د. طلال الحسن (من أبحاث السيد كمال الحيدري)
◄تعرّض القرآن الكريم إلى جملة من صور الخشوع، فلم يتوقّف على الخشوع القلبي الذي هو موضع الخشوع الحقيقي، وإنّما ذكر نماذج أُخرى نستعرضها إجمالاً، وهي:
الصورة الأولى: خشوع القلوب:
كما في قوله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد/ 16).
الصورة الثانية: خشوع الأبصار:
كما في قوله تعالى: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) (القلم/ 43)، وقوله تعالى: (خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ) (القمر/ 7).
الصورة الثالثة: خشوع الأصوات:
كما في قوله تعالى: (... وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا) (طه/ 108).
الصورة الرابعة: خشوع الوجوه:
كما في قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ) (الغاشية/ 2).
ومن الواضح بأنّ خشوع الأبصار والأصوات والوجوه في النماذج المتقدّمة إنّما هو مشوع اضطراري أو جِبلِّي لا خيار للعبد فيه، أي: إنّه ذلٌّ اضطراري لا ينتفع به ولا يؤجر عليه، يتلبّس به بعد أن يُعاين هول ما سيُلاقيه، ولعلّ هذا ما كان يُشير إليه الإمام (ع) في دعاء السحر، حيث يقول: "اللّهمّ أسألك خشوع الإيمان قبل خشوع الذلِّ في النار، يا واحد يا أحد يا صمد..."[1].
وعلى أيّ حال، فصور الخشوع الاضطراري لا تعنينا تحديداً، ولكنها تُنبّهنا على أهمية الوصول إلى الخشوع الاختياري على مستوى هذه النماذج في الدنيا، سواء كنّا في حالات الدعاء أم في غيرها.
فالصحيح والمطلوب منّا ابتداءً هو الخشوع القلبي، فهو الخشوع الحقيقي، وقد ورد في ذلك عدّة مضامين تُؤكّد هذه الحقيقة، منها: الحديث القدسي المروي عن الإمام الصادق (ع) من أنّ الله سبحانه ناجى نبيّه موسى (ع) قائلاً: "يا بن عمران، هب لي من قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، ومن عينيك الدموع في ظُلَم الليل، وادعُني فإنّك تجدني قريباً مجيباً"[2]، وهذا الخشوع القلبي سوف يكون داعياً ومُوجباً لخشوع سائر الجوارح الأُخرى، كالبصر واللسان واليد وسائر الجسد. وعن أمير المؤمنين عليّ (ع): "ليخشع لله سبحانه قلبك، فمن خشع قلبه خشعت جميع جوارحه"[3]، وعنه (ع) أيضاً: "مَن خشع قلبه خشعت جوارحه"[4]، وقد جاء في حديث المعراج عن أمير المؤمنين (ع) عن رسول الله (ص) أنّه قال: "إنّ الله تعالى قال له: يا أحمد، ما عرفني عبد إلّا خشع لي، وما خشع لي عبد إلّا خشع له كلّ شيء..."[5]، ولكنها المعرفة التحقّقية لا التحقيقية[6].
قال الفيض الكاشاني: "الخشوع في الصلاة خشوعان، خشوع يكون بالقلب، وهو أن يتفرّع لجمع الهمّة لها، والإعراض عمّا سواها، بحيث لا يكون فيه – أي: القلب – غير المعبود، وبالجوارح أن يغضّ بصره ويقبل على العبادة ولا يلتفت ولا يعبث"[7]، ومن الواضح بأنّ الخشوع الجوارحي حاصل اضطراراً أو اتّفاقاً إذا كان الخشوع القلبي مُتحقِّقاً، بمعنى أنّه حالة تلقائية تفرض نفسها تبعاً لعلّتها وهي نفس الخشوع القلبي، ممّا يعني أنّ الخشوع الجسدي فيه نوع من التجوُّز، لأنّه مُجرّد مرآة انعكست فيها تجلّيات الخشوع القلبي، وهذا الخشوع القلبي الأصالي تغيب عنه الغيريات والشوب والغطش، من رياء وعجب واستحسان.
إذن، فالخشوع "ليس حالة جسدية، وإن كانت قد تدلّ حالة الجسد عليه إلّا أنّ حالة الجسد قد تخلو من الإخلاص، والعياذ بالله، وأما الحالة القلبية أو الخشوع حين يكون قلبياً فلا يكون إلّا مُخلصاً لتعذّر اطلاع الآخرين عليه، فلا يُمكن أن يحمل الرياء مطلقاً، فإن خشعت معه الجوارح أو الجسد كان خشوعاً مخلصاً أيضاً"[8].
التخشع النفاقي:
وبمناسبة المرور بخشوع الجوانح (القلوب)، والجوارح (اليد واللسان والعين)، نحتاج أن ننتبه كثيراً إلى خطر عظيم قد يُحيط بالخاشعين، فإنّ هنالك خشوعاً أو تخشُّعاً يُسقط الإنسان العابد من عين الله تعالى، ولا يُبقي لعمله عيناً ولا أثراً، وهو خشوع المنافقين، أو كما هو الصحيح التخشُّع النفاقي، فقد ورد التحذير منه في روايات عديدة، منها: عن رسول الله (ص) قال: "إيّاكم وتخشُّع النفاق، وهو أن يرى الجسد خاشعاً والقلب ليس بخاشع"، وعنه (ص): "تعوّذوا بالله من خشوع النفاق، خشوع البدن ونفاق القلب"، وعنه (ص) أيضاً: "مَن زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو خشوع نفاق"[9].
فلابدّ من الموافقة بين الظاهر والباطن، فإنّ الخشوع الظاهري إذا لم يكن منشؤه القلب فهو من الشيطان، وقد كان الأنبياء السابقون من أشدّ ابتلاءاتهم أنّهم (عليهم السلام) قد اصطدموا بأُناس يتنسَّكون في الظاهر وقلوبهم فاسقة فاجرة، كما هو الحال بالنسبة للسيد المسيح (ع) حيث كانت مواجهاته عنيفةً مع أصحاب التنسُّك الزائف والخشوع النفاقي، فقد كان يُواجه أدعياء التنسّك والخشوع منهم بقوله (ع): "يا أبناء الأفاعي، لستم أولاد أبيكم إبراهيم، وإنّما أنتم أبناء الشيطان".
وعلى أيّ حال، فما نُريد التنبيه إليه أكيداً هو خصوص الخشوع النفاقي في الدعاء، فإنّه نقض للغرض، بل مُوجب للعقوبة واللعن، بل هو أسوأ أنواع النفاق، وأبشع صوره إطلاقاً.
إشراق:
إذا القلوب قست استدعت غُسلها بماءٍ طهور، وهو عينه ماء الخشوع، به تنبت بذور الوصل، وبه عن الأغيار يكون الفصل، هو أبجدية السماء. وترجمان سرادق النور، وهو الجلوة التي تُذيقك الشهد، فتُخرجك من المحدود، وتُريك الشاهد والمشهود، فيغيب الظلّ بالكلّ وتكون بالمكنون، هذا حتى مطلع الفجر.►
الهوامش:
[1]- مصباح المتهجّد، لشيخ الطائفة الطوسي، مؤسسة فقه الشيعة، ط1، 1411هـ، بيروت: ص598، الحديث: 68.
[2]- الأمالي، للشيخ الصدوق، ص438، الحديث: 1.
[3]- عيون الحكم والمواعظ، عليّ بن محمّد الليثي الواسطي، تحقيق حسين الحسيني البيرجندي، دار الحديث، ط1، 1997م، قم: ص404.
[4]- الخصال، ص368.
[5]- مستدرك الوسائل، ج11، ص233، الحديث: 20.
[6]- إنّ المعرفة التحقيقية هي المعرفة النظرية البرهانية التي لا تعدو عالم الذهن، ولذلك فهي محدودة بحدوده، وهي التي يُصطلح عليها قرآنياً بعلم اليقين، وأمّا المعرفة التحقّقية فهي المعرفة الشهودية الكشفية، والتي يُصطلح قرآنياً بعين اليقين وحقّ اليقين، وليس من ذاق الشهد كمن وُصِف له، فالأوّل تحقّقي، والثاني تحقيقي. ولمراجعة التفصيل في ذلك، انظر: معرفة الله، من أبحاث السيد كمال الحيدري، بقلم طلال الحسن، دار فراقد، ط1، 1327هـ، قم المقدّسة.
[7]- انظر: المحجة البيضاء في تهذيب الإحياء، للمحقّق، والمحدّث الفيض الكاشاني، مؤسسة النشر الإسلامي، ط4، 1417هـ، قم المقدّسة: ج1، ص353.
[8]- انظر: فقه الأخلاق، للسيد الشهيد محمّد الصدر، أنوار الهدى، 2002م، قم: ص58.
[9]- بحار الأنوار، ج77، ص164، الحديث: 188.
المصدر: كتاب الدعاء إشراقاته ومعطياته
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق