السيد حسن الشيرازي
◄تشعّب خطوط المفسرين في العلوم، سبّب نوعاً من الإرتباك في فهم القرآن، لدى الكثيرين من رواد القرآن. ذلك: إنّ كلاً منهم، انطلق إلى تفسير القرآن من منطلقه هو.. لا من منطلق القرآن هو..
فبين:
من اعتمد: (جمال التعبير) في القرآن، لأنّه كان متخصصاً في (علوم البلاغة).
ومن تتبع دقائِق: (علم النحو) في القرآن، لأنّه كان: (فقيهاً) لا يهمه شيء سوى الأحكام الشرعية.
ومن اهتم بـ: (قصص القرآن)، لأنّه كان مغرماً بالتاريخ.
ومن عنى بـ(العلوم الطبيعية) في القرآن، لأنّه تفرغ لها. وهكذا...
بينما القرآن لم يكن، كتاب بلاغة، ولا كتاباً في العلوم العربية، ولا رسالة عملية، ولا مجموعة قصصية، ولا نشرة علمية...
وإنّما القرآن كتاب دين، بالمفهوم الكامل للدين، الذي يربط الدنيا بالآخرة.. والمادة بالمعنى.. والطبيعة بما وراء الطبيعة.. وينظم الإنسان – كل الإنسان – بينها. فيأخذ من كل شيءٍ بمقدار ما يخدم هذا الهدف، فيستخدم من: جمال التعبير، ومن علوم العربية، ومن الأحكام، والقصص، والعلوم الطبيعية... ما يوجِّه ويربِّي.
فعندما يقول: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) (النمل/ 88)، لا يعني ببيان الحركات المختلفة للأرض، بمقدار ما يعني بالتوجيه الذي ورد في بقية الآية:
(صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل/ 88).
وعندما يستعرض قصصاً أطلق عليها: (أحسن القصص)، لم يخترها لأنها أكثر القصص إثارة للفضول، وتمسكاً بالمستعين، وإما اختارها لما فيها من زخم توجيهي وتربوي.
فلم يستعرض قصص: الملوك، والفاتحين، والأبطال الأسطوريين... وإنما استعرض قصص: الأنبياءِ، والصالحين.
وذكر قصة: (ذي القرنين)، لأنّه كان – كما يقال – ملكاً رسولاً.
وذكر قصصاً من: فرعون، وهامان، والشيطان، وبلعم... لاعتبارها قصصاً ناجحة من الناحية الفنّية، وإنما لأنها تعكس سيئات الموقف السلبي من: الإيمان، والمؤمنين.
وقصة: (يوسف)(ع) استعرضت في القرآن، واستأثرت بأوسع ساحة استأثرت بها قصة أخرى في القرآن، لـ:
1- أب، منحه الله – تبارك وتعالى – اثنى عشر ولداً، كل منهم بطل عالمي في طاقة جسدية. ثم: يفضّل عليهم أصغرهم، ويعطيه – وحده – من قلبه ما لا يعطيهم جميعاً، لأنّه – بالفعل – أفضلهم مجتمعين، إنسانياً. وكيف انعكست – سلبياً – هذه المظاهرة العنيقة للمقاييس الفكرية على المقاييس الاجتماعية، على الأب والابن – معاً – بشكل، وعلى بقية الأخوة بشكل آخر!
2- أخ أصغر، حسده أخوته الكبار الأشداء، على مواهبه، فنكلوا به. وكانت موهبته من الجمال أكثر من أن يطاق. فعاكسته كل نظرات الإعجاب، فاتهمته، وحاربته، حتى أصبح من كبار: (المعذَّبين في الأرض)، وأحد (البكائِين الخمسة) المعروفين، و: (المتنقب الوحيد من الرجال، عن جميع الناس إلا عن زوجته. ولكنه ما استسلم للخنوع، وتابع كفاحه الجبار، حتى أصبح ملكاً ورسولاً، وسعى إليه والداه وإخوته ساجدين.
3- إخوة من ألمع الناس، وأكثرهم تفوقاً، حسدوا – على أخيهم الأصغر – محبة والدهم إياه، فزجّوا به في بئر نائِية، حتى يخلو لهم وجه أبيهم. ثمّ: اضطروا أن يقفوا – بأجمعهم – على أبواب قصره، وهو: ملك رسول، وهم: نفر من البدو يبحثون عن صاع من القمح أو الشعير. ولما عرفوا أنّه – هو – أخاهم، الذي عرّضوا للموت في بئر نائية، وما شكّوا إله أنّه في عداد الأموات؛ خرّوا – له – ساجدين، وهم لا يدرون بماذا يعتذرون.
4- زوجة مضيّفة تسقط في أسر جماله، فتتحرك نحو من موقع القوة – إنها امرأة العزيز – وتحاول فرض إرادتها عليه، وتبتذل، فيتمسك – هو – بمبادئه، ويرفض. وعندما تفشل هي، تنتقم منه، فتتهمه، وتزجّ به في السجن. ثمّ: تدور الأيام، ويخرج من السجن، منقذاً للبلاد من كارثة. ولكنه يأبى أن يتسلم مصير شعب، وهو مثلوم الكرامة، قبل أن يسترد اعتباره. فتأتيه امرأة العزيز، وتعترف أمام زوجها.
5- نسوة في المدينة، تنشر شائعات غرامية، عن امرأة العزيز معه. وتجمعهنّ امرأة العزيز، فتضعهنّ أمامه، ليفقدن أعصابهن، ويقطعن أيديهنّ بسكاكين. فيظهر موقفهنّ في التجربة أضعف من موقفها، ويقلعن عن الشائعات النسائية.
(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف/ 24).
هذه الآية: تنزّه يوسف عن الخطيئة، وعن التفكير في الخطيئة، لما يلي:
1- كلمة: (همّ) لا تستعمل – في العربية الفصحى – للرغبة الجنسية، وإنما تستعمل للرغبة في الاعتداء اليدوي – كالضرب –. فعندما امتنع يوسف عن الاستجابة لزليخا، همّت بضربه، تنفيساً لغضبها عليه.. وهمّ – يوسف – بضربها، دفاعاً عن شرفه، الذي حاولت طعنه.. ولكنه تمالك عن ضربها، لمعرفته بأنّه لو ضربها، لفسر بأنّ كان يحاول الاعتداء على شرفها. فاكتفى بالهروب منها، وتمسكت به، فشقت قميصها من دبر، فكان دليلاً على محاولتها الاعتداء على شرفه.
2- إنّ استخدم كلمتي: (لولا) يكون لنفي ما قبلهما بعلة ما بعدهما، فلو قلنا: (حضر زيد لولا أن جاءه ضيوف) معناه، إنّه لم يحضر بعلة وفود ضيوفه إليه. فيوسف لم يهمّ بها، بعلة رؤيته برهان ربه. وهو: نور الله، الذي أشرق في عقله، فأرشده إلى عدم ضربها.. أو هو: معرفته بحقائق الأشياء – التي هي علة العصمة – التي سببت إبعاده عن جميع المنكرات.
3- لو أنّه جلس منها مجلس الرجل من المرأة، ثمّ: ظهر – أمامه – يعقوب عاضاً على سبابته، لم تكن فضيلة له، حتى يعرضها القرآن – فأيّ إنسان، لو ظهر له أبوه في مثل هذه الحالة، يتراجع عن الخطيئة –، ولكان مرتكباً السوء، لأنّ أصل جلوس رجل إلى امرأة محصنة – جلس الرجل من المرأة – حرام، فأين صرف السوء والفحشاء عنه؟! وكيف يكون من عباد الله المخلَصين؟!
- الباقي والفاني:
(أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ) (الرعد/ 17).
فالله – تعالى – هو الباقي، وأما الإنسان: فتهدّ الحياة ذكراه. كما تهدّ جسمه. ومن بقي من البشر، فبمقدار تمسكه بالله. والعظماء الحق، الذين كرسوا حياتهم للحق المطلق – وهو: الله –، باقون بالأمواج التي أطلقوها في الحياة. ومن بقي من غيرهم، فقد تمسك بطرف من الحق: كذي القرنين، ولقمان، وسقراط، وأرسطو، وحاتم... وحتى أعداء العظماء، ظلوا باقين، لتمسكهم بالعظماء، وإن كان تمسكهم بأسلوبهم، وهو الأسلوب اللئيم، فخلدوا في إطار لئيم. فمن كان يعرف: أبا جهل، وعمرو، ومرحب، والوليد، وابن الزبعري، وأمثالهم... لولا الرسول الأكرم (ص)؟! ومن كان يعرف: ابن ملجم، والشمر، ويزيد، ونظرائهم... لولا أهل البيت (ع)؟!
- المسترسل مع الهوى:
(وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى...) (الرعد/ 31).
(ولو أن) شحنة من الطاقات القاهرة، التي تحرك الجبال من مراسيها، وتشقق كرة الأرض الضخمة المتماسكة، وتحيي الأموات في الأجداث حتى تتكلم مع الأحياء... لو أننا أتخذنا شحنة من هذا النوع من الطاقات، التي لا عهد ولا قبل للبشر بها، فنظمناها كلمات وسوراً، وجعلناها (قرآناً)، حتى لو قرىء بعضه بشكل معيّن، (سيّرت به الجبال) تمخر في الأرض، كما تمخر السفن في البحر، (أو) قرئ بعض آخر منه بشكل آخر، (قطعت به الأرض)، وتزلزلت، فغاضت الجبال وتسامقت الوهاد، وصارت الصحارى بحاراً والبحار صحارى، (أو) قرئ بعض ثالث منه بشكل ثالث، على المقابر، لانتفضت الرمام بشراً كاملاً فـ(كلّم به الموتى). ولو قرىء أي قسم منه بالشكل المناسب، لكان له أثر كوني عظيم في شيءٍ.
فلو أننا نظمنا القوى القاهرة في الكون، إلى كلمات وسور، فقرأوها قرآناً، وجربوا تفاعلاتها العظيمة، لما آمنوا به. لأنهم استرسلوا مع الهوى حتى طبعهم، فلا يريدون العدول عنه إلى الحق.
والإشكال ليس في أنهم لم يعرفوا الحق، أو أنّ الحق ليس لديهم بتلك الدرجة الكافية من الوضوح، وإنما الإشكال في أنهم ليسوا على استعداد للإعتراف بالحق مهما كان واضحاً.
المصدر: مجلة الإيمان/ العدد 37 لسنة 1415هـ
ارسال التعليق