• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

تفسير آيات الصوم

الشيخ محمد مهدي شمس الدين

تفسير آيات الصوم
◄قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (البقرة/ 104). لما كان الصيام عبادة ثقيلة على النفس، لما فيها من الإمتناع عن الطعام والشراب والنشاط الجنسي، أراد الله تعالى أن يهيء نفوس المسلمين لتقبل فريضة الصوم بحب وانقياد، فخاطبهم بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لتذكيرهم بصفة الإيمان التي يحملونها نتيجة لتصديقهم بمحمد (ص) واتباعهم إياه، ومقتضى كونهم مؤمنين أن يطبقوا أحكام الله تعالى مهما كانت شاقة على حياتهم اليومية، لأنّ الإيمان ليس اعتقاداً نفسياً فقط، وإنما يجب أن يترجمه الإنسان المؤمن إلى أعمال خارجية بتطبيق أحكام الله على سلوكه. (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (البقرة/ 183). كُتِبَ عَليكُم: يعني فُرِض عليكم، أي إنَّ الصيام فريضة دينية لازمة. وقد بيَّن الله تعالى للمسلمين إنّ فريضة الصوم ليست شيئاً اختصت به الشريعة الإسلامية، وانما فرضت على أتباع الديانات الماضية التي نسخت بالشريعة الإسلامية، والتشبيه وهو قوله تعالى: (كَمَا كُتِبَ) لبيان المشابهة في أصل تشريع الصوم، وليس في بيان كيفية الصوم، ولا وقته، ولا عدد الأيام. قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 183). أي لعلَّ الصوم – إذا أخلصتم فيه – يدفعكم إلى تجنب المعاصي واتقاء الوقوع فيها، وبيان ذلك: إنّ الصوم عملية ردع النفس عن شهواتها الغذائية والجنسية إطاعة لله، فممارستها تجعل الإنسان – إذا أراد – قادراً على كبح جماح نفسه عن ممارسة اللذات المحرمة، لأنّ الله نهى عنها، فالصوم ينمِّي الإرادة من جهة، وينمي الإحساس بالله تعالى من جهة أخرى، وجود هاتين الصفتين في الشخصية الإنسانية يجعل الإنسان متماسكاً أمام المحرمات، وقادراً على اتقائها. وفي هذه الكلمة الشريفة: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، سر آخر، وهو بيان أن فائدة الصوم ترجع إلى الصائم، والله في غنى عن العبد وعن عباداته، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ) (فاطر/ 15). ففوائد العبادات وغيرها من الأفعال الإنسانية، الحسنة والسيئة، ترجع فوائدها ومضارها إلى الإنسان، قال تعالى: (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا) (الإسراء/ 7). قوله تعالى: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) (البقرة/ 184). رُوي انّ النبي (ص) حين قدم المدينة مهاجراً من مكة كان يصوم يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، وأنّ هذا هو المراد من قوله تعالى: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)، ثمّ نسخ ذلك بشهر رمضان في قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ...) (البقرة/ 185). ولكن هذا القول غير صحيح، فإنّ الصوم عبادة للمسلمين جميعاً، وأمره لا يخفى على أحد، فكان يلزم أن يتواتر نقل هذا الأمر، مع أنّه لم ينقل بالتواتر، ولو كان صحيحاً لورد عن أهل البيت – عليهم السلام –، مع أنّه لم يرد عن طريقهم شيء من ذلك. على أنّ ذكر يوم عاشوراء مع الأيام الثلاثة من كل شهر يكشف عن كذب الروايات الواردة في ذلك، فإن يوم عاشوراء من الأيام التي اتخذها بنو أمية عيداً لهم بعد أن قتلوا الإمام الحسين وذرية رسول الله (ص) في كربلاء، فاتخذوا منه يوماً مباركاً يصومون فيه، وجعلوه عيداً. والصحيح أنّ المراد بقوله تعالى: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) هو شهر رمضان الذي سيرد ذكره في الآية التالية، وإنما عبر عنه الله تعالى هنا بهذا التعبير لبيان أنّ الأيام التي فرض فيها الصوم – بالنسبة إلى السنة – أيام قليلة، وليست كثيرة حتى يتثاقل المؤمن من القيام بها. قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (البقرة/ 184). دلّت هذه الفقرة من الآية المباركة على أنّ الإنسان إذا كان مريضاً، أو مسافراً، فيجب عليه الإفطار، ثمّ يقضي بعد ذلك عدد الأيام التي أفطرها. والمرض الموجب للإفطار هو المرض الذي يضره الصوم، وذلك بأن يزيد المرض، أو يصير – بسبب الصوم – صعب العلاج، أو يتأخر الشفاء منه بسبب الصوم. ففي هذه الحالة يجب على الإنسان أنْ يفطر في شهر رمضان. والمرجح في تحديد الحالة التي يجب فيها الإفطار إلى ضمير الإنسان، ولا يكفي قول الطبيب إلا إذا أوجب الخوف عند الإنسان. روى (زرارة بن أعين) عن الإمام أبي عبدالله الصادق (ع) قال: "سألت أبا عبدالله (ع): ما حدّ المرض الذي يفطر به الرجل ويدع الصلاة من قيام؟ قال: بل الإنسان على نفسه بصيرة هو أعلم بما يطيقه"[1]. والسفر، في مذهب الشيعة الإمامية، موجب للإفطار بشروط خاصة. وقد ذهب إلى وجوب الإفطار في السفر: (عمر بن الخطاب)، و(عبدالله بن عمر)، و(عبدالله بن عباس)، و(عبدالرحمن بن عوف)، و(أبو هريرة)، و(عروة بن الزبير)، وغيرهم. وقد ذهب فقهاء المذاهب الأربعة إلى جواز الإفطار في السفر بشروطه، وزاد (الحنابلة) على ذلك فقالوا بأنّه مستحب[2]. قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) (البقرة/ 184). الإطاقة – كما ذكرها بعضهم – صرف تمام الطاقة في الفعل، ويلزم من بذل تمام الطاقة أنّ الفعل يقع بجهد ومشقَّة شديدة، وبحيث لا يبقى له قدرة كافية للقيام بغير الصوم من النشاطات، فلعلَّ معنى الآية – والله تعالى أعلم – أنّ الإنسان إذا كان بحيث يستنفد الصوم جميع قواه، فإنّه لا يجب عليه الصوم، بل يجوز له أن يفطر ويعطي فدية – يعني بدلاً – عن كل يوم أفطره إلى المسكين، طعاماً بمقدار ما يشبعه. ويؤيد هذا التفسير ما روي عن (ابن عباس) أنّه كان يقرأ بدل "يُطيقونه" "يُطَوّقونه" أي يتكلفونه[3]. وقد ورد عن أهل البيت – عليهم السلام- تفسير الآية بـ(الشيخ الكبير)، و(الإنسان المريض بكثرة العطش) و(المرأة تخاف على ولدها) إذا كانت حاملاً أو مرضعاً، يؤثر الصوم في حليبها. قوله تعالى: (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) (البقرة/ 184). التطوع: من الطوع، وهو إتيان الفعل بالرضى والرغبة، ومقابل الطوع الكره وهو الإتيان بالفعل من دون رضى. فالظاهر أنّ معنى الفقرة الكريمة: أنّ الصوم واجب لابدّ منه للقادر، فالأحسن للمؤمن أن يمتثل هذا الواجب، برضى ورغبة في رضوان الله تعالى، لأنّ عمله يكون أكثر قبولاً عند الله لأنّه يكون أكثر اقبالاً على الله، وهذا أحسن مما إذا أتى بالعمل كارهاً غير مقبل عليه، فإنّه لا يكون له من الأجر والثواب بمقدار ما يناله من عَبَدَ الله بإخلاص ورغبة. قوله تعالى: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة/ 184). معنى هذه الجملة – والله أعلم –: إنّ الصوم فريضة لازمة لكم أيها المؤمنون، فإمّا أن تطيعوا هذا الواجب وتؤدوا هذه الفريضة فيكون امتثال أمر الله تعالى خيراً لكم، وفي مقابل الطاعة المعصية التي هي شر نعوذ بالله منه، فهذه الجملة تشبه من هذه الجهة قوله تعالى: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الجمعة/ 9). الهوامش:
[1]- من لا يحضره الفقيه، ج2، 83 الباب 40، "حد المرض..." ج1. [2]- الفقه على المذاهب الأربعة، ج1، ص574-575. [3]- الفاضل المقداد الحلي: كنز العرفان في فقه القرآن (ط النجف)، ج1، ص165.

[4]- نشر في مجلة التوجيه الثقافي الديني العدد العاشر في 11/11/1969.

    المصدر: مجلة الغدير/ العدد 12-13 لسنة 1418هـ[4]

ارسال التعليق

Top