• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الحج.. عبادة وتربية

د. زهير بيطار

الحج.. عبادة وتربية
◄العبادة الإسلامية هي المدرسة الأمثل التي لا يعادلها ولا يغني عنها شيء في بناء الإنسان والأخلاق، فضلاً عن تميَّزُها بأنها الجو التربوي الذي يقع الإنسان في سياقه تلقائياً، وأنها متاحة لكل فرد مهما كان عمره وظروفه ومستوى فهمه، وأنها شاملة لكل المجتمع بلا استثناء، ولئن كانت تلك الظروف هي الوضع الأمثل للمتعبّد، فرغم ذلك حتى لو تحقق بعضها لاختلاف مستوى الخشوع أو اختلاف مستوى الفهم والادراك فإنّ الفعل الطوعي هذا يترك بالتكرار أثره المؤكّد في أعماق النفس وخلفية الذهن والشعور. إنّ العبادات الإسلامية متكاملة التأثير والأهداف، لكن لكل خصوصياتها الهامة، ومنها عبادة الحج.. التي نوجز خصوصياتها على الشكل التالي: حين ينطلق الحاج لتأدية الفريضة بذلك الشوق وتلك الرغبة العارمة إلى بيت الله الحرام منادياً: "لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، لك الحمد والنعمة والملك، لا شريك لك لبيك"، فهذا يحمل معنى الإقبال والرغبة في التوجه، ويرفع عنوان الوحدانية المطلقة لله والارتباط الكامل به، والانقطاع الكلي إليه، ويجسّده الإحرام كسلوكٍ مقابلٍ لتلك الرغبة والنيّة، فالمسلم عندما يحرم يغتسل للطهر، والطهر هنا جسدي ونفسي يشمل الطهر من كل ما يعلق به من الدنيا والحياة والمادة للدخول بين يدي الله وفي حرمه خالصاً من رواسب المادة متجرّداً من ضروراتها وما يرتبط بها من رموز، ويؤكد ذلك بنزع ثيابه وارتداء ثياب الإحرام، الذي هو الحدّ الأدنى من اللباس والحدّ الأدنى من الدنيا، يرافق ذلك التخلي عن الطيب والزخرف ومظاهر النعمة التنعم، إذن فهو يُقبِلُ برغبةٍ منه وشوقٍ على الله وحده متخلّياً عن كل ما عداه في الوجود وكل ما في الحياة من أسباب تشدّه إلى الدنيا وتشغله بها، محققاً معنى ندائه "لا شريك لك لبيك". وحينما يتجه إلى الحرم وفي كل أوقاته بعد ذلك قبل فكّ الإحرام يمتنع عن التظلّل إلا للضرورة، فذلك تعزيزاً لشعوره بالانكشاف الكامل لله تعالى، فهو المقبل عليه وحده، متخلياً عن كل ما سواه وعن كل رغبةٍ أو رهبةٍ إلا له ومنه، مكشوفاً أمامه فلا ظلّ إلا ظلّه ولا حرّ إلا حرّه ولا قوة إلا قوته ولا ملجأ إلا ملجأه ولا سلطة إلا سلطته، كل ذلك مظهر سلوكي لشعوره بحقيقة الوحدانية والخضوع لله مصدر السلطة الأوحد. وحين يأتي إلى الطواف وآلاف الناس كلها صوت واحد، ولباس واحد، ونداء واحد، وحلقة واحدة، تدور وتدور حول مركز واحد هو الكعبة الشريفة.. وتتحرك باتجاه واحد: الكبير والصغير الأمير والأجير، الملك والرعية، الغني والفقير، الأبيض والأسود والأصفر، الرجل والمرأة، كله تعبير متعدد الأوجه: أوّلاً، عن الاستجابة الحرفيّة لله، وهذا من جديد يمثّل مظهراً سلوكياً للشعور بالخضوع الكلي له، كما تدور الكواكب في أفلاكها حول الشمس بأمره: "لبيك لا شريك لك". وثانياً، تعبير عن المساواة الكاملة بين الناس أفراداً وجماعات، إناثاً وذكوراً، شعوباً وطبقات وألواناً، تلك المساواة المعلنة بالآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات/ 13). وثالثاً: تعبير عن شعور المسلمين بوحدتهم وترسيخ عملي لهذا الشعور. وهذان المعنيان أعني المساواة والوحدة هما مرافقان لكل مراسم الحجّ من أوّلها إلى آخرها، بل مجرّد الاجتماع الواحد وبالزي الواحد والنداء الواحد والتحرك الواحد كافٍ للتدليل على ذلك. ثمّ حينما يسعى الحاج بين الصفا والمروة مهرولاً يشعر وكأنّه يتخلّص من ذنوبه وآثامه وينفضها عنه، ويهرب منها إلى الله، بل ويشعر وكأنه يهرب من الدنيا إليه سبحانه، متنكراً لما عداه فاراً منه ملتجئاً إليه، هذا فضلاً عن معنى دلالات في الطواف. وفي "عَرَفة" حيث تُقبلُ التوبة، يتطهَّر الإنسان من الذنب ويتخلّص من عقدته. وفي المدلفة حيث يبيت تحت السماء لتعزيز شعوره من جديد بالانكشاف لله والوقوع الكامل في سلطانه. وفي "مِنَى" حيث يرمي الجمار مظهر سلوكي رمزي يعبّر عن ترذيل ونبذ كل الطواغيت و"الشياطين" في حياة البشر التي إن إنساق لها الإنسان أو تعلّق بها طغت عليه واستعبدته وأضلته وأخلَّت بإخلاصه لله. ثمّ بعد هذا التعهّد لله. بالتخلُّص من الطاغوت، يعود ليجدّد الطواف مع ما فيه من المشاعر والمعاني السابقة الذكر. أما امتناع الإنسان خلال الإحرام عن قتل الحيوانات مهما كانت تافهة كالنملة مثلاً، فما ذلك إلا لترسيخ الشعور لديه بأن لا سبيل لشيء على شيء ولا سبيل للقوي على الضعيف، بل السبيل هو لله وحده على كلّ المخلوقات، فهي في ذلك أمام الله سواء. هذه الصورة الموجزة هي نموذج لفهم المسلم لمراسم حجّه، ووجه من وجوه مضامينها، وكلما أمعنّا النظر في الحج ومارسنا شعائره تجلّت لنا مضامين ومعان وأبعاد يكمّل بعضها بعضاً، تماماً كالذي يحصل في الصلاة كلما خشع المصلي لربّه وزاد تمعناً في نصوصها وأفعالها امتزج وجدانه بمعانيها وانكشفت له مضامين أخرى وكأنّه يصلي لأول مرة، فشعور الإنسان أنّه بين يدي ربه وموضع رعايته واهتمامه، يعطيه حالة من السلم النفسي الباعث للإلهام والشعور المتجدّد بكل ما يربط بالله من قيم وبما يتضمنه معنى الخضوع المطلق له. إنّ المنحى الأساسي المشترك لكل فهم، ولكل انعكاس نفسي للحجّ، وكذلك للصلاة، هو هذا العنوان الأكبر: الله وحده لا شريك له، هو المسيطر، وله السلطة المطلقة والسلطان الحقيقي على البشر والوجود، وهو وحده الذي له الخضوع، ولا يجوز ذلك لغيره أبداً. مما يخلّص الإنسان من الخضوع لمصادر التأثير الأخرى التي إذا سيطرت عليه استعبدته وانتقصت من قيمته الإنسانية، وحريته في انسجام سلوكه مع قناعاته ووجدانه. وفي الخلاصة: إنّ الإسلام نظام متكامل الأركان، عقيدة وأخلاقاً وتشريعاً، وهو النظام الأمثل للإنسان في كل زمان ومكان، لأنّه يمثّل في ركائز مضمونه الخطوط الرئيسة المنسجمة مع فطرة الإنسان السليمة في بنائه النفسي والذهني وكذلك في حاجاته المترتبة على ذلك وعلى حقائق وجوده. هذه الثوابت في فطرة الإنسان هي المميز له ككائن حيّ عن باقي الأحياء في بنائه المعنوي وطبيعة حياته، تماماً كصفات أي نوع من الخلق في بنائه العضوي المميزة له دوماً عن سائر المخلوقات.. فهذه وتلك ثابتة ما دام هذا الحيّ إنساناً لم يتحوّل إلى حيّ آخر. والإسلام الذي شُرّع للإنسان لا لغيره، إنما يرتبط في أسسه بهذه الثوابت. وذلك ما يفسّر كونه لكل زمان ومكان وكل إنسان. وأمّا الحاجات المتطورة في حياة الإنسان فلا تخرج عن خطوط فطرته الرئيسة هذه، المميزة له كإنسان وهي تتقلّب ضمن حدودها. وقد تعهد "الاجتهاد" بعلاجها أيضاً ضمن الخطوط الرئيسة للإسلام المرتبطة بتلك الخطوط الرئيسة لفطرة الإنسان. والإسلام الذي يهدف إلى بناء المجتمع الإنساني السليم، المجتمع الأفضل، إنما شرّع العبادة أيضاً من نفس المنطلقات، كحاجة تقتضيها فطرة الإنسان وتتناسب معها. فالعقيدة التي تعكس حقائق الوجود الأزلية، والأخلاق التي تعبّر عن أصالة الإنسان وطبيعته السليمة ومصالحه الحقيقية في الحياة، هما القاعدة التي ينطلق منها التشريع، الذي يعكس بدوره حاجات الإنسان الحقيقية المرتبطة بأصالته وثوابته الإنسانية، والعبادة هي، في أحد وجوهها الأهم، التربية الشاملة التي أخضع الإسلام لها الفرد والجماعة لبناء المجتمع الإسلامي في النفوس، وهي مع ما في الإسلام من وجوه أخرى للتربية تهدف فيما تهدف، إلى انبعاث الخير من داخل الإنسان أوّلاً، وصياغة الإنسان الصالح الحرّ بذاته، والمجتمع الحر والبشرية المتحررة من كل عوامل العنف والطغيان.►

ارسال التعليق

Top