• ١٩ تموز/يوليو ٢٠٢٤ | ١٢ محرم ١٤٤٦ هـ
البلاغ

دور المؤسّسة الدينية في بناء التعدّدية

باسم حسين الزيدي

دور المؤسّسة الدينية في بناء التعدّدية

الأديان رافقت الفرد والمجتمعات الإنسانية منذ نشأتها باعتبارها رافداً أساسياً من روافد الضبط الاجتماعي والأخلاقي، والمنظم أو المرشد لجميع العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية من خلال دورها المهذب والمصحح لمجموع القيم والأعراف والتقاليد والطقوس والثقافة التي تشكّل بمجملها الموروث والسلوك المميز بين المجتمعات الإنسانية من جهة، والمفرق بينها وبين سائر المخلوقات الأُخرى من جهة أُخرى.

وقد برزت الحاجة إلى الدِّين والتدين، والتي تطوّرت لاحقاً إلى مؤسّسة دينية باعتبارها حالة تنظيمية للعلاقات التي يتفاعل معها الإنسان مع نفسه روحياً ومعنوياً، ومع الآخرين سلوكاً وتعاملاً، ومع الخالق أو الربّ اتباعاً وطاعةً، من دون أن تكون هذه الدوائر الثلاث كنوع من الأطواق المقيّدة لرحلة الفرد من الحياة إلى الممات أو سالبة للحقّ في الاختيار وتحري الحقيقة والسعي إلى بناء الذات، بقدر ما تسعى إلى مساعدة الإنسان في الوصول إلى الكمال والرقي.

المؤسّسة الدينية

يذكر الباحث علاء ناجي بأنّ «هناك فرق بسيط بين المؤسّسة والدِّين، فالمؤسّسة هي مجموعة من الأفكار والمعتقدات والأعراف التي تشكّل كلاً متناسقاً ومنظماً ويعمل على تأسيسها الأفراد بالتعاون مع الأفراد الآخرين في المجتمع من أجل ضبط سلوكهم الخارجي، وكذلك تقوية العلاقات فيما بينهم، ومن خلال هذا فالدِّين نظام عقلي موزون يتكوّن من مجموعة المعتقدات والأفكار والقيم والطقوس السلوكية المتعلقة بكائنات وقوى وأماكن مقدّسة تفوق بطبيعتها الأشياء التي يستطيع الإنسان خلقها واستعمالها والسيطرة عليها، ولهذا النظام آثاراً اجتماعية عميقة في نفوس الأشخاص الذين يعتقدون ويؤمنون به إذ إنّه يحدّد سلوكهم ويرسم طراز حياتهم ويصنع أيديولوجيتهم التي تميّز حياتهم الخاصّة والعامّة».

ويضيف «ومن هنا فإنّ المؤسّسة الدينية هي عبارة عن آليات ضبط اجتماعي غير رسمي يفرض قوانين على الأفراد بصفة دينية خالصة تهدف إلى تحقيق العدالة والإصلاح ومكافحة الفساد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مثلما تفرض الدولة القانون على الأفراد في مؤسّسات الدولة واجبات وحقوق عليه».

التعدّدية

حتى نستطيع أن نطلق كلمة «مجتمع ناجح» على أي مجتمع يحوي بين دفته «التعدّدية» ينبغي تحقق ثلاث خطوات أساسية:

1- الاعتراف بوجود التعدّدية في المجتمع

2- احترام هذه التعدّدية

3- التفاعل والتعايش مع هذه التعدّدية

لكن ما المقصود بالتعدّدية؟

«التعدّدية تعني في أي شكل من أشكالها: مشروعية التعدّد، وحقّ جميع القوى والآراء المختلفة في التعايش، وفي التعبير عن نفسها، وفي المشاركة على صعيد تسيير الحياة في مجتمعها».

وتشير التعدّدية إلى «التنوّع في وجهات النظر والمواقف حول نهج أو فكرة معيّنة»، وتتنوّع التعدّدية بين التعدّدية السياسية والتعدّدية الاقتصادية والتعدّدية الدينية والتعدّدية الثقافية، بينما تعبّر التعدّدية الدينية عن «وجود عدّة توجهات دينية في المجتمع الواحد مع تقبلها وتشجيع التعايش السلمي بينها».

الدِّين وبناء التعدّدية

في القرآن الكريم العديد من الأمثلة للسبيل إلى بناء التعدّدية واعتمادها كأسلوب للحياة، يقول الله تعالى في محكم كتابه الكريم: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (البقرة/ 256)، ويقول تعالى: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (النور/ 54)، ويقول تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (الغاشية/ 21-22)، وهن آيات محكمات يشرن بوضوح إلى عدم الإكراه والسيطرة على الآخرين وإجبارهم في اعتناق ما لا يرغبون بالقوّة والإرهاب والعنف، بل بالدعوة والموعظة والنُّصح والإرشاد (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125)، وهي أساس الاعتراف بالتعدّدية واحترامها وقبولها كجزء من الطبيعة البشرية، وقد زخرت مسيرة الإسلام بالأمثلة والمواقف التي جسّدت هذه الحقيقة، حينما أخذت المؤسّسة الدينية على عاتقها بناء التعدّدية بمختلف أنواعها عموماً والتعدّدية الدينية على وجه الخصوص.

يقول المرجع الراحل السيِّد محمّد الشيرازي: «وهذا هو الذي عمله الرسول (ص) فإنّه لما ظفر بأصحاب بدر، وكانوا مشركين لم يقتلهم بل أخذ منهم الفداء وتركهم على شركهم فلم يجبرهم على الإسلام، وكذلك فعل بأهل مكّة فإنّه (ص) قال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء فلم يقتلهم ولم يجبرهم على الإسلام، وكذلك صنع بأهل حنين إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على مَن له أقل إلمام بتاريخ الرسول (ص)، وهذا هو المقطوع به من سيرة رسول الله (ص) بل وسيرة المسلمين طول التاريخ الإسلامي، فإنّه لم يعهد من أي مقاتل من المسلمين أن يقتل جميع الكفّار الذين لم يكونوا أهل كتاب ولم يسلموا، بل مختلف أنواع الكفّار كانوا يعيشون في كنف الحكومات الإسلامية السنية والشيعية بسلام، كما لا يخفى ذلك على من راجع التاريخ».

ويضيف السيِّد الشيرازي «وقد اقتدى أمير المؤمنين (ع) برسول الله (ص) واحترم كلّ حرّيات الناس حتى الأقليات التي كانت تحت لواء الإسلام، وفي الوقت الذي كان الإمام (ع) في أقصى درجات القوّة، وحدود بلاده وحكومته لم يجبر ولا مواطناً واحداً على ترك عقيدته واعتناق الإسلام، بل العكس صحيح، فقد ورد في روايات عديدة عن الأئمّة الأطهار (ع) حول الأقليات الدينية تقول: «الزموهم بما التزموا به»، وقال (ع): «كلّ الناس أحرار»، وقال الإمام الحسين (ع): «إن لم يكن لكم دين فكونوا أحرارا في دنياكم»، فالروايات الواردة عن الأئمّة الأطهار حول الحرّيات كثيرة حتى أنّ فقهاء الإسلام اعتماداً على الكتاب والسنة استنبطوا قاعدة عامّة مختصرة ومفيدة تقول: (الناس مسلطون على أنفُسهم وأموالهم)».

ماذا نستنتج؟

أوّلاً- مثلما حثت الأديان السماوية على الإيمان والإخوّة والعمل الصالح والتحلي بالأخلاق الفاضلة وغيرها من القيم الإنسانية العليا، فإنّها لم تغفل كذلك عن الدعوة إلى قيم إنسانية أُخرى مثل:

- الوحدة الإنسانية لتحقيق السلام العالمي كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/ 13).

- الشورى والمشاورة في الأمر وعدم احتكار الرأي والدكتاتورية كقوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى/ 38)، وقوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) (آل عمران/ 159).

- تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجميع كقوله تعالى: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النِّساء/ 58).

- التعاون على الخير والسلام وليس العنف والعدوان كقوله تعالى (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة/ 2).

كما لم تغفل أيضاً الدعوة إلى تطبيق مبدأ التعدّدية بكلّ أشكالها والوانها كما أشرنا في بداية الحديث.

ثانياً- إنّ المؤسّسة الدينية بكلّ ما تحويه من أفكار وقيم وأعراف وثقافة وقواعد وأُصول... إلخ، لا تهمش أو لا تحترم أو ترفض الآخر وترفض مبدأ التعدّدية كما يُشاع عنها، بل العكس صحيح تماماً، وهو جزء من تأصيلها الفكري والعقائدي الذي بُنيت عليه واستقامت.

ثالثاً- لا يمكن أن يستقيم أي مجتمع ويكتب له النجاح والتطوّر والرقي من دون قبول الآخر واحترامه والتعايش معه، وللمؤسّسة الدينية دور كبير ومهمّ في المساهمة في ترسيخ هذا الأمر ومراعاة بناء التعدّدية بمراحلها الحقيقية بعيداً عن التظاهر والادعاء.

رابعاً- لا تتحقّق التعدّدية باعتراف أو استعداد طرف واحد دون الآخر المختلف معه، بل هي عملية تكاملية داخل المجتمعات الإنسانية المتعدّدة الألوان والاتجاهات، وهنا يبرز دور المؤسّسة الدينية كوسيط للجمع بين المتناقضات والبحث عن القواسم الإنسانية المشتركة بين الفرقاء.

التوصيات

1- نبذ الخلافات والابتعاد عن الخطاب المفرّق بين مختلف المؤسّسات الدينية والاتجاه نحو طرح خطاب بديل معتدل جامع ومشجع للعمل المشترك يقوم على أساس الأخوّة الإنسانية والمساواة والعدل والتعاون وقبول الآخر والابتعاد عن العنف.

2- على المؤسّسة الدينية توفير بيئة مناسبة لقيم التعدّدية من خلال الاستفادة القصوى من الثقافة القرآنية والسنّة النبويّة ومدرسة أهل البيت (ع)، إضافة إلى ما كتبه العلماء الأعلام والمفكرون والفلاسفة وغيرهم في هذا المجال وتحويلها إلى ثقافة عامّة مطبّقة على أرض الواقع.

3- الاستفادة من وسائل الإعلام المختلفة في التعريف بالتعدّدية (الدينية، السياسية، الاقتصادية، الثقافية) وكيفية التعايش معها وتحويلها إلى سبب للقوّة والسلام بدلاً من الضعف والتصارع.

4- اعتماد آلية مدروسة ومتكاملة للتعريف بدور الإسلام والمؤسّسة الدينية في بناء التعدّدية على مستوى العالم، لرفع الشبهات التي تدور حول نفي هذا الأمر عن الأديان بصورة عامّة والإسلام بصورة خاصّة، خصوصاً بعد انتشار الحركات الإرهابية التي عززت ما يعرف بالإسلاموفوبيا.

 

المصادر

1- القرآن الكريم.

2- الحكومة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين/ السيِّد محمّد الشيرازي.

3- الرعاية الاجتماعية الإسلامية/ محمّد سيِّد فهمي.

4- ويكيبيديا

5- مقالات شبكة النبأ المعلوماتية.

ارسال التعليق

Top