• ١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٨ ربيع الثاني ١٤٤٦ هـ
البلاغ

لغز الحل الإسلامي

د. فهمي هويدي

لغز الحل الإسلامي

عندما عزلنا الدين عن الحياة، بدت عبارة الحل الإسلامي غريبة على الأسماع والأفئدة. وعندما صرفنا همّ المتدينين إلى عمارة الآخرة، وأغرقناهم في عالم الغيب، فإنّهم هجروا عمارة الدنيا، وسقطوا ـ من ثم ـ في عالم الشهادة. ومنذ صار الخطاب الديني موعظة وتنويعاً على النصوص من قرآن وسنة، بات مثيراً لدهشة البعض أن يتحدث الإسلاميون عن التنمية والدعم والمشكلات الحياتية الملحة. إذ يحث هؤلاء عن (نص) يفصل في مسألة بقاء الدعم وإلغائه، أو عن إشارة في مصنفات الأقدمين إلى موضوع التنمية، فلما لم يجدوا، احتاروا وتكدروا، وأكثرهم أنكروا!.
هكذا بدا الحل الإسلامي عنواناً سهل الإلقاء والتداول، ممتنعاً عن الفهم والتناول. وصار مهماً وحيوياً، في هذه المرحلة بالذات، أن يفسر العنوان، وأن يجري الحوار حول كيف يكون ذلك الحل، وإلى أين يقودنا؟.. ولئن جرى مثل هذا الحوار في مناسبات عدة، بالأخص عندما أثير موضوع تطبيق الشريعة، وكان لنا إسهام متواضع فيه، إلا أنّ دائرة التساؤل حول موضوع الحل الإسلامي باتت أوسع بكثير هذه المرة. خصوصاً بعدما حمله الإسلاميون على أكتافهم أثناء المعركة الانتخابية، حتى كان ما كان من صخب وضجيج واعتراض، لا يزال صداه قائماً إلى الآن.
ولسنا بسبيل توجيه الخطاب هنا إلى الناقمين والكائدين، الذين تقف كلمة الإسلامي في حلوقهم، ويصليهم حديثه بالغصة والمرارة والحساسية الزائدة، لكنا نوجه الخطاب إلى من يريد أن يفهم أو يحاور وإلى من التبس عليه الأمر أو استبدت به الحيرة. ولئن بدا أنّ الأولين هم أصحاب الصوت العالي، أو المتصدرين لمختلف المنابر، إلا أنّ الأخيرين هم الأغلبية الساحقة من الناس، الذين ترطب كلمة الإسلام قلوبهم، وتستثير فيهم مدد الخير والعطاء والتأييد، برغم كل حيرة وأي التباس:
نحن معهم في طرح السؤالين: كيف وإلى أين، ليس فقط لأنّ من حقهم أن يتعرفوا على تصور الإسلاميين للحل الذي يعرضونه، صيغته وحدوده ومجالاته ومنتهاه، ولكن أيضاً لأنّ الراية الإسلامية حملها آخرون وروجوا لها، ثم أساؤوا إلى دينهم وإلى شعوبهم، فضلاً عن أنّ هناك تطبيقات وحلولاً إسلامية مطروحة في الساحة الآن، ومن حق الناس أن يسألوا عما إذا كان الحل المأمول ينتسب إلى الحل المعمول، وما درجة القرابة أو وجه الشبه بينهما؟!
سنحاول هنا أن نجيب على السؤال: كيف؟ مستهلين الإجابة بإيضاحات ستة هي:
ـ أولاً: أنّه ليس هناك شيء واحد اسمه الحل الإسلامي، ولكن هناك حلولاً عديدة تنبع من رؤية الإسلام وتصوره للكون والحياة. وبالتالي فإنّ الحدود تتعدد بتعدد المشاكل بمعنى أنّ رؤية الإسلام وموقفه هما العنصر الجامع، أما الحلول المرتكز على هذه الرؤية والنابعة منها فهي غير متناهية، لأنّ وقائع الحياة غير متناهية بطبيعة الحال.
ـ ثانياً: أنّ الحل الإسلامي لا يشترط فيه أن يكون مذكوراً في الكتاب والسنة أو في مدونات الفقه ، لكنه يكتسب صفته تلك إذا لم يتعارض مع نص أو قيمة إسلامية، وإذا كان يحقق مصلحة مرجوة لمجتمع المسلمين. في هذا الصدد نستحضر حواراً ذكره ابن القيم في أعلام الموقعين بين ابن عقيل وعدد آخر من الفقهاء، حول السياسة الشرعية. إذ قال أحد الفقهاء أنّه لا سياسة إلا ما وافق الشرع. فقال ابن عقيل: السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول (ص) ولا نزل به وحي. ثم أضاف: فإن أردت بقولك لا سياسة إلا ما وافق الشرع، أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح. وإن أردت ما نطق به الشرع. فغلط وتغليط للصحابة.
وقد انحاز ابن القيم لرأي ابن عقيل، وانتقد من قال إنّ السياسة هي فقط ما نطق بها الشرع، حتى اتهمهم بأنّهم ضيعوا حقوق الناس وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد. وقال قولته الشهيرة: إنّ الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض. فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صبحه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره. والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأماراته في نوع واحد، وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر.. فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها. (أعلام الموقعين ج 4 ص 372)
ـ ثالثاً: أنّه على تعدد الحلول الإسلامية لمختلف المشكلات، إلا أنّ هذه الحلول ليست لها صفة الثبات، وإنما هي متغيرة بتغير الأزمنة والأمكنة والعوائد والأحوال. وهذا المبدأ مستقر عند فقهاء الأصول.
ـ رابعاً: أنّ اختلاف الحل الإسلامي عن غيره ليس مطلوباً وليس ضرورياً. إذ ليس مفترضاً أن يكون الحل الإسلامي أمراً فريداً في بابه، ليس مسبوقاً ولا ملحوقاً. فالإسلام جزء من تيار البشرية، والمسلمون ناس من الناس. وإذ حدث واتفقت القيم أو المصالح بين المسلمين وغيرهم، واتفقت الحلول النابعة من تلك القيم أو المنجزة لتلك المصالح، فذلك مما لا ينبغي أن يثير اعتراض المسلمين أو حفيظتهم. إذ الأمر الجامع هو إنجاز مصالح الخلق، حتى قال فقهاء عديدون ـ العز بن عبدالسلام وابن القيم والشاطبي في مقدمتهم ـ بأنّ كل ما يحقق المصلحة ويقيم العدل والقسط، فهو من السياسة الشرعية يقيناً.
يتصل بذلك أنّ استبدال الحلول التي لا تصدر نصاً ولا تخدش قيمة إسلامية، يظل أيضاً من حسن السياسة الشرعية، التي تتقصى الحكمة حيث كانت، لتوظفها في خدمة مصلحة الأمة.
ـ خامساً: أنّه إذا لم يكن ضرورياً أن يختلف كل حل لأي مشكلة في الواقع الإسلامي عن غيره من الحلول، وإذا كان تماثل الحلول وارداً عند المسلمين وعند غيرهم، فإنّه يظل هناك هامش للتميز ينبغي أن يكون ماثلاً في الأذهان، لا يقوم على طبيعة الحل، ولكنه يقوم أساساً على وظيفته ومنتهاه. إذ تقوم فلسفة الحل الإسلامي على ركائز عدة، منها أنّ الانسان خليفة الله في أرضه، أي أنّه يؤدي رسالة في إعمار الكون، يتعبد بها لله سبحانه وتعالى، وإذا كان لها مردودها المقصود في الدنيا، فلها مردودها المرصود في الآخرة.
أياً كان منبع الحل أو مضمونه وعلى فرض تطابق القيم التي ينطلق منها أو يخدمها ذلك الحل، فإنّ (المصب) في التصور الإسلامي يظل مختلفاً غاية الاختلاف. بمعنى أنّ الحل الإسلامي تدور فيه الجزئيات حول محور الرسالة وخلافة الله في الأرض المنوطة بالإنسان. بحيث تصبح الحركة جزءاً من نظام كلي يقوم على الوصل، بين الدنيا والآخرة، وبين الأرض والسماء، وبين الإنسان والله.
ـ سادساً وأخيراً: أنّ الحل الإسلامي ليس موجهاً إلى السلطة ومؤسساتها وحدها، ولكنه موجه أيضاً إلى كافة المكلفين في مجتمع المسلمين. أعني أنّ الالتزام بتعاليم الإسلام وقيمه والسير على النهج الذي رسمه الله سبحانه وتعالى للناس وبلغه عنه رسوله. ينتظم كافة المسلمين، بقدر ما ينظم مختلف شؤونهم. وإذا كان لنا أن نرتب الأمر حسب أولوياته، فقد نقول إنّ التزام المسلمين كأفراد بالحل الإسلامي، هو نقطة البدء وهو الأساس في إقامة ذلك الحل على صعيد الدولة أو الأمة.
وربما جاز لنا أن نعرف الحل الإسلامي ـ من الناحية النظرية ـ بأنّه (تدبير شؤون الخلق وفقاً لتعاليم الإسلام، أو استلهاماً لقيمه، بما يحقق المصالح والمقاصد المعتبر في الدنيا والآخرة).
وعلى صعيد الواقع، فإنّنا نجد أكثر من صيغة لتصور الحل الإسلامي. والتعدد أو التفاوت هنا ناشئ عن اختلاف درجة الاستيعاب وزاوية الرؤية، وطبيعة التحدي الظاهر الذي تستدعي الشريعة لصده ومواجهته. وفي هذا الإطار، فقد نزعم أنّ هناك تصورات خمسة للحل الإسلامي، نوجزها فيما يلي:
ـ مستوى حضاري، يتعامل مع الحل الإسلامي بحسبانه الصيغة الوحيدة التي تكفل للأمة استقلالها في وعاء حضاري متميز، يثبت خصوصية الأمة ويرد إليها ذاتها واعتبارها، ويعتقها من أسار الانسحاق والتقليد. ونحن نجد في دعوة السيد جمال الدين الأفغاني إلى الثورة والتمرد على سلطان الآخر، صدى لهذه الفكرة. غير أنّ المفكر الجزائري مالك بن نبي يعد أبرز رواد هذا التيار، الذي بدأ يتبلور في ستينيات وسبعينيات القرن الحالي (مرحلة الاستقلال الوطني). وتعكس كتاباته اهتماماً واضحاً بقضية الخلاص من التبعية وانشغالاً دائماً بمسألة البعث الحضاري. وهو ما نلمسه في كتب مثل: شروط النهضة، مشكلة الثقافة، بين الرشاد والتيه، في مهب المعركة.
وقد أصبحت هذه الدعوة تستوعب عدداً لا بأس به من مثقفينا حتى نلمح لها بصمات واضحة في كتابات عدد من الباحثين المصريين اللامعين، من أمثال طارق البشري والدكتور محمد عمارة وعادل حسين. ومن أحدث ما ظهر في مصر من أبحاث في هذا الصدد كتاب الدكتور سيد دسوقي حسن (أستاذ الهندسة)، الذي صدر أخيراً بعنوان: مقدمات في البحث الحضاري.
وربما كانت إحدى ميزات هذا الطرح الحضاري للحل الإسلامي أنّه يمكن أن يشكل نقطة التقاء بين المسلمين والمسيحيين، بحيث يتعامل معه المسلمون من منطلق عقيدي، ويتعامل معه غير المسلمين من منطلق ثقافي وسياسي. الأمر الذي دفع باحثاً مسيحياً كبيراً مثل الدكتور أنور عبدالملك إلى أن يعلن انحيازه إليه.
ـ مستوى (أصولي) يرى في الحل الإسلامي إحياء لحقيقة الدين، واستدعاء للتعاليم لتحتل مكانها الحاكم في المجتمع، بحيث تظلل علاقات الناس بالله، وعلاقات الناس بالناس. الأمر الذي يؤذن برفع الحصار المضروب على الدين لإبقائه محبوساً في المساجد والموالد. وإطلاق سراحه ليؤدي دوره الفاعل في حاضر الناس ومستقبلهم. بحيث يتجاوز التدين حدود العلاقة القلبية بالله سبحانه وتعالى، إلى محيط الواقع المعيش، فيترجم إلى مواقف وسلوكيات ونظم تضبط إيقاع الحياة، وقيم تتسيد مختلف الأنشطة الانسانية.
وكتابات الأستاذ حسن البنا، ومدرسة الإخوان المسلمين بعامة، هي التي تبنت هذا الطرح للحل الإسلامي، منذ تأسيسها في سنة 1928. وإن كنا لا نستطيع أن نفصل هذه المدرسة عن محاولات الإحياء الديني التي شهدتها مصر منذ بداية القرن، على يد محمد عبده وتلاميذه الذين يقف رشيد رضا في مقدمتهم، إلا أنّه يحسب لمدرسة الإخوان أنّها نقلت دعوة الإحياء من مجامع المثقفين ومنتدياتهم إلى الشارع. بحيث أصبحت هناك حركة إسلامية تتبنى هذا التصور وتدعو إليه. حتى أصبح هذا التراث الفكري أحد المنابع التي تستمد منه ظاهرة الصحوة الإسلامية الراهنة زادها الأساسي.
ورغم أنّه لم يتح لفكر الإخوان أن ينمو، لأسباب يعرفها الجميع، بحيث يصبح أكثر استجابة للتحديات المطروحة في الثمانينيات. وأكثر وضوحاً في مواجهة المشكلات الراهنة، إلا أنّ الأساس الذي وضعه الأستاذ البنا لا يزال يؤدي دوره الفاعل إلى الآن. وبناء عليه صاغ الدكتور يوسف القرضاوي رؤيته فيما يسميه (تيار الوسطية الإسلامية)، وانطلق محمد الغزالي يبشر بفكرة الإحياء الواعي للدين في طول العالم العربي وعرضه، ومضى آخرون ـ بجهود فردية خارج الإطار الحركي للجماعة ـ يدعون إلى رؤى عصرية ومستقبلية للحل الإسلامي، تنطلق من ذات المفهوم الشاملة للتعاليم، نرصد من هؤلاء الدكتور كمال أبو المجد، والدكتور جمال عطية رئيس تحرير مجلة المسلم المعاصر، والدكتور فتحي عثمان الذي نقل نشاطه الفكري إلى خراج مصر منذ أكثر من عشرين عاماً، والأستاذ عبدالحليم أبو شقة الذي عاد إلى مصر منذ سنوات قليلة، محاولاً بث أفكاره وتجديد الدم في شرايين العمل الإسلامي، من خلال سلسلة مطبوعات بدأ في إصدارها تحت عنوان (آفاق الغد).
عن الحل التشريعي:
ـ مستوى اعتقادي، يرى أن الحل الإسلامي ينبغي أن يرتكز أولاً على سلامة الاعتقاد وأنّه لا سبيل ولا مجال الآن لأي حديث عن إقامة نظام أو نظم إسلامية، أو حلول من أي نوع، لأنّ الاعتقاد ذاته لم يثبت بعد، وبالتالي فإنّ الأساس الذي ينبني عليه الحل مصاب بالخلل والضعف. وفيما نعلم. فإن الأستاذ سيد قطب هو من طرح هذا الرأي من المعاصرين، وتبنته جماعة الجهاد المصرية فيما بعد، ولا يزال هذا منطلقها الفكري إلى الآن.
في كتب (الظلال)، ومعالم في الطريق، وخصائص التصور الإسلامي، والإسلام ومشكلات الحضارة، يقرر الأستاذ قطب أنّنا نعيش مجتمعاً جاهلياً، يرفض حاكمية الله تعالى ولا يعترف بمنهجه ضابطاً للحياة، ولا يسلم ولا يفهم معنى (لا إله إلا الله)، ركيزة الإيمان وعموده الفقري. وبالتالي فإنّ أي طرح لحلول أو اجتهادات إسلامية في ظل هذا الواقع، هو من قبيل العبث أو الهزل. وهو يصف الخائضين في مثل هذه الأمور بعبارة (المخلصين المتعجلين)، ويتهمهم (بالهزيمة الداخلية) لأنّهم قبلوا أن يتعاملوا مع الأوضاع الراهنة، في حين ينبغي أن يدعى هذا الواقع إلى الدخول في عقيدة الإسلام أولاً، ورد الحاكمية لله في أمر الناس كله.
ـ مستوى تشريعي، يتصور الحل الإسلامي دعوة للالتزام بالنظم القانونية التي جاء بها الإسلام، سواء في المجالات المدنية أو الجنائية أو الأحوال الشخصية، فضلاً عن الميدان الاقتصادي. أي أنّها رؤية فوقية للحل، تعني بإقامة النظام الإسلامي على سطح المجتمع وهيكله الخارجي، وتعتبر الشريعة مرادفاً للقانون، وليس مجموعة النظم التي شرعها الله وأنزلها ليلتزم بها الإنسان في مختلف ميادين الحياة، كما يقول الشيخ شلتوت.
وقد لا نبالغ إذا قلنا إنّ هذا هو المفهوم الأكثر شيوعاً لفكرة الحل الإسلامي، ربما لأنّه الأسهل، وربما لأنّه يجسد الحل في قوانين تصدرها السلطة التشريعية، ولا يوسع من محيطه ليصبح نظاماً للحياة، تتوزع التكاليف والالتزامات فيه على الأفراد ومختلف المؤسسات التربوية والإعلامية والسياسية والدستورية. وربما كان شيوع هذا المفهوم تعبيراً عن شوق المسلمين إلى إقامة كيان إسلامي ملموس، على أي نحو كان. فالحديث عن تربية إسلامية أو أخلاق وقيم وسلوك قد يصبح شيئاً هلامياً يتعذر الإمساك به، فضلاً عن أنّه يؤتى ثماره بعد حين، يطول أو يقصر. أما الحديث عن قوانين ولوائح فإنّه ينصب على صيغة يمكن تلمسها، وأمور واضحة المعالم ووقائع محكومة.
ـ مستوى عبادي أو أخلاقي، يتصور الحل الإسلامي صيغة لتوثيق الصلة بالله وحصناً يحمي الأخلاق والفضائل، وسبيلاً إلى مقاومة البدع وتطهير الاعتقاد من الانحرافات ومختلف صور الضلال.
ويتعلق بهذا الحل مختلف الفصائل الإسلامية التي تتعامل مع التدين في حدوده القلبية والمسجدية، إذا جاز الوصف، من أمثال جماعة التبليغ والدعوة، والجمعية الشرعية، والطرق الصوفية.
ويلتقي على هذا المفهوم الذي يربط بين (الحل) وبين القلب والضمير جماعات العلمانيين الذين ينادون بشعار فصل الدين عن السياسة، ويرفعون لافتة (الدين لله)، ولا تستوعب مداركهم سوى المفهوم الكنسي للتدين، والتاريخ السيئ للسلطة الدينية في أوروبا.
لعلنا لا نبالغ في التقدير إذا قلنا بأنّ المستويين الأصولي أولاً والحضاري ثانياً، في فهم الحل الإسلامي هما الأقرب إلى التعبير الصحيح عن رسالة الإسلام وروحه، وإن كان تيار (الحل التشريعي) هو الأكبر، وربما تساوي معه في الحجم تيار التصور العبادي والأخلاقي لمفهوم الحل، في حين نحسب أنّ القائلين بجاهلية المجتمع، الداعين إلى حل عقيدي له أولاً، هم أقلية لا تكاد تذكر في خريطة الواقع الإسلامي المعاصر.
ولا غضاضة في تعدد مفاهيم الحل الإسلامي، ولا ضرر في تنافس تلك الأفكار في الساحة. فقبولنا لمبدأ التعددية في العمل العام، يستتبع قبولاً مماثلاً للتعددية في داخل المحيط الإسلامي ذاته. ومن المفيد، ومن الصحي، أن يعرض كل ما عنده، بضاعته وحجته، ليكون الرأي العام الإسلامي هو الفيصل والحكم في نهاية الأمر.
ويهمنا هنا أن ننبه إلى أنّ القائلين بالحل الإسلامي التشريعي، يتحدثون عن محتوى حوالي 5% فقط من النصوص القرآنية، ولا يعنون بالقدر الواجب بالنسبة المتبقية، التي تصل إلى 95% من جملة النصوص، ذلك أنّه إذا كان مجموع آيات القرآن الكريم في حدود 6236 آية، وإذا كان مجموع آيات المعاملات 250 آية تقريباً، فإنّ حصر الحل الإسلامي في إطار التشريعات التي تنظم المعاملات يغدو اختزالاً مخلاً لمفهوم الحل، وابتساراً منكوراً للشريعة المنزلة.
يهمنا أيضاً أن نلفت النظر إلى النهج الذي اتبعه النبي عليه الصلاة والسلام في دعوته إلى (الحل) في المجتمع الإسلامي الأول. وهو النهج الذي يقدم الدعوة على الدولة، ويطبق الحل على مرحلتين، أولاهما (مكّبة) امتدت ثلاثة عشر عاماً، وفيها انصب الجهد على تطبيق الإسلام على المستوى الفردي، بتربية الضمير المسلم وتهيئته وإعداده، أي على وضع الأساس القوي للبناء. والمرحلة الثانية (مدنية) استغرقت عشر سنوات، وفيها جرت إقامة الدولة ونزلت التكاليف وشرعت الحدود.
وهو وضع يختلف عن دعوة الداعين في زماننا إلى الدخول في العقيدة من جديد، الذين يتهمون المجتمع بالجاهلية، لأنّ مرحلة التربية والتطبيق على المستوى الفردي في مكة أخذت مكانها واتباع النبي على الإسلام، أي بعد انتقالهم من الشرك إلى الإيمان. في حين أنّ دعاة جاهلية المجتمع يردوننا إلى ما قبل الإسلام.
لم يكن ذلك نهجاً نبوياً فقط، ولكنه نهج قرآني في حقيقة الأمر، بحيث أنّ الآيات التي نزلت في مكة ركزت على التربية والإعداد، بينما كان محور الآيات المدنية هو التطبيق على مستوى الدولة.
ولسنا ندعو إلى إنفاق سنين طالت أم قصرت في تربية المسلمين، لننتقل بعد ذلك إلى تطبيق النظم الإسلامية، لكنا نلح على أهمية إعطاء الأولوية للتربية، على أن يمضي القدر الممكن من التطبيق بالتوازي، وبالتدرج الذي التزم به القرآن في تناول الأمور وتقويم ما هو معوج من أوضاع الخلق. فتطبيق بغير تربية، هو بمثابة إقامة صرح على غير أساس أو نسج ثوب بخيوط العنكبوت!
قد لا يشفى هذا العرض غليل الباحثين عن إجابة السؤال: كيف يكون الحل الإسلامي! فرصد التصورات المتعددة لفهم هذا الحل لا يكفي، لأنّنا حتى إذا سلمنا بن المفهوم الحضاري للحل أو المفهوم الأصولي هما الأصح والأصدق تعبيراً عن رسالة الإسلام، فإنّ السؤال يظل وارداً. ومن حق أي أحد أن يعيده علينا قائلاً: إذا وافقنا ـ جدلاً ـ على أنّ الحل الإسلامي هو سبيلنا إلى الانعتاق من التبعية وإلى التميز الحضاري. أو إذا وافقنا على أنّ الحل الإسلامي يعني إقامة نظام الحياة على نسق الإسلام ووفقاً لتعاليمه وقيمه، فكيف يكون ذلك؟
ردى على السؤال هو: أنّ الإجابات تتعدد أيضاً على هذا الشق، ومن المهم أن تحدد الفصائل أو التجمعات التي تتبنى هذا الطرح أو ذاك أولويات العمل ونقطتي البدء والانتهاء. وإذا كان لي أن أحدد موقفاً. فقد أعيد ما سبق أن عرضته في هذا الصدد، وهو أن مدخلنا الأوفق والأسلم للتطبيق الإسلامي هو باب الشورى ـ إعمال التطبيق في المجال السياسي ـ مما يثبت قيم الحرية والديمقراطية، ويهيئ مناخاً مواتياً للتقدم بعد ذلك في أمان.
قلت أيضاً إنّ أول حجر نزع من أساس الصرح الإسلامي في العصر الأموي تمثل في الشورى، مما أدى إلى خلخلة البناء كله. ومن المهم الآن أن ننتبه إلى خطر هذه الثغرة، فتتجه أولى خطوات التطبيق إلى سدها، لكي يستقيم الأساس ويستعيد عافيته، ويصبح قادراً على أداء الدور المنوط به.

المصدر: كتاب (حتى لاتكون فتنة)

ارسال التعليق

Top