أ. د. عزّالدين إبراهيم *
◄الاحتفاء بعاشوراء:
يوم عاشوراء يوم مبارك ومتميز في التاريخ، قدره العرب الأقدمون واحتفلوا به، وهو عند أهل الكتاب وخاصة العبرانيين يوم مقدر أيضاً، غير انّه يقع عندهم وفقاً للتاريخ العبري في شهر تشري (بكسر التاء وسكون الشين) الذي قد يتوافق أحياناً، وليس دائماً مع شهر المحرم في التاريخ الهجري. ثمّ انّه يوم مقدر ومبارك عند المسلمين السنة، وإخوانهم المسلمين الشيعة.
ومع أهمية هذا اليوم، فإنّ الكتابة عنه بصفة موضوعية، مازالت غير كافية، مما يؤدي إلى عدم وضوح الرؤية التاريخية، واختلاف التفسير، وتفاوت طريقة التذكر والاحتفاء. ومقصودي من هذا المقال، أن أحاول بأقصى ما أستطيع من الحيدة والموضوعية والتدقيق العلمي، أن أقدم صورة عن هذا اليوم، تبين حقيقته ومنزلته، أو تقترب ما أمكن من ذلك. فأذكر أوّلاً معنى (عاشوراء) في اللغة والاصطلاح، ثمّ أبين التفسيرت المتعلقة به بين الفرقاء المعنيين به في التاريخ على مرّ العصور، وكذلك الممارسات والشعائر المنبثقة عن هذه التفسيرات، ما كان منها صحيحاً أو كان غير ذلك، وأخيراً بيان بعض الدروس التي يمكن أن تستخلص من ذلك.
عاشوراء في اللغة والاصطلاح:
يميل علماء العربية إلى تأكيد عروبة كلمة (عاشوراء)، بمعنى انّ أصلها عربي وليست منقولة عن لغة أخرى. فيقول الخليل بن أحمد وغيره انّ العرب أخذوها من لفظ (العاشر) وبنوها على صيغة (فاعولاء) الممدوة. وقال سيبويه وتابعه ابن منظور في "لسان العرب" إنّ الكلمة مأخذوة من (العشر) أي العدد العاشر، وجاءت على وزن (فاعولاء) وهو وزن عربي، وإن قلت شواهده، ومنها: (الساروراء) من السراء وهي المسرة، (والضاروراء) من الضراء وهي المضرة، و(الدالولاء) من الدلال، وأورد الزبيدي في "تاج العروس": (الحاضوراء) من الحضور، و(الساموعاء) من السماع. وقال القرطبي في التفسير: عاشوراء هي معدول عاشرة، صفة لليلة العاشرة والمد للمبالغة والتعظيم.
ومن المستشرقين – كالعادة – من ينازع في عروبة الكلمة من حيث الأصل، كما فعل فنسك محرر مادة (عاشوراء) في دائرة المعارف الإسلامية، إذ ردها إلى الكلمة البرية (عاشور) بمعنى العاشر. وقد فعل مثل ذلك غيره حتى مع لفظ (قرآن) ضناً منهم، أن يكون هذا اللفظ الكريم عربي الأصل! وهو الذي نزل بوصف الله تعالى له "بلسان عربي مبين".
وأياً ما كان الأمر، فإنّ الكلمة، أصيلة كانت أم منقولة، فهي من كلمات الحديث الشريف، ولها موقعها في المعاجم والاستعمال العربي المستفيض، بمعنى الليلة العاشرة من المحرم التي يسن أو يجب صيامها على اختلاف الحكم الفقهي. وتلحق بها الليلة التاسعة فيقال عنها (تاسوعاء). وللعامة تأويل في (تاسوعاء) بأنها ليلة التوسعة، بلا قياس. ولا يجادل العامة فيما يقولون، والتوسعة تلحق صيام المواسم على أي حال.
وقد أوردت هذا الجدل اللغوي لأؤكد انّ الكلمة قديمة في اللسان العربي، دون أن يكون للعبرية واليهود دخل في ذلك. واشتراك العربية من العبرية في كثير من المفردات كثير ومشهور فهما من أسرة لغوية سامية واحدة. أما المضمون في كلمة (عاشوراء) فقديم بلا خلاف كما سنبين.
عاشوراء قبل الإسلام:
من الثابت انّ عرب الجاهلية عرفوا يوم عاشوراء ووقروه واحتفلوا به. ولكن وقع الخلاف حول الأسباب التي من أجلها وقروه. ويوجد قول شائع، ولكنه ليس بالضرورة معتمدا. وهو انّ يوم عاشوراء هو يوم نجاة نوح (ع) ومن معه في السفينة من الطوفان الذي أحاط بهم. وقد أورد هذا القول محمد بن جرير الطبري في تفسيره الآية 48 من سورة هود (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ)، واستند في ذلك إلى حديث مرفوع ورد في مسند أحمد (الفتح الرباني ج10 ص173 عن أبي هريرة). وقد تبع الطبري المفسرون الفخر الرازي وابن كثير والقرطبي نقلاً لا مناقشة. ولكن جاء من بعدهم من توقفوا عن قبول هذا الخبر، نظراً لتفرد أحمد بروايته في المسند. وباعتبار انّ تفاصيل قصة نوح هي من الغيبيات لقوله تعالى في الآية التالية رقم 49 من سورة هود: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ) (انظر تفسير الطاهر بن عاشور ج10 ص62).
إلا أنّ المجمع عليه هو الخبر الوارد في الصحيحين وعند الترمذي والموطأ وأحمد مروياً عن عائشة وابن عباس وابن مسعود، بأنّ قريشاً كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية، وأنّ رسول الله (ص) كان يصومه، وكان يوماً تستر فيه الكعبة. فلما فرض الله صيام رمضان قال رسول الله (ص). "من شاء أن يصومه فليصمه ومن شاء أن يتركه فليتركه" وبلغ من اهتمامهم بهذا اليوم انّهم كانوا يشجعون الصغار على صومه، كماورد في البخاري عن الربيع بنت معود قولها "كنا نصومه، ونصوم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة ما العهن (كرة الصوف)، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذلك حتى يكون الافطار".
والظاهر انّ صيام عاشوراء في الجاهلية كان وفقاً لليوم الطويل ابتداء من نوم الليلة السابقة وانتهاء بمغرب اليوم التالي، لأنّ التخفيف يجعل الصيام مقصوراً على الفترة بين الفجر والغروب، إنما وقع في الإسلام كما ورد في سورة البقرة.
وقد تتبع شراح هذه الأحاديث عن عاشوراء قبل الإسلام كلّ من ابن حجر في "فتح الباري"، والكاندهلوي في "أوجز المسالك"، وابن قيم الجوزية في "زاد المعاد"، واستظهروا أسباباً لذلك الاهتمام منها: اتباع إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – في تكريم الكعبة في يوم مكرم، أو اتباع لنبي سبق، ربما هو "نوح"، وفقاً للخبر الذي أوردناه سابقاً، أو اتباع لما ثبت لدى اليهود عن منزلة هذا اليوم كما سنبينه.
والذي يتلخص لنا مما سبق هو انّ (عاشوراء) كان يوماً مرموقاً في الجاهلية لواحد أو أكثر من الأسباب المذكورة، والجمع بينها غير مستنكر. وانّ رسول الله (ص) قد استصحب هذه الممارسة في الإسلام، فصام عاشوراء وتحراه وبشر بأنّ صيامه يكفر السنة الماضية كما ورد في البخاري عن ابن عباس.
عاشوراء في صدر الإسلام وبعد الهجرة:
ظل حال (عاشوراء) في صدر الإسلام، على ما كان عليه قبل ذلك، من حيث افراد اليوم بالتوقير والصيام. فلما كانت الهجرة، وانتقل النبيّ (ص) والمؤمنون إلى المدينة جد سبب إضافي لتعزيز هذا اليوم. ففي الصحيحين ومسند أحمد عن ابن عباس (رض) قال: قدم النبيّ (ص) إلى المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى. قال: فنحن أولى بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه.
ولفهم هذا الحديث نذكر بعض الملحوظات: أولاها ما بيناه سابقاً من أنّ هذا اليوم الصالح في التقويم العبري هو العاشر من شهر تشري، وقد توافق في تلك السنة بالذات مع المحرم، وإلا فإنّ النبي (ص) على علم بل وممارسة لما يستحقه العاشر من المحرم، ولم يكن ليستقي معلوماته بادئ ذي بداءة من اليهود. والملحوظة الثانية ذكرها القسطلاني أحد شراح البخاري، وهي أنّ الرسول لم يأمر بتقليد اليهود، لأنّ ذلك غير وارد في السلوك الإسلامي الذي يحرص على التميز، وإنما أمر بالاحتفاء بالعلة وبالنبيّ موسى (ع). والعلة هنا هي إحدى المعجزات الإلهية التاريخية التي أكرم الله بها النبيّ موسى، إذ شق له البحر فنجا هو ومَن معه من بني إسرائيل، وغرق فرعون وجنوده، هي علة تستحق التنويه والإكبار، وتتفق بشكل عجيب مع علة نجاة النبي نوح ومَن معه في السفينة يوم فار التنور، وغرقت الأرض بما يشبهها ولو بدرجة محدودة ما فعله طوفان "تسونامي" الأخير في الشرق الأقصى.
والملحوظة الثالثة هي أنّ النبي (ص) أراد أن يستميل اليهود في واحد من عدة محاولات قام بها معهم، لكنها لم تنزع سخيمة قلوبهم وعداواتهم، ولم تجد معهم كثيراً إذ ناصبوا المسلمين العداء وتحالفوا مع مشركي قريش كما هو معلوم في التاريخ. وظل الحال كذلك حتى السنة الثالثة من الهجرة، حيث فرض صيام رمضان وتحددت صفاته ومدته اليومية، فترك صيام عاشوراء بالخيار، فمن شاء صامه، ومن شاء لم يصمه. وإن كان التوجّه التعبدي عند الجمهور هو الصيام. وبهذا يكون المفهوم الشرعي بعاشوراء قد اكتمل، باعتبارها مناسبة دينية لها عمق تأريخي يحتفى بها بالتذكر والشكر والتعبد.
بعد عام 60هـ طرأت على مفهوم عاشوراء إضافة لا يمكن ولا يجوز تجاهلها، في كل البلاد الإسلامية وخاصة تلك التي يتمركز فيها إخواننا الشيعة. ففي العاشر من محرّم سنة 61هـ وقعت معركة كربلاء بين رجال يزيد بن معاوية الخليفة الأموي الثاني، وسبط رسول الله (ص) الإمام أبي عبدالله الحسين بن عليّ – عليهما السلام -، وقد استشهد في هذه المعركة الإمام الحسين، وعدد من آل البيت، بما يسمى بالفترة الثانية من "الفتنة الكبرى".
و"الفتنة الكبرى" اصطلاح تاريخي، يطلق على فترة الخلافات والمنازعات التي حصلت بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، ولهذه الفتنة فترتان: الأولى سنة 35هـ وحتى عام المجاعة سنة 41هـ، حينما تناول الإمام الزاهد الحسن بن علي (ع) عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان حقنا للدماء وجمعا لشمل المسلمين، والثانية من 60هـ إلى سنة 64هـ، مدة حكم يزيد بن معاوية وفيها وقعت معركة كربلاء المؤسفة. ومنهج أهل السنة في رصد الفتنة الكبرى، هو عدم الخوض في تفاصيلها وكثرة الكلام عنها، والأخذ بمقولة "فتنة سلم منها سيوفنا، فلنسلم منها ألسنتنا".
وعندما أصدر الدكتور طه حسين كتابه "الفتنة الكبرى" عاب عليه بعض الناس ذلك لأنّه نكأ الجروح.
وما كان لي أن أخرج عن منهج أهل السنة، لولا أنني أدرس (عاشوراء) وماجد على مفهومها من إضافة غير بسيطة، وتقتضيني الأمانة العلمية أن أذكر ذلك.
وبصورة إجمالية فإنّ (عاشوراء) قد حملت بعد كربلاء معنى جديداً، هو التصاقها بذكرى استشهاد الحسين بكل ما فيها من أحزانٍ وعبر، والحزن والاعتبار هو موضوع إجماع المسلمين سنتهم وشيعتهم، وكيف لا والمقتول إمام، وسبط للرسول (ص) الذي حكى القرآن الكريم أنّه لم يسأل الناس شيئاً (إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (الشورى/ 23). ولكن المواقف بعد ذلك متفاوتة.
فأما في البلاد الإسلامية السنية، فقد بقي فيها المفهوم الشرعي الأصلي لعاشوراء على ما هو عليه بما في ذلك صوم يوم عاشوراء وتاسوعاء. واضيفت ذكرى كربلاء على أنها ملحظ تاريخي إسلامي محزن.
وأما في البلاد الإسلامية التي يتمركز فيها إخواننا الشيعة، فقد غلبت عليها كربلاء، وبرزت وأصبحت هي السمة الرئيسية لعاشوراء، ومددت فترتها لتشمل الأيام العشرة الأوائل من المحرم، مع الاهتمام باليوم العاشر بوجه خاص، كما أضيف اليوم العشرون من شهر صفر، باعتبار أنّه يصادف ذكرى الأربعين على استشهاد الحسين طيب الله ثراه. ولا ينبغي حمل أهل السنة على أنّهم استهانوا بكربلاء ونتائجها، فإنّ ذلك قد يصدق على يزيد بن معاوية ومعاونيه، ولكنه لا يصدق على عموم أهل السنة الذين يجعلون آل البيت ويحبونهم بما هم له أهل. ومن ذا الذي لا يتأثر ويحزن وهو يتذكر أحداث كربلاء وشهيدها، ويقرأ كلمات السيد الحميري في الحسين (ع)، التي تحرك الحجر فضلاً عن البشر:
وإذا مررت بقبره *** فاطل به وقف المطيه
وابك المطهر للمطهر *** والمطهرة التقيه
كبكاء معولة أتت *** يوماً لواحدها المنيه
كما أنّه لا ينبغي أن نفسر موقف الشيعة من عاشوراء كربلاء، بأنّه يتضمن الغفلة عن المفهوم التاريخي التراكمي ليوم عاشوراء. فإنّ هذا المفهوم واضح لديهم وضوحه لدى أهل السنة، ومن أراد من السنة أن يتثبت، أو أراد من الشيعة أن يجدد التزامه بذلك المفهوم، فليقرأ مثلاً باب (صوم يوم عاشوراء) في كتاب أبي جعفر الطوسي (الاستبصار ج2، ص134 و135) والاستبصار هو أحد الكتب الأربعة المعتمدة لدى الشيعة، ليجد أنّ ما ورد فيه لا يختلف عما هو في كتب السنة الستة. وهذه مسألة يغفل عنها كثير من الناس، وهي انّ اختلاف الكتب المعتمدة بالأعيان والأسماء لا يعني اختلافها في المضامين، فإنّ المشترك بين مضامين أربعة الكتب التي للشيعة وستة الكتب التي للسنة لا يقل عن تسعة الأعشار.
إلا أنّه يلزم التأكيد بأنّ موقف إخواننا الشيعة من عاشوراء هو موقف ديني وتاريخي وسياسي معاً. فإنّ للقوم وجهة نظر معروفة في موضوع "الإمامة الكبرى" تختلف عن وجهة النظر السنية، ولذلك فإنّ يوم عاشوراء أو أيام عاشوراء العشرة تعتبر موسماً سنوياً للتعبير عن وجهة النظر الشيعية دينياً وسياسياً. ومن يتابع طريقة الاحتفال بأيام عاشوراء عند مثقفي الشيعة، يجد مصداق ما ذكرت حيث تلقى المحاضرات والدروس لبيان ذلك الموقف (انظر محاضرات المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين بعنوان (عاشوراء) كتاب (خطاب عاشوراء) للسيد حسن نصر الله.
وعليه، فإنّ (عاشوراء) السنة تظل في إطارها الذي ذكرناه سابقاً، بينما تتسع (عاشوراء) الشيعة لتشمل الإضافات الخاصة بالمذهب. ولكل وجهة هو موليها.
ممارسات الاحتفال:
ممارسات الاحتفال بعاشوراء يختلط فيها ما هو مشروع، بما ليس مشروعاً، سواء عند السنة أو الشيعة. والمفروض التمييز والتنبيه بالتي هي أحسن، من دون الإيغال في النكير بأيّ فريق، لأننا أمة واحدة، وما يعيب فريقاً يعيب الأُمّة كلّها حتى نتعاون بالحسنى والسماحة على تغييره.
فأما عند السنة، فالمشروع أساساً هو الصيام، مع تذكر المناسبة والعبر المستفادة منها. وعن ممارسة التوسعة، فإنّ الإمام البيهقي يؤكد أنّ الأحاديث التي وردت بشأنها ضعيفة، ولكن كثرتها تجيز الأخذ بما تدعو إليه. والتوسعة في مناسبات الصوم مألوفة.
ومن الإضافات غير الموثقة تحديد صلوات معينة، أو قراءت دينية مخصصة، فليس في ذلك توثيق يؤخذ به. والعبرة في العبادات بالتوقيف، وليس بالإضافات المبتدعة. وهناك بدع اجتماعية في الزيارات والزي والمأكولات، لا تبرير لها وقد تؤول على غير معناها. ومن البدع السخفية الاعتقاد بأنّ طائر الصرد (وهو أكبر من العصفور، وكانوا يتشاءمون منه)، قد صام عاشوراء. فكل ذلك ابتداع ومعظمه داخل ضمن الفولكلور الاجتماعي الذي يلزم إلجامه.أما عند الشيعة، فالصيام بالتخيير مقرر. وإقامة مجالس العزاء مع ما يرافقها من المحاضرات عن مناقب الحسين وآل البيت واردة. ويسمى ذلك (بالقراية – تحريف القراءة). والعلماء يتعففون عن إثارة الفتن، أو ذكر أحد من الصحابة بغير ما يستحقه من التوقير. وقد كان الكميت – رحمه الله – وهو صاحب "الهاشميات" المشهورة في مديح آل البيت، ينشد بأنّه "يهوى علياً أمير المؤمنين ولا يرضى بشتم أحد وهذا هو مذهب فضلاء الشيعة. وكما تألفت جمعيات إصلاحية لمواجهة هذه الممارسات بالحكمة والموعظة الحسنة. وقد رصد هذه الظاهرة بصراحة وإنصاف الدكتور إبراهيم الحيدري في كتاب نفيس بعنوان: "تراجيديا كربلاء، سوسويولوجيا الخطاب الشيعي" فليرجع إليه. وإنني أطري عمل جمعيات الإصلاح لأنّ المشكلة تحتاج إلى معالجة دينية وعقلية وعاطفية من داخل المجتمع الشيعي. وكثرة اللغظ حولها يثير الفتنة الطائفية بلا مبرر، ويصعب على العامة الفكاك من عقدتها.
دروس من عاشوراء:
ومن المفيد أن يختتم هذا العرض لتاريخ عاشوراء ومضامينها والأحداث التي ارتبطت بها، باستخراج بعض الدروس والعبر، ومنها:
أ- تعظيم أيام الله، والاحتفاء بها بما شرع:
فعاشوراء، وعرفة، وليلة القدر، والعشر الأواخر من رمضان، وعشر من ذي الحجة، وغيرها. كلّها من أيام الله المباركة، وهي مواسم للطاعة والعبادة الأكف فيها مرفوعة، وأبواب السماء مفتوحة، فعلينا أن نغتنمها قبل أن تجف الأقلام، وتطوى الصحف. وقد ورد في الأثر أنّ لله في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها. وأحبّ الأعمال إلى الله في هذه الأيام هي ما شرعه لها: إن بالصيام، وإن بالقيام، وإن بغير ذلك، والتزيد غير مطلوب، والانتقاص غير مرغوب.
ب- تأكيد موقف الإسلام الوفاقي من الرسالات السماوية:
ففي الوقت الذي ترفض بعض الأديان غيرها، نجد انّ الإسلام هو الدين الوحيد الذي ينظر إلى الرسالات السماوية وكتبها وأنبيائها بأنها منظومة واحدة متتابعة الحلقات، والحلقة الخاتمة تمام على الذي أحسن من قبل، وكتابها مهيمن على الذي سبقه باستيعابه وتكميله.
ونستفيد هذا الدرس من مقولة النبيّ (ص) لليهود في المدينة "فنحن أولى بموسى منكم، وفي هذا السياق نزلت آية آل عمران الجامعة (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (آل عمران/ 84).
ت- التقريب بين المذاهب الإسلامية، والتقارب بين اتباعها:
وهذا الدرس استطراد لما سبقه، إذ لا يجوز الوفاق مع الغير، مع إهدار الوفاق بين أبناء البيت الواحد، فالمسلمون أمّة واحدة، وقد اصطلحوا في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي على اعتماد ثمانية مذاهب للرجوع إليها في التشريع، وهي المالكية، والشافعية، والحنابلة، والحنفية، والإمامية، والزيدية، والإباضية، والظاهرية. ومن الممكن التفاهم مع من وراءهم من أهل التوحيد من أمّة محمد (ص).
وباعتبار تماس الاهتمام بعاشوراء من قبل السنة والشيعة، فمن المفيد ان نتذكر ان كثيراً من الخلافات بين هذين الفريقين قد بدأت سياسية، ثمّ تغلفت بأغلفة الفقه. والمفروض ان ما فات فات، وأنّه إذا صعب التقريب بين التعاليم، فلنجتهد في تحقيق التقارب بين الأتباع.
ث- نفض البدع عن مناسباتنا الدينية:
وقد ألممنا بطرف من بدع (عاشوراء) عند السنّة والشيعة، فلنعمل كل في دائرته على نفض البدع عنها، ورفض ما قد يكون موضوعاً من أحاديث لتأييدها. وإذا كان الرفض بعد التمحيص المتخصص من مهام العلماء فإنّ المثقف العام يستطيع أن يستأنس بمقولة ابن خلدون في باب علم الحديث من مقدمته "إذا رأيت الحديث يخالف الأصول، ويعارض المنقول، ويناقض المعقول، فاعلم انّه موضوع، وإن وثقوه ووثقوه" ولكن الرجوع إلى تمحيص العلماء أمن. فإذا تشنج وأنكر الصيام في عاشوراء رددناه، والحكم بعد ذلك للتخيير. وإذا تساخف متساخف وقال: اكتحلوا في عاشوراء وتزينوا قلنا له هذا يوم استغفار لا كرنفال. وقس على ذلك.
وأخيراً..
نسأل أن يعيد عاشوراء على المسلمين، وهم أكثر إحاطة بمعانيها التراكمية، وأقدر على التسامح فيما بينهم بشأن الاختلاف حول هذه المعاني بحكم التطورات التاريخية، وما عاشوراء إلا واحدة من المناسبات الدينية التي تتفاوت المواقف بشأنها، فإذا كنا قد خرجنا منها للدعوة إلى الوحدة فإنّ ديننا ومصالحنا والأخطار المحدقة بنا كل ذلك يحتم علينا أن نتوحد لنصبح كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً.
التعقيب:
الأستاذ الدكتور عزّالدين إبراهيم هو أحد المفكرين الكبار الذين أكّدوا على فكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية، وعملوا لتركيزها، إلى جانب العمل المتواصل لدفع عملية الحوار بين الأديان إلى الأمام. وهذا المقال التحقيقي يأتي في نفس السياق ممتازاً بروح هادئة وموضوعية، ونحن إذ نعظّم معه وقفة الإمام الحسين (ع) البطلة ضد حكم طاغية منحرف هو يزيد، ونعلن حزننا الدائم على ما جرى على ابن رسول الله (ص) لنؤكِّد انّ إحياء ذكرى الحسين (ع) لا يعني الا إحياء قيم الثورة على الظلم، وتعظيم معاني التضحية في سبيل العقيدة والإصلاح في الأُمّة.
أمّا مسألة صيام يوم عاشوراء فهي مسألة فرعية قد لا تكون لها علاقة بالحادثة، وهي مسألة يختلف على استحبابها العلماء، لضعف واضح في مستنداتها ولذا فالأقوال فيها متنوعة والاستنباطات مختلفة ولا ضير في ذلك اما الممارسات بمناسبة عاشوراء فالبعض منها طبيعي مندوب إليه؛ لمواساة أهل البيت (ع) وإحياء ذكراهم وقيمهم، والبعض منها تقاليد محلية معبرة عن ذلك في حين يشط البعض عن الصواب ويدخل في حالات الافراط المرفوض.
* مفكر إسلامي
المصدر: مجلة رسالة التقريب/ العدد 47 لسنة 2005م
ارسال التعليق