له وحده، وتحت سيطرته وتصرفه هو فقط، وإعطاؤه للزكاة تشذيب وتعديل لهذه المشاعر والأحاسيس، لذلك يقول تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا) (التوبة/ 103).

في الوقت ذاته فإنّ إخراج الزكاة ينمي المال ويزيده، ببركة الله وفضله، وحتى وفق المنظور الاجتماعي والاقتصادي فإنّ رعاية الفقراء يوفّر الأمن الاجتماعي، حيث يمنع من تشكّل حالات الإجرام والعدوان الناتجة من الفقر والحرمان، كما أنّ تدوير الثروة في المجتمع، يحرّك الوضع الاقتصادي، ومردوده سيكون على أصحاب رؤوس الأموال أيضاً. ومن هنا نرى الدول الكبرى في العالم تقدم شيئاً من الدعم والمساعدة للدول الفقيرة المتخلفة، التي إذا تحرّك اقتصادها فستستهلك من إنتاج تلك الدول المتقدمة.

والنصوص الدينية تشير إلى دور الزكاة والصدقة في تنمية المال والثروة كما ورد عن رسول الله (ص): "إذا أردت أن يثري الله مالك فزّكه"، وقول الإمام محمّد الباقر (ع): "الزكاة تزيد في الرزق".

 

لكلّ شيء زكاة:

ليس امتلاك الإنسان للثروة فقط هو الذي يشعره بالأنانية والبخل، بل إنّ كلّ إمكانية يتوفر عليها الإنسان تسبب له هذا الشعور، وتشيعه في نفسه وسلوكه، لذلك فهو في حاجة لترشيد مشاعره وتصرفاته تجاه كلّ ما يتحصّل عليه من إمكانات ومكاسب في هذه الحياة، ليتجه لتوظيفها في خدمة المصلحة العامة.

من هنا تشير النصوص الدينية إلى أنّ لكلّ شيء زكاة، فكما يجب على الإنسان أن يعطي حصة من ماله – حسب الضوابط الشرعية – لصالح الفقراء والخدمات العامة، فإنّ عليه أن يوظف شيئاً من قدراته وإمكاناته المختلفة لصالح الشأن العام وخدمة أبناء جنسه ومجتمعه، يقول الإمام عليّ (ع): "لكلّ شيء زكاة". وورد مثله عن الإمام جعفر الصادق (ع).

والعلم والمعرفة من أكبر الإمكانات وأهم المكاسب، وإذا ما توفّر إنسان على مستوى وقدر من العلم، فقد يأخذه الغرور والتعالي على من حوله، وتسيطر عليه الأنانية فيحتكر العلم والمعرفة لنفسه، ويبخل بها على الآخرين، إلّا في حدود خدمة ذاته ومصالحه. لذا جاءت التعاليم الدينية تؤكد على مسؤولية العالم تجاه النّاس، وتوجب عليه بذل علمه للمحتاجين إليه المنتفعين به.

وبذل العلم هي زكاته. روي عن رسول الله (ص) أنّه قال: "زكاة العلم تعليمه من لا يعلمه".

وعن الإمام عليّ (ع): "زكاة العلم بذله لمستحقه".

وعن الإمام جعفر الصادق (ع): "لكلّ شيء زكاة وزكاة العلم أن يعلّمه أهله".

إنّ بذل العلم للنّاس يزكّي نفس العالم ويطهّرها من الأنانية والبخل، ويؤكد لديه الشعور بالمسؤولية، فالعلم ليس تشريفاً فقط وإنما هو مسؤولية وتكليف.

من ناحية أخرى، فإنّ بذل العلم يزيده وينميه، كما يقول الإمام عليّ (ع): "والعلم يزكو على الإنفاق" أي يزيد وينمو.

ذلك أن إبداء المعلومات يرسّخها في ذاكرة الإنسان، فالفكرة أو المعلومة التي تطرحها عدة مرات تصبح أكثر حضوراً في ذهنك، وأبعد عن الغفلة والنسيان.

وطرح الأفكار والآراء أمام الآخرين يعطي الفرصة والمجال لتمحيصها ونقدها ومناقشتها، فقد ينطوي الإنسان على نظرية ما معتقداً صحتها وصوابها، فإذا ما طرحها للتداول العلمي والفكري بين النّاس، فإنّها قد تثير شيئاً من التساؤل والأخذ والرد، يدعو صاحبها لإعادة النظر فيها، بمعالجة الثغرات ونقاط الضعف في النظرية، مما يعمقها ويقوّيها، أو بالتراجع عنها إذا انكشف له بطلانها، وذلك مكسب مهم وفائدة كبيرة، لا تحصل بانطواء العالم على علمه، وإنما ببذل العلم ونشره.

ومن ناحية أخرى، فإنّ بذل العلم ينشّط الحركة الفكرية والعلمية في المجتمع، وذلك من صالح العالم نفسه، حيث إنّ انتماءه لمجتمع حيوي له حركة معرفية، يزيد في نشاطه العلمي، ويدفعه أكثر للتفاعل والتقدم.

لكلّ ذلك يكون بذل العلم زكاة له، أي سبباً لنمائه وبركته.►

 

المصدر: كتاب زكاة العلم/ تأملات في العطاء العلمي والثقافي

ارسال التعليق

Top