د. زكريا محمد
من بينها حُسن التأسيس والاختيار والقيام بالمسؤولية
الأسرة بنية اجتماعية يقوم عليها المجتمع، وتؤثر فيه سلباً وإيجاباً، وتُعبر عن حالة هذا المجتمع، وتمثله تمثيلاً صادقاً. فحينما تكون الأسرة آمنة مستقرة قوية، فإنّ المجتمع يصطبغ بصبغتها، وحينها تغير مسارها، فإنّ هذا المجتمع لابدّ أن يدور في فلكها.
تكمن أهمية الأسرة في أنها البيئة الأهم والمحطة الأولى التي يتشكل الفرد فيها، ويكتسب توجهاته الأساسية منها. ولذلك اهتم الإسلام اهتماماً عظيماً بشأن الأسرة، وأسس تكوينها، وأسباب دوام ترابطها في ظل مشاعر المودة والرحمة، قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً...) (الروم/ 21). وفي بيان عدد من أهم الأسس والمقومات اللازمة لاستقرار الأسرة، يتحدث الدكتور زكريا محمد الحمقة، الواعظ في الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقات.
ويستهل حديثه موضحاً أنّ التأسيس السليم للأسرة يكون من خلال بناء البيت المسلم على تقوى الله تعالى، ويكون ذلك بالتعامل بين الزوجين على أساس الشرع، بحيث يفهم كل من الزوجين طبيعة الآخر كما خلقه الله عليها، وهو ما يُطلق عليه الحقوق الزوجية. قال رسول الله (ص): "استوصوا بالنساء فإنّ المرأة خُلقت من ضلع، وإنّ أعوج شيء في الضلع أعلاه. فإن ذهبت تُقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء" – صحيح البخاري.
- حُسن الاختيار:
وهو حسن اختيار الرجل للمرأة، والمرأة للرجل، فقد وجّه الإسلام إلى ضرورة الزواج بصاحبة الخُلق والدين مع عدم نسيان الصفات الأخرى للمرأة، كالجمال والحسب والمال. قال رسول الله (ص): "تُنكح المرأة على إحدى خصال ثلاث، تنكح المرأة على مالها وتنكح المرأة على جمالها وتنكح المرأة على دينها، فخذ ذات الدين والخلق تَربَت يمينك" – الإمام أحمد. وقد أوصى الإسلام وليّ المرأة بأن يُحسن اختيار الرجل المناسب لها، وطلب منه أن يستشير ابنته ويستأذنها في من جاءها خاطباً لها. قال رسول الله (ص): "إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض" – ابن ماجه.
- القيام بالمسؤولية:
الزوجان مطالبان بتحمل المسؤولية في بناء هذه الأسرة. قال رسول الله (ص): "ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه. ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته". متفق عليه.
- رعاية الحقوق والواجبات:
لا يمكن أن تتحقق سعادة الأسرة واستقرارها إلا بمراعاة الحقوق والواجبات والآداب التي شرعها الإسلام، وبيّنها رسول الأنام سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، ومنها:
العشرة بالمعروف من الرجل للمرأة ومن المرأة للرجل، قال تعالى: (.. وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ...) (البقرة/ 228، فكلا الزوجين مأمور بمعاشرة صاحبه بالمعروف الذي أمر به رب العالمين. ومن المعاشرة بالمعروف أن يصبر كلا الطرفين على صاحبه، ويتحمل منه، ويغض الطرف عن بعض هفواته. يقول النبي (ص) للزوج: "لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خُلقاً رضي منها آخر" – مسلم. وقال (ص): "ألا أخبركم بنسائكم من أهل الجنة؟ الولود الودود، التي إذا ظلمت هي أو ظُلمك قالت: هذه يدي في يدك، لا أذوق غمضاً حتى ترضي" – الطبراني.
ويوجه الرسول (ص) الرجل إلى الابتعاد عن السب ومخاطبة الزوجة بفحش القول. عن حكيم بن معاوية القُشيري، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟، قال (ص): "أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، أو اكتسبت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبّح، ولا تهجر إلا في البيت" – أبو داود. ومن المعاشرة بالمعروف حفظ الأسرار الزوجية وعدم إفشائها ونشرها للناس من قبل الزوج أو الزوجة. قال رسول الله (ص): "إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثمّ ينشر سرها" – الترمذي.
ومن المعاشرة بالمعروف التزيين والتطيب، بخلاف ما يظنه البعض أن هذا حق للرجل فقط. فكما يحب الزوج أن يشم من زوجته رائحة طيبة ويراها في أحسن صورة، فهي كذلك تريد أن تشم من زوجها رائحة طيبة، وتراه في أحسن صورة. قال ابن عباس (رض). إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة. لأنّ الله يقول: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) – تفسير ابن كثير.
ومن المعاشرة بالمعروف، الرعاية والحماية والإنفاق، لأنّ الرجل مسؤول أمام الله تعالى عن هذه الأمانة العظيمة ومُكلف يحملها ويجب عليه أن يؤديها كما أمر بها. قال (ص): "كفى بالمرء إثماً أن يُضيع من يقوت" – أبو داود. وقال (ص): "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول" – النسائي. وقال (ص): "إنّ الله سائل كل راع عما استرعاه، أحفظ أم ضيع، حتى يسأل الرجل عن أهل بيته" – صحيح ابن حبان. وفي المقابل ينبغي على المرأة أن تقوم بواجباتها وتقابل هذا العطاء من الرجل بالشكر والطاعة، ويتحقق ذلك بطاعة الزوج في ما لا معصية لله فيه، ومحافظتها على بيتها وأولادها وعرض زوجها وماله. قال (ص): "إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها، قيل لها ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت" – أحمد. وقال رسول الله (ص): "لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها، وهي لا تستغني عنه" – النسائي. وهذا هو شأن الصالحات من النساء اللواتي يبحثن عن السعادة الزوجية ويسعين إليها. وقال رسول الله (ص): "ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة، إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته" – أبو داود.
فالزوجة الصالحة تُرضي زوجها ولا تتتبع هفواته ولا تُظهر زلاله، إذا حضر إليها أكرمته واحترمته، وإن غاب عنها حفظته وصانته، لا تكلفه ما لا يطيق، همها أن تنال رضا ربها ثمّ رضا زوجها، وأن تُنشئ أولادها على الصلاح والتقوى، تعين زوجها على نوائب الدهر، وتحثه على الكسب الحلال الطيب. قال رسول الله (ص): "إن خير النساء التي إن أعطيت شكرت، وإن أمسك عنها صبرت" – مصنف عبدالرزاق.
- التأسي بالقدوة الحسنة:
أعظم قدوة هو سيد الخلق أجمعين نبينا محمد (ص)، فهو الأسوة في كل ما يهم الإنسان في حياته. وتعاليمه (ص) هي البوصلة الهادية إلى الاستقرار الأسري، وبها يتم التوازن المنشود لأفراد الأسرة جميعاً. فلقد كان (ص) قدوةً لكل الأزواج، وهو القائل (ص): "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي" – الترمذي. وثبت أنّه (ص) كان في حياته الزوجية جميل العشرة دائم البشر، يتلطف بهنّ، ويوسع النفقة عليهنّ، ويحاورهنّ ويصبر عليهن ويتحمل منهنّ، وكان (ص) يقول لعائشة (رض): "إني لأعرف غضبك ورضاك". قالت: وكيف تعرف ذاك يا رسول الله؟ قال: "إنك إذا كنت راضية قلت: بلى ورب محمد. وإذا كنت ساخطة قلت: لا ورب إبراهيم". قالت: أجل. لست أهاجر إلا اسمك" – البخاري.
وكان (ص) في بيته متواضعاً يُحسن معاملة أهله ويكون في حاجتهنّ، فعن الأسود قال: سألت عائشة (ص) ما كان النبي (ص) يصنع في بيته؟ قالت: "كان يكون في مهنة أهله – تعني خدمة أهله – فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة" – البخاري. فما كان (ص) زوجاً عبوساً ولا متجهماً، وإنما كان طلق المُحَيّا، غير فظ ولا غليظ، كان يعامل زوجاته بالمعروف، ويوجههن بالرفق، وينصحهنّ باللين، ويستشيرهن في أمور الحياة.
- تجنب الذنوب والمعاصي:
وإن من أسباب المشاكل الأسرية الذنوب والمعاصي من أفراد الأسرة، فإنّ المعاصي تُزيل النعم وتجلب النقم وتشتت القلوب وتدمر المبادئ والقيم، ويحصل بوجودها في البيت تمرد فلا تُطيع المرأة زوجها لأنّها ترى فيه أثر المعاصي، فتتمرد عليه عقوبة له. وكذلك الزوج يرى أن يزوجته لا تلتزم بطاعة الله، فيتولد في قلبه كره لها، وبغض لها. والله تعالى يقول: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى/ 30)، ولا شك في أن من أعظم المصائب خراب البيوت، وقال رسول الله (ص): "إذا أراد الله عزّ وجل بعبد خيراً عَجَل له عقوبة ذنبه" – الإمام أحمد. وقد قال بعض السلف: إني إذا عصيت الله رأيت أثر ذلك في دابتي وخلق زوجتي. قال عبد الله بن مسعود (رض): إنّ للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعةً في الرزق، وقوّة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق. وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق". ذكره ابن القيم في الجواب الكافي.
- اجتناب ما يهدم الأسرة:
ومن أهمها الطلاق، فهو من أبغض الحلال إلى الله تعالى. قال (ص): "ما أحل الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق" – ابو داود. وقال (ص): "ما بال أحدكم يلعب بحدود الله يقول قد طلقت قد راجعت" – صحيح ابن حبان. وقال النبي (ص): "أيما امرأة سالت زوجها طلاقاً في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة" – أبو داود.
- معرفة العدو الحقيقي:
العدو الحقيقي للأسرة هو الشيطان وأعوانه، فينبغي مخالفته ومعصيته من كل أفراد الأسرة. قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (فاطر/ 6). فاحذروا الشيطان على بيوتكم. قال رسول الله (ص): "إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثمّ يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم، فيقول: "فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئاً. قال ويجيء أحدهم، فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله، قال: فيدنيه منه – أو قال: فيلتزمه – ويقول: نعم أنت أنت" – أحمد.
فلنحصّن بيوتنا من هذا العدو اللدود. قال رسول الله (ص): "إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عَشاء. وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء" – مسلم. وهكذا فإنّه ينبغي على كل من يبحث عن السعادة الزوجية والاستقرار الأسري، أن يدرك أنّه لن يصل إلى مبتغاه ولن يحقق هدفه إلا إذا بنى أسرته على هذه الأسس المتينة، وتأسى بنبيه (ص).
ارسال التعليق