◄تمثل الأُم نواة العائلة وعمادها وهي نبع الحب والحنان، والمربي الأوّل، وسند الأُمّة في نوائبها ومصاعبها، وهي الحاضنة والمربية والمعلمة، والباحثة. حيث تقوم الأُم بجميع هذه الأدوار والمهام فما أن تنتهي من دور مهمة حتى تبدأ بدور ومهمة أخرى.
وتتقمص جميع الأدوار وتقوم بها على أكمل وجه من دون الحاجة إلى أي مؤهلات أو شهادات، فهي تستخدم المؤهل الأفضل والذي حباها الله به ألا هو الحب والحنان والعطف والشفقة. فتراها فيما إذا كان وليدها مريضاً تكون هي أحسن وأجمل ممرضة فتمرضه بدفئها وحنانها وشفقتها. وإن كان يتلكأ في دروسه فهي المعلمة والمساعدة له حتى ينجح. وتسهر الليالي من أجله حتى ينجز ما عنده. وهكذا تراها لو عانى وليدها مشكلة فتحاول بجهدها عمل المستحيل كي تستطيع إسعاده. وكل هذا بالطبع حسب قدراتها ودرجة وعيها.
والذي أود توضيحه هنا، هو أنّ الأُم لا تألوا جهداً في تقديم أي خدمة تجاه أبنائها ومهما كلفها الثمن فهي المضحية بكلِّ غالٍ ونفيس في سبيل أن ترى فلذة كبدها سعيداً وحتى لو كلفها الأمر بالتضحية بكرامتها وعزة نفسها. وما أكثر قصص الأمهات اللائي تحملن المصاعب وزاولن الأعمال الشاقة والصعبة كي يوفرن لقمة العيش الكريمة لأبنائهن. وهكذا ترى الأمر في مملكة الحيوان حيث ترى الأُم تحاول عمل المستحيل في سبيل الحفاظ على أولادها فتقاتل بشراسة لإنقاذ ذريتها من أي خطر يداهمها وتتعرض لها.
قيل (إنّ وراء كلّ عظيم امرأة) نعم، في أكثر الأحيان تكون الأُم صانعة العظام والأبطال، وهذا ما يشهد له التاريخ، فكم سمعنا وقرأنا عن مبدعين في كافة المجالات يهدون إبداعاتهم وإنجازاتهم لأمهاتهم التي وقفن بجانبهم ولولاهنّ ما استطاعوا تحقيق ما وصلوا إليه.
من الأُم يحصل الأبناء على أوّل درس من دروس التربية، ولاشك ولا ريب في أنّ هذه الدروس تشكل الإطار الأساسي الذي ترتسم فيه ملامح شخصية الأولاد وطباعهم فإن كانت الأُم واعية لرسالتها ومدركة لدورها أصبح لدينا جيلاً صاعداً معداً أحسن الإعداد وقادراً على القيام بالمهام التي تناط به لخدمة أمته ومجتمعه.
ولا يمكن لأحد أن يفي الأُم حقها مهما كتب عنها أو وصفها بأي من الأوصاف والنعوت فهي المخلوق الوحيد الذي يهب ويعطي من دون مقابل، وقد أودعها الله سبحانه وتعالى جينات الحبّ والعطف والحنان والشفقة ساعة خلقها. ولا حاجة لذكر ما تتحمله الأم من عناء الحمل والولادة وقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) (لقمان/ 14).
كرم الله عزّ وجلّ الأُم وأشاد بدورها في جميع كتبه السماوية ورسالاته على لسان جميع أنبيائه ورسله، حيث أنّ الجميع يشترك في تكريمها واحترامها وبإلقاء نظرة على العهد القديم (الإنجيل) نجد في أماكن متعددة الأمر بمعاملة الأبوين وخصوصاً الأُم بالرحمة والطيبة، ويدين من لا يحترمهم ويتوعدهم بالعقاب. "إذا لم يحترم أي شخص أمه أو أباه ويلعنهم يجب أن يقتل" Lev 20; 9. و"الرجل الحكيم يسعد والده ولكن الرجل الأحمق يحتقر أمه" Provebs 15; 20.
ولكن نلاحظ أنّ العهد القديم (الانجيل) لم يرد فيه أي تأكيد على دور الأُم أو العناية والرفق بها تقديراً لجهودها المضنية في الحمل والولادة ومعاناتها في السهر على تربية أطفالها. ولو طالعنا العهد الجديد (الانجيل) فنجد من الصعب القول أنّه يحث على احترام الأُم بل العكس فيعتبر أنّ معاملة الأُم معاملة طيبة والإحسان إليها يكون عثرة في طريق الوصول إلى الله. وحسب التعليمات الواردة فيه فإنّه لا يمكن للفرد أن يصبح مسيحياً جيِّداً وتلميذاً للسيد المسيح إلا إذا كره أمه وأبغضها فقد نسب إلى السيد المسيح قوله: "إذا جاءني شخص ولم يبغض أباه وأمه وزوجته وأطفاله وأخوانه وأخواته وحتى نفسه ليس باستطاعته أن يكون تلميذي" 26; Lvlee 24. أضف إلى ذلك نجد العهد الجديد يصور السيد المسيح (ع) لا يحترم أمه ولا يهتم بها.
يقال أنّ أمه جاءت تبحث عنه وكان يخطب في جميع من الناس فلم يهتم بالخروج إليها "حضرت أم عيسى وأخوته وأرسلوا في طلبه وكانوا واقفين في الخارج بينما هو جالس مع جمع حوله وقد أخبروه أن أمك وأخوتك في الخارج يبحثون عنك فقال من هم؟ أمي وأخوتي؟ ثمّ نظر إلى الجالسين وقال: هؤلاء أمي وأخوتي في الله" (Marle 3; 31).
ربما يحاول البعض أن يصور أنّ المسيح كان يعلم سامعيه درساً وهو أنّ الرباط الديني ليس أقل أهمية من الرباط العائلي. ولكننا نقول لهم (لو صح ما يقولونه) أنّه كان يمكن للسيد المسيح (ع) إعطاء هذا الدرس وهذا المعنى من دون الإساءة إلى أمه من عدم الاحترام والاهتمام بها.
ولكننا لا نصدق بما نقل في العهدين القديم والجديد وبهذا الشكل المزري من المعاملة، لا عيسى (ع) الرسول والنبي المبعوث من قبل الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن تصدر منه هذه الإساءة وعدم الاهتمام بأمه وهي السيدة العذراء مريم بنت عمران لما لها من المكانة والسمو والجلالة عند الله سبحانه وتعالى قال تعالى: (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ) (المائدة/ 75)، وقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً...) (المؤمنون/ 50). ولأنّه منزه عن ارتكاب الخطأ والقبيح حيث أننا نعتقد انّ الرسول معصوم عن ارتكاب الخطأ والقبيح حيث أننا نعتقد انّ الرسول معصوم عن ارتكاب الخطأ والقبيح، ومما لا شك فيه أنّ عدم احترام الأُم مما يعده العقلاء من القبيح، وحاشاه أن يرتكب القبيح. بل أفضل من يطبق التعاليم الإلهية والأخلاقية التي أمر بها الباري عزّ وجلّ هو الرسول الكريم والنبي المبعوث من قبله تعالى. بل الواقع هو عكس ما ذكر في العهدين فإنّه (ع) كان يحترمها ويعظمها ويجلها للمكانة المرموقة التي لها عند الله سبحانه وتعالى.
الدين الإسلامي يتعامل مع الأبوين بالحبّ والاحترام والشرف والرفق والإحسان لها بل ويوصي باحترامهما والإحسان إليهما وعدم نهرهما ورفع الصوت عليهما. وتجد هذا المعنى في كثير من الآيات الكريمة، قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ...) (البقرة/ 215). وقوله عزّ وجلّ: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا...) (النساء/ 36). وقوله عزّ اسمه (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا...) (الأنعام/ 151). وقوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا...) (الإسراء/ 23). وقوله تعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (لقمان/ 14). وقوله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ...) (لقمان/ 14). وقوله تعالى: (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا) (الإسراء/ 23).
وهكذا كرمها الرسول (ص) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ولو استعرضنا الأحاديث الشريفة الواردة في هذا المجال لكانت بالمئات، ولنأخذ بعض الأمثلة على ذلك:
سُئل الإمام الحسين (ع) عن أفضل الأعمال قال: "الصلاة لوقتها وبر الوالدين والجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ".
عن أبي الحسن موسى (ع): "سأل رجل رسول الله (ص) ما حقّ الوالد على ولده؟ قال لا يسميه باسمه ولا يمشي بين يديه، ولا يجلس قبله ولا يستسب له "أي لا يأتي بشيء يكون سبباً لسب الناس لأبيه".
ويختام بحثنا هذا يمكننا أن ندعي وبكلِّ صراحة بأنّ من الصفات والمزايا الحميدة والتي يتمسك بها عامة المسلمين هي العناية الجيدة بالأُم واحترامها والتعامل معها معاملة حسنة والإشارة إليها كرمز للشرف والحبّ والوفاء في كافة المجالات. فالعلاقة الحميمية بين الأُم المسلمة وأبنائها والاحترام العميق الذي يكنه المسلم لوالديه خصوصاً أمه قد لا نجده عند كثير من أصحاب الديانات السماوية الأخرى.
المصدر: مجلة الغدير/ العدد 22 لسنة 2000م
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق