• ١٩ كانون أول/ديسمبر ٢٠٢٤ | ١٧ جمادى الثانية ١٤٤٦ هـ
البلاغ

القصص الشرقية.. نماذج متشابهة

سميح عاطف الزّين

القصص الشرقية.. نماذج متشابهة

القصّة قديمة قِدَمَ التاريخ، وقد اتخذت على مرّ العصور، أشكالاً وأنواعاً مختلفة، من حيث المبنى والمعنى حتى غدت إحدى المصادر الرئيسية التي يقوم عليها التراث الحضاري لجميع الشعوب، وذلك رغم ما احتوت من مبالغةٍ في النسج، أو تزييفٍ في الواقع أو مجافاةٍ لحقيقة الأمور التي تدور في حياة الناس، أو تباعد عن الغايات التي يرومون...
وقد اتَّسمت القصّة بهذا الطابع لدى الشعوب الشرقية بصورة خاصة، لأنّها قامت في بادىء الأمر على الأفكار الدينية وعلى الإيمان، وهما المعبّران الحقيقيان عن التوق النفسي للتعلّق بأمور الغيب.
أمّا أوّل الشعوب التي شهدت ولادة القصة فكانت الشعوب الوثنية الأولى. إذ ظهرت القصص عندها على شكل أساطير تمجّد الآلهة التي هي مصدر النور والمطر والغلال والمواسم وكلها ضرورات حياتية للناس..
وقد شكّلت تلك الأساطير العقائد الدينية لدى تلك الشعوب.. وكان يرافق إعلانها ونشرها اختلاقٌ ودسٌّ وتدجيلٌ بحدودٍ لا تُوصف حتى يكونَ تأثيرها على النفوس، وقعُها على الأذهان أقوى.. وحتى يمكن فيما بعد تكييفُها على النحو الذي يحقق مطامعَ ذوي الشأن وأصحاب السيادة والنفوذ في تلك العهود.. وبذلك صارت تلك الأساطير مصدراً للقوَّة التي تمتَّعت بها فئةٌ معيّنة من الأشخاص، برزتْ في الجماعات وراحت تؤسس حكماً قوامه النفوذ الشخصي؛ ووسيلته البطشُ والظلمُ والاستبداد حيناً، والخداعُ والدهاء حيناً آخر؛ حتى شادت الملك وصارتْ صاحبةَ السلطان المطلق في كل شيء.. تفرضُ الضرائبَ، وتُنزلُ العقوبات، وتوقعُ المغارمَ بين الناس، ولا وازعَ ولا رادعَ إلا ما تمليه المصلحة الشخصية.. أما الفئة الثانية، التي كانت تمهّد للأولى وتُساعدها على بسط سيطرتها وإحكام جبروتها فهي من العرافين والكهّان الذين يتولون التبشير بالخرافات ونشرها بالوسائل الملتوية التي تحمل في طيّاتها السمّ الزعاف، الأمر الذي يجعل العامة من الناس مسلوبة الإرادة، فاقدة الوعي والإدراك، غير قادرةٍ على التمييز بين ما يجب أن يكون عليه الإيمانُ، وبين ما تحمله تلك الدعواتُ من السطوةِ على الناس والتأثير فيهم بما يحقّق الغاية المطلوبةَ من تدعيم الملكِ وتقوية نفوذِ خدّام الهيكل، حتى باتت الشعوب نهباً موزعاً بين سلطتين ظالمتين، واصْطُلِحَ على تسميتهما بالسلطان الزمني والسلطان الروحي.
وويلٌ لشعب إذا اتفق حكامُه وكهانُه على إذلاله حتى يصبح مطيّةً مسلوبةَ الإرادة قاصرةً عن التعبير، خاضعاً للأوامر والنواهي بما يشبع المطامع ويؤمن المآرب لأهل الحكم وحَمَلَة الدين المزيَّف ولمن حولهم من الأزلام والأعوان... يسمونه سوء العذاب، ويسخّرونه لبناء الأبراج العاجيّة والقصور، المنيفة، أو لإقامة القلاع والحصون المنيعة، أو يستخدمونه في العمالة والتشغيل بما يمكنهم من تكديس الذهب الرنّان، واقتناء الحلى وأدوات الزينة، وامتلاك الخيول والمطايا.. أو قد يفرضون عليه الحرب ساعة يشاؤون، للتخلص من عدده الزائد تارة أو لتوسيع رقعة النفوذ والسلطان تارة أخرى.. ولِمَ لا تكون الغاية القضاء على أكبر عدد منه حتى لا يشكّل خطراً على مستقبلهم؟!... وبكلمة أخرى، أليست الغاية من الحروب الاستغلال والاستعباد وسرقة مواد الرفاهية من الأمم الضعيفة؟ ففي السابق كانت تلك المواد تشتمل على الحبوب والقمح والبخور، وعلى الذهب والفضة، واليوم هي بالإضافة إلى ذلك تشتمل على المواد الطبيعية والثرواتِ القومية وفي طليعتها البترول... وهي في عصرنا الحاضر، كما في العصور السابقة، المصدرُ الأوّلُ والرئيسيُّ للنفوذ والسيطرة، ولتكديس الثروات الطائلة، ولتأمين الاستهلاك حتى التخمة!...
ومن عجب أن تلك الأوقات التي كان فيها الحكّام، ومن رائهم خدّام الهياكل، يستغلون الشعوبَ بأبشعِ الطرقِ والوسائل، ويسيطرون على الأمصار والبلدان بالدم والنار، من عجب أن تُسمّى تلك الأزمنة بالعصور الذهبية أو العهود الزاهرة في تاريخ الأُمم...
ومن المؤكد أن في ما عاشه الشرق من أساطير عشَّشت في ذهنه كان السبب فيما آل إليه من مصائر، وما ترتَّبَ عليه من نتائج أقلها القضاء على الوعي كلما تفتح لديه، أو حشو عقله بالتشويش كلما أدرك الوصول إلى الصفاء، أو تعبئة نفسيته بالاضطراب والتعقيد كلما عرف الهدوء والاستقرار... فقد كانت الخرافات والأوهام هي أقصر الطرق وأوثقها إلى ذلك كله... فهي تفحُّ بالمبالغة والتهويل فحيح الأفعى عندما تنفث سمومها، وهي تحبل بالشعوذة واصطناع الخوارق حَبَلَ نفوسِ أصحابها بالأباطيل.. فليس غريباً إذن أن يدّعي الكهّانُ بأنّهم حَمَلَةُ الأسرار، وبأن يستخدموا الرموز والسحر، والعزائم والطلاسم لاجتذاب الناس واستمالتهم إلى الاستكانة والخضوع...
وعلى هذا النحو كانت القصة أقوى الأسلحة وأخطرها بين أيدي الحكام والكهان، لا فرق بين عصر وعصر، ولا بين شعب وجماعة؛ لم ينجُ من ذلك إلا شعبٌ واحدٌ عاش على التفاخر في قرى الضيف وتمجيد البطولة التي تفرضها حياة الصحراء القاسية، فلم تجرّه الأساطير كسواه، ولم تشُدّهُ الغيبيات مثلَ غيره، حتى كان ذلك صارفاً لمعظم رجاله عن الاستماع إلى القرآن إبّان نزوله، فقد وقرَ في أذهانهم، وهم أميّون لا كتب لديهم، أنّ الأساطير لا تكون في بطون الكتب، فهم إذن لا يستمعون إليها، إلّا بما تتناقله الألسن من أخبار آتية من البعيد.. فلما نزل القرآن الكريم، ورأوا أنّه قرآنٌ عربيٌّ مبين آمنوا به، وركنوا إليه، وأقبلوا على سماعه سراً وجهراً حتى وصلوا إلى حالة الخشوع لتلاوته، فاهتدوا، واستجابوا لنداء الحق الصريح فيه، لا يشذُّ عن ذلك إلا من تشير إليه الآية الكريمة: (وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ) (المطففين/ 12-13).
مما تقدم لنا حقيقةٌ بسيطةٌ، ربما لم يغفلها الناسُ ولكنها ما تزال غير واضحة المعالم بعد، وهي أن أساطير الشعوب الشرقية، وقصَصها الدينية لا تتنوّع في موضوعاتها، ولا تتباينُ في غاياتها ومقاصدها، بل تتقارب في العصور التي تعطيها، رغم اختلاف الأزمنة وتعاقب العصور، فهي في الجملة نماذج متشابهة، وخيالاتٌ مرددة، وتصوراتٌ مكررة؛ الاختلافُ فيما بينها بقدرٍ طفيفٍ، قد يكون سببه اختلاف البيئة والمحيط، أو تمايز العادات والتقاليد، أو تنوع المعطيات والمسمَّيات... وليس في ذلك عجبٌ ما دام الغرضُ من القصص الدينية يكاد يكون واحداً، وما زالت أساليبُ تصويره متشابهة، وطرائف إخراجه متماثلة إلى حد بعيد، حتى يجد المدقِّقُ أنّ القصص الدينية في بلاد الشرق تكاد تكون على نمطٍ واحد، أو نموذج واحد، اختلفت ترجماته باختلاف اللغات واللهجات... وهذا مصداق قوله تعالى: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) (البقرة/ 118).. وتعتني القصة الدينية، على وجه العموم، بإبراز القيمة الكبيرة للأشخاص الذين يضطلعون بدور البطولة فيها، أحياءً كانوا أم أمواتاً، فيُنْسَبُ لهؤلاء القدرةُ على جلب المنافع، ودفعِ المضار، وتحقيق المستحيل الذي يفوق طاقة البشر، حتى لتنحني لأسمائهم الرؤوسُ، وتخشَعُ لذكرهِمُ النفوسُ... وإذا ذاك يتحققُ الغرضُ أو تتأمّنُ الغاية المنشودةُ، وهي إسدالُ حجابٍ بين الله وعباده، عن طريق واسطةٍ يضرعُ إليها الناس ويرجون من وراء ذلك الخير الذي يتشوّقون إليه، وبذلك تتعدّدُ الوسائطُ، أي تتعدّد الأوثان، وبالتالي تتعدد الآلهة.
وما عبادة الأوثان إلا رموز الآلهة أو بعضها فيما تخيّله الإنسان أو فيما صنعته يداه على شاكلةٍ أو أخرى من الأشكال المصطنعة عابسة كانت أو ضاحكة، جميلة أو قبيحة وفق النزعات والميول، والأهواء والرغائب والتطلعات.
وهل الوثنية بهذا المفهوم إلا الوقوف بين الفطرة وطريقها وبين النفس وخالقها؟

المصدر: كتاب قصصُ الأنبياءٍ في القرآن الكريمْ

ارسال التعليق

Top