◄رأيت في هذا البحث أن يكون بين يدي المتشابه اللفظي من حروف المعاني، ولعلّه يكون توطئة لازمة إذا أحسنّا ربطه بأسرار المتشابه اللفظي في كتاب الله عزّوجل، موضع الدرس وأساس التطبيق.
فالحرف في العربية، ذو قيمة لا تقل عن الاسم والفعل، إذ الكلمة في اصطلاح اللغويين، إمّا أن تكون اسماً أو فعلاً أو حرفاً جاء لمعنى، فهو لبنَةٌ رئيسة وليست فضلة. ولذلك ليس غريباً على أهل العربية أن يولوه من العناية بحيث تُفرَدُ له المصنّفات، ومن أشهرها: الأزهية في علم الحروف للهروي، والجنى الداني للمرادي، ومغني اللبيب لابن هشام، ورصف المباني للمالقي وغيرها.
ولقد ذكر المرادي في مقدمة كتابه (الجنى الداني في حروف المعاني) أنّهم حدُّوا الحرف بحدود كثيرة، ولكنّه قال: "ومن أحسنها قول بعضهم: الحرف كلمة تدل على معنى في غيرها فقط". واطلع محمّد حسن عوّاد على ما قيل في الحرف وشرحه، فقال موضحاً ومبيناً: "ومقتضى الحدّ أنّ الحروف روابط في التركيب، يتوقف معناها على ذكر متعلقاتها، وإذا أُفردت فقد تبخرت معانيها".
ويدخل الحرف سياق المباحث الفقهية، فلا يجد أهل الأُصول مناصاً من درسه، وما يتعلق به من أحكام ودلالات، وهم يدركون أنّ ذلك ليس من مباحثهم.
يقول الشيرازي في حديثه عن حروف المعاني: "واعلم أنّ الكلام في هذا الباب كلام في باب من أبواب النحو، غير أنّه لمّا كثر احتياج الفقهاء إليه ذكرها الأصوليون".
ويبدو أنّ حروف المعاني أخذت قيماً خاصّة في كتاب الله عزّوجل، فقد أكسبها النص القرآني نوراً وجمالاً، وبعث فيها حياةً وأسراراً ما كانت لتكون، لولا انتظامها في كلام العليم الحكيم. ولكنها تمنّعت، فاحتجبت أسرارها عن القُرّاء إلّا قارئاً استعان بالله، فأدام النظر، وأعاده، وقلّب البصر، وتفكّر في منازلها، وقرأ في كُتُب التفسير، ووازن بين متشابهها.
وليس هذا بدعاً من القول، فقد قال المرادي في مقدّمة الجنى: "فإنّه لمّا كانت مقاصد كلام العرب، على اختلاف صنوفه، مبنياً أكثرها على معاني حروفه، صُرِفت الهِممُ إلى تحصيلها، ومعرفة جملتها وتفصيلها. وهي مع قلتها وتيسُّر الوقوف على جملتها، قد كثر دورها، وبعُد غَورُها، فعزَّت على الأذهان معانيها، وأبَت الإذعانَ إلّا لمن يُعانيها".
ولا يخفى أنّ في العربية كلمات تتعدّى بحروف، فتكتسب دلالة جديدة مع كلّ حرف تتعدّى به، وربّما ينقلب المعنى إلى الضد نتيجة للتعدّي بحرف دون آخر. ففرق شاسع بين (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) (النساء/ 127) و"وترغبون عن أن تنكحوهنّ"، وكذلك فرق إلى الضد بين (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ) (البقرة/ 130) و"مَن يرغب في ملة إبراهيم". والفعل (سمع) هو الآخر يتعدّى نفسه، ويتعدّى بعن، وبالباء، وباللام، وبفي، وبمن، وبإلى، فإذا تعدّى بنفسه أفاد معنى الإدراك، وإذا تعدّى بغير ذلك من الحروف، فإنّه يتسع لمعانٍ وأغراضٍ، تتلاقى وتتباين طبقاً للحرف المتعدّى به.
ومن الأمثلة النافعة الموضحة التي يكثر دورانها في كُتُب الإعجاز عامّة، ومَن يعرض لأسرار الحروف في كتاب الله خاصّة، ما رواه الخطابي، في رسالته (بيان إعجاز القرآن) بسنده إلى مالك بن دينار، قال: "جمعنا الحسن لعرض المصاحف، أنا وأبا العالية الرياحي، ونصر بن عاصم الليثي، وعاصما الجَحدري، فقال رجل: يا أبا العالية، قول الله تعالى في كتابه: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) (الماعون/ 4-5) ما هذا السهو؟ قال: الذي لا يدري عن كم ينصرف، عن شفع أو عن وتر. فقال الحسن: مه يا أبا العالية، ليس هذا، بل الذين سهوا عن ميقاتهم حتى تفوتهم. قال الحسن: ألا ترى قوله عزّوجل: (عَنْ صَلاتِهِمْ). ويعلّق الخطابي على ذلك بقوله: قلت: وإنما أُتيَ أبو العالية في هذا، حيث لم يُفرِّق بين حرف عن وفي، فتنبّه له الحسن، فقال: ألا ترى قوله: (عَنْ صَلاتِهِمْ) يؤيد أنّ السهو الذي هو الغلط في العدد إنما هو يعرض في الصلاة بعد ملابستها، فلو كان هو المراد لقيل: في صلاتهم ساهون، فلما قال: عن صلاتهم دلّ على أنّ المراد به الذاهب عن الوقت".
وممّا شاع أيضاً تفرقتهم بين حرفي الغاية (إلى وحتى) وبين (اللام وإلى). فعلى أنّ (إلى وحتى) لانتهاء الغاية، إلّا أنّ (حتى) تختص بكونها لآخر الغاية، وليس كذلك (إلى)، ولذلك جاز أن نقول: سرتُ إلى آخر الطريق أو إلى نصفه، ونقول: سرتُ حتى آخر الطريق، ولا نقول حتى نصفه. وهذا المثال مبنيُّ على ما شاع في العربية من قولهم: أكَلتُ السمكة حتى رأسها.
وقديماً عاب الزمخشري على مَن يتجاهلون الفروق الدقيقة بين حروف المعاني، وما يترتب عليها من اختلافات دلالات التراكيب، خاصّة إذا تعلق الأمر بكتاب الله عزّوجل. فقد قال في الفرق بين تعدية الفعل (يجري) اللام وتعديته بـ(إلى) في قوله تعالى: (كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى) (الرَّعد/ 2)، وقوله تعالى في سورة لقمان: (كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) (لقمان/ 29)، قال: "فإن قلت: (يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى) و(يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) أهو من تعاقب الحرفين؟ قلت: كلا، ولا يسلك هذه الطريقة إلّا بليد الطبع ضيق العَطَن، ولكن المعنيين، أعني الانتهاء والاختصاص كلّ واحد منهما ملائم لصحّة الغرض، لأنّ قولك: يجري إلى أجل مسمى، معناه يبلغه وينتهي إليه. وقولك: يجري لأجل مسمى: تريد يجري لإدراك أجل مسمى، تجعل الجري مختصاً بإدراك أجل مسمى. ألا ترى أنّ جري الشمس مختص بآخر السنة، وجري القمر مختص بآخر الشهر، فكلا المعنيين غير ناب به موضعه".
ولا أظن أنّ أحداً ممّن يعتني بالعربية يساوي بين: سعيت لفلان، وسعيت إلى فلان.. فالأوّل سعيت من أجله، والثاني يدل على القصد إليه، والانتهاء عنده.
وأيضاً قوله تعالى: (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا) (يوسف/ 9)، فالمقصود أنّ أباهم كان يحبّ يوسف أكثر من حبّه لهم، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصر في هذا البحث.
ولكن الأمر يزداد صعوبة، ويتعذّرُ على الباحث الفصل فيه، ويختلط الحابل فيه بالنابل، وتكثر الأقلام، من مؤيد ومعارض، ومن متوسط بين الآراء، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ذلك كلّه عندما يتعدّى الفعل بحرف ليس من شأنه أن يتعدّى به، إمّا لأنّه يتعدّى بنفسه، وإمّا لأنّه يتعدّى بحرف آخر شاعت تعديته به على ألسنة الفصحاء، الأمر الذي قادهم إلى مبحثي التضمين والنيابة.►
المصدر: كتاب المتشابه اللفظي في القرآن الكريم
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق