اقتصر في هذه الورقة على ابداء ملاحظة أولية، وتوضيح منهجي... ولدي – في النهاية – ثلاث أفكار محددة أساسية.
أما الملاحظة الأولية: فإن بعض ما استمعنا إليه عن العولمة ودورها وحتمية مجيئها.. وإن جاء من منطلقات سياسية واقتصادية ليبرالية وثيقة الصلة بالنظام الرأسمالي فإنها – وهذا موطن العجب – تكاد تتطابق مع مقولات سمعناها كثيراً منذ عشرات السنين تطل علينا – آنذاك – من المذهب الاشتراكي المرتبط فلسفيّاً وتاريخيّاً بالفكر الماركسي، وهذه قضية جديرة بالتأمل مثيرة للدهشة، باعثة على البحث في قضية "الأيديولوجيات" ومقولاتها الأساسية.. والقيمة العلمية الحقيقية لتلك المقولات. وأشير في هذه الملاحظة إلى المقولات الثلاث الآتية: المقولة الأولى: القول بحتمية التاريخ، وجريان مشيئته على الناس أجمعين.. ومع أن هذه المقولة ظلت مرتبطة – في علمنا – بنشأتها في الفكر الفلسفي الأوربي على يد هيجل أولاً، ثمّ على يد ماركس بعد ذلك.. فإنها عادت تطل علينا على ألسنة وأقلام فلاسفة "العولمة"؛ حيث يصورون تلك العولمة تطوراً حتميّاً آتياً لا ريب فيه، ولا قبل لأحد يدفعه أو الوقوف في وجهه.. دون أن يقدموا دليلاً واحداً على وجود تلك الحتمية التي نكاد نرى فيها ترويجاً مذهبيّاً وسياسياً أكثر مما نرى فيها من سمات النظر العلمي الموضوعي المحايد.. وحسبنا دليلاً على هذا أنّ "العولمة" أو "الكوكبة" بصورتها الشاملة لم تكتمل بعد.. فلا زالت الدولة القطرية ذات السيادة والاستقلال حقيقة حية في عوالم السياسية والاقتصاد والقانون. بل لا زالت صور عديدة من صور "التكتل" الإقليمي المفضي في تصور المبشرين بالعولمة إلى توحد عالمي نهائي.. أقول: لا زالت صور عديدة تتأرجح بين النجاح والفشل ويتنازع أصحابها حول حدودها وطبيعتها، ولا يكادون يخطون خطوة إلى الأمام حتى يعودوا – بعد حين – إلى التراجع والخطو إلى الوراء. أما المقولة الثانية: فهي مقولة التفسير الاقتصادي للتاريخ، وبغض النظر عن المنبع الفكري الخاص لهذه المقولة في الفكر الماركسي، وأنها مرتبطة بالمقابلة الماركسية الشهيرة بين المادة والفكر Matter and consciousness فإنّ التفسير الاقتصادي للتاريخ – كما انتهت إليه النظرية الماركسية – مؤداه أنّ الأبنية السياسية والثقافية والقانونية ليست إلا أبنية علوية يحدد وجودها وحركتها بناء تحتي ذو طبيعة مادية... وأنّه في جوهره بناء اقتصادي مرتبط بنظام الإنتاج وملكية أدواته... ومن عجب أن تعود هذه النظرية مع موجة الترويج للعولمة، ولكن في ثوب جديد يرد حركة النظام الدولي الجديد... ومستقبل الكيانات السياسية والقانونية القائمة في ظله – إلى طبيعة نظمها الاقتصادية... على نحو يجري معه تهميش دور السياسة والفكر السياسي، وتهميش الثقافة بصفة عامة. فلا حديث إلا عن التحول الاقتصادي نحو الرأسمالية الجديدة متمثلة في تصفية الملكية العامة، وتصفية دور الدولة وقطاعها العام، ونقل ذلك كله إلى القطاع الخاص تحت لواء الخصخصة أو التخصصية كما يسميها البعض Privatisation. أمّا المقولة الثالثة: فهي القول "بذبول الدولة" أو انتهاء دورها Withering of the state، وهنا كذلك لا يغيب عنا اختلاف نقطة البداية الفلسفية القائمة وراء هذه المقولة كما عرضها الفكر الماركسي عنها في فكر "الترويج للعولمة" ولكن النتائج العملية للمقولتين تكاد تكون متطابقة. فالداعون إلى "العولمة" تحت مظلة الرأسمالية الجديدة التي يصورها أكثر الكتاب بأنها النظام الاقتصادي النهائي الذي تمت به دورة التاريخ... تقترن – على نحو يكاد يكون عامّاً – برفض تدخل الدولة في العلاقات الاقتصادية على زعم أن هذا التدخل هو المسؤول عن تدهور اقتصاديات الدول الاشتراكية والنامية... وأنّ الوفرة الاقتصادية، بل والعدل الاجتماعي سوف يتحققان من خلال قوانين السوق التي تقوم على العرض والطلب، وتنتهي إلى توازن بين مصالح المنتجين ومصالح المستهلكين وطالبي الخدمات.. ولا يكاد أحد ينبه إلى ضرورة تدخل الدولة لحماية الضعفاء والفقراء، وإلى ضرورة إيجاد شبكة أمان Safety net خلال مرحلة التحول الاقتصادي حتى تتناوشه سهام النقد والاتهام بأنّه يدعو إلى ردة جديدة يعود معها النظام الاقتصادي والسياسي الشمولي الذي تخلص العالم منه إلى غير رجعة بسقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار النظم الاشتراكية.. ونسى هؤلاء أنّ الدولة لا يمكن ولا يجوز لها أن تستقيل، وأن كل ما يتطلبه الدخول في الدين الجديد "دين العولمة والخصخصة" إنما هو تحول طبيعي في وظيفة الدولة بحيث لا تباشر الإنتاج ولا تتحكم فيه من خلال خطة مركزية شاملة وصارمة.. وإنما تصير الدولة حكماً وحارساً للنشاط الاقتصادي الخاص، وضامناً للمنافسة المتكافئة الحرة، وسدّاً في وجه الاحتكار والأساليب التجارية المعوجة والخارجة على حرية التجارة وسلامة الممارسات التجارية.. ومن المؤكد أنّ الحاجة إلى هذا الدور الأخير حاجة كبرى.. وأنّ الموقف الحدِّي المطلق والمتعسف من كل تدخل للدولة.. لا يقل جموداً ولا ضرراً عن موقف المفكرين والساسة الماركسيين الذين بشروا بنهاية الدولة عند حلول المرحلة النهائية من مراحل التطور الاقتصادي والاجتماعي... هذا عن الملاحظة الأولية. أما التوضيح المنهجي، فإنّه يتكون من شقين: الشق الأوّل: أننا نشهد – في هذا العصر – عدة ظواهر متجاورة متعاصرة... تتداخل آثارها أحياناً على نحو يحول دون رد كل أثر منها إلى واحدة بعينها من تلك الظواهر: 1- نحن، على سبيل المثال، نشهد ظاهرة سقوط الحواجز المكانية والزمانية بين الناس والشعوب نتيجة الثورات المتعاقبة في ميادين الانتقال Transportation والاتصال Communication... فتسارعت حركة الناس، وتعددت مرات انتقالهم من مكان إلى آخر... كما تسارعت حركة الأخبار والصور والكلمات عبر شبكات البث الإذاعي والتليفزيوني وعبر الهاتف، وأخيراً عبر الأقمار الصناعية التي أوشكت أن تلغي حدود المكان إلغاءً تامّاً... حتى صار العالم – حقيقةً لا مجازاً – قرية واحدة.. تتكلم بكل لغات العالم.. وأصبحت هذه الأقمار تنقل أخبار الناس وصورهم وثقافاتهم إلى كل الناس. 2- ونحن نشهد – في الوقت ذاته – انهيار النظام الدولي القديم بجوانبه الاقتصادية والسياسية والعسكرية.. فلا الدنيا اليوم يتنازعها مذهبان اقتصاديان متناقضان (الرأسمالية والاشتراكية)... ولا العلاقات الدولية يحكمها قطبان أو محوران... أحدهما غربي والآخر شرقي... ولا التوازن العسكري تحدده أو تتجاذبه قوتان... إحداهما على رأسها موسكو والأخرى على رأسها واشنطن ولندن وبون وباريس. 3- ثمّ نحن نشهد كذلك مولد كيانات اقتصادية مستقلة عن الدولة ومستقلة كذلك عن مجموع الدول... هي المشروعات الصناعية والتجارية والخدمية العملاقة التي تعبر القارات ولا تعترف بحدود الدول، وتسعى إلى أن تكون الدنيا كلها سوقاً لما تقدمه من سلع وخدمات، وهو ما يمكن أن نسميه ظاهرة "العملقة" الاقتصادية والصناعية Economic and Industrial Giantism وهذه المؤسسات الاقتصادية والصناعية العملاقة قد اكتسبت قوة ونفوذاً هائلين، وصارت قدرتها على الحركة وعلى خدمة مصالح أصحابها تفوق قدرة كثير من الدول والحكومات، كما صارت قادرة على أحيان كثيرة على تهميش دور المؤسسات الأقل حجماً، بل وعلى استبعادها أحياناً من سوق المنافسة، وتهديدها بالزوال. وحين نتحدث عن العولمة، فنحن لا ندري – في كثير من الحالات – ما إذا كان الذي نتحدث عنه ليس إلا أثراً طبيعياً ومنطقياً لإنهيار الحواجز وسقوط المسافات.. أم أنّه مظهر من مظاهر انهيار النظام الدولي القديم.. أم أنّه – أخيراً – تطور تستدعيه وتسعى إلى تحقيقه المؤسسات العملاقة صاحبة المصلحة الأكيدة في اتساع السوق التجاري أمام ما تنتجه من سلع وما تقدمه من خدمات. أما الشق الثاني: فمؤداه أننا لم نعد ندري – في أحيان كثيرة – ما إذا كان المتحدثون عن "العولمة" يتحدثون عن تطور تتحدد معالمه نتيجة توفر أسبابه، وعن ظاهرة تقع؛ لأن دواعيها ومقدماتها قد تجمعت في الواقع... أم أنهم يتحدثون عن تطور مبتغى، وتنظيم جديد للعلاقات يراد السعي لتحقيقه والتعجيل بوقوعه واكتمال حلقاته... وبعبارة أخرى هل نحن إزاء قضية واقع ووجود نرصد حدوثه... أم أننا أمام دعوة لنظام جديد نريد الترويج له a description or a prescription?... وقيمة هذه التفرقة أننا إذا كنا أمام دعوة لنظام جديد، فإن علينا أن نتحفظ كثيراً وأن نتردد طويلاً قبل أن نقبل كثيراً من مقولات المتحدثين عن "العولمة" من هذا المنطلق الدعوي الترويجي.. ويدفعنا إلى التنبه لهذا الأمر أننا وجدنا في كثير مما يقرره المتحدثون عن العولمة، حتى في هذا الجمع الأكاديمي الرصين، عدداً غير قليل من المبالغات... يتعلق بعضها بوصف الواقع... ويتعلق الآخر بتقويمه: (أ) فمن النوع الأوّل التحدث عن "العولمة" كما لو كانت أمراً قد تحقق فعلاً واكتملت حلقاته... بينما الواقع يصرخ من حولنا بغير ذلك، فلا زالت الدولة القطرية حقيقة قائمة... ولا زال تأثيرها في العلاقات السياسية والاقتصادية، بل والثقافية كذلك تأثيراً قائماً وملحوظاً... بينما يتحدث البعض عن الدولة كما لو كانت من مخلفات التاريخ، أو من الظواهر المنقرضة.. ولا نقبل بسهولة أن تكون هذه المبالغة ثمرة غفلة فكرية.. بل الأقرب أنها ثمرة استعجال مقصود لاكتمال حلقات العولمة في معناها المتصل باتساع السوق، وإتاحة الحرية الكاملة أمام السلع والخدمات لتتحرك في هذه السوق دون حواجز أو معوقات تفرضها الدول.. (ب) ومن النوع الثاني التعجل في إضفاء قيمة إيجابية على كل آثار "العولمة" كالادعاء بأنها – في النهاية – تخدم مصالح الفقراء والدول النامية والصغيرة، وهو أمر نقطع بأنّه على الأقل لم يتحقق بعد، ولا زال المستفيدون الأوائل من هذه العولمة هم الدول الصناعية الكبرى والمشروعات العملاقة عابرة القارات، وليس في تقارير الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة – وبصفة خاصة تقارير البنك الدولي – ما يشير إلى انحسار مد الفقر المتزايد خصوصاً في أفريقيا وغير قليل من دول آسيا وأمريكا اللاتينية.. ولا نريد هنا أن نقرر أموراً أو ندعي وقوع نتائج لا نملك قاعدة معلومات كافية تدل عليها.. وإنما حسبنا أن نقرر أن كثيراً من آثار "العولمة" لم يتم رصدها على نحو علمي.. وأنّ النزعة الدعوية الترويجية هي التي تبشر بنعيم العولمة تبشيراً نتحفظ كثيراً عليه مادام غير مؤيد – بعد – بدراسات علمية كافية، وقاعدة معلومات مساندة. وفي الحديث التحريضي الذي يدعو إلى التوافق مع نظام اقتصادي عالمي واحد تبر مفارقة غريبة جديرة بالتسجيل، وهي صحيحة في ميدان الاقتصاد.. وصحيحة كذلك في ميدان السياسة، وفي ميدان الثقافة على وجه الخصوص، ونشير بذلك إلى التناقض القائم بين الدعوة الملحة إلى التوافق مع النظام الاقتصادي العالمي الموحد.. وبين الدعوة إلى التعددية Pluralism.. وإلا فماذا يبقى من التعددية الحقيقية إذا كان جميع الحضور مدعوين إلى "الدخول في دين الملك".. وترك عقائدهم السياسية والاقتصادية والثقافية التي كانت لهم قبل ظهور هذا الدين الجديد.. وأن جوهر الدعوة إلى العولمة، بالمعنى الدعوي الذي حددناه، أن على الجميع أن يندمجوا في النظام الجديد to integrate بينما جوهر التعددية أن يبقى كل أحد على خصوصيته وهويته وتفرده.. وأن "يتعاون" الجميع بعد ذلك على طريق نظام جديد تقوم علاقاته على أساس "الاعتماد المتبادل" Interdependence، لا على استعلاء فريق واستخذاء فريق.. أو قيادة نظام واحد.. وتبعية سائر الناس له.. ولا نخفي – هنا – انحيازنا الصريح للتعددية، وأهمية المحافظة عليها، فهي أكثر ديمقراطية وأدنى إلى حماية حقوق الأفراد؛ ذلك أنها تؤدي في النهاية إلى إقامة نظام تعدد فيه بصفة مبدئية مراكز اتخاذ القرار.. وهو ما يشكل ضماناً لرشد الفكر والقرار من ناحية، ولحماية الحرية من ناحية أخرى. أما الأفكار الثلاث الرئيسية التي بدت لي والتي أريد أن أضعها واضحة بين يدي الباحثين في أمور "العولمة" فهي الأفكار التالية: 1- إنّ علينا، نحن العرب والمسلمين أن نسأل أنفسنا سؤالاً صريحاً، وأن تكون إجابتنا عليه واضحة.. هل نحن في معركة ضد التطورات المصاحبة للتحول نحو "الكوكبة أو العولمة"؟ وهل لدينا بديل نعرفه، ونريد أن نثبت فيه، وأن نقف – بسبب وجود هذا البديل – في وجه الدعوة إلى العولمة؟، وجوابي عن هذا.. أن بعض ما يقع تحوّلاً نحو العولمة أيّاً كان مقدار ما تحقق منه، هو نتيجة طبيعية لتحولات علمية وصناعية وقعت فعلاً.. ولا يتصور أن يكون المسلمون والعرب في معركة مع سنن الله.. وإنما يأتي مثل هذا التصور من افتراض "أفضلية" كل قديم على "كل جديد" وهو افتراض لا يمليه موقف عقائدي أو ثقافي سليم، وإنما تمليه روح الخوف والإحساس بالعجز عن مواجهة "الجديد" وغير المألوف.. جوابي – مرة أخرى – عن هذا السؤال أننا لسنا في معركة مع التطور.. ولا حاجة بنا إلى أن نلوي ذراع بعض نصوص إطارنا المرجعي، خصوصاً إطارنا المرجعي الديني الإسلامي؛ لنصل إلى "إدانة" مسبقة لتطور لا نملك دفعه، كما لا نملك الدليل على تناقضه مع الثوابت التي يشتمل عليها إطارنا المرجعي. إنّ موضع العظمة أو الإعجاز في ديننا وثقافتنا يتمثل في هذا الجمع بين عدد من الثوابت التي تكوِّن بنية أساسية لثقافتنا، وبين القدرة غير المحدودة على التجاوب مع الجديد، وتوظيفه، من خلال جهد إنساني عامل ومسؤول، ليخدم القيم العليا والمصالح الكبرى للأفراد وللأُمّة.. ولا يتصور أبداً، ولا يجوز، أن نتخلى عن هذه المهمة الثقافية الكبرى.. اكتفاءً بموقف دفاعي انكماشي يمليه الإحساس المبالغ فيه بالضعف والعجز عن التعامل مع كل جديد. 2- إنّ التحول نحو العالمية وإن بدأ اقتصاديّاً، إلا أن امتداده إلى الميدانيين السياسي والثقافي، يشير سؤالاً حاسماً وكبيراً لا يتصور تجاهله أو القفز عليه، وأعني بذلك البحث عن الأساس الأخلاقي الذي يكوّن بنية أساسية تحتية لهذا النظام الجديد.. إنّه ما لا يحتاج إلى بيان أو إثبات أن كل نظام اقتصادي، وكل نظام سياسي يسنده نظام أخلاقي، ومنظومة قيم خاصة به تستمد منها الأحكام التقويمية.. وحين كانت القبيلة – في الزمان القديم – هي الوحدة السياسية والاقتصادية الأساسية كانت بنيتها الأخلاقية ومنظومة السلوك فيها مستمدة من "تقاليد القبيلة" المتوارثة عبر الأجيال.. وحين قامت الدولة الحديثة، واستقرت حدودها الجغرافية، التي صارت – كذلك – حدوداً سياسية لها، ومحدداً أساسياً لسوقها الاقتصادي.. كانت فكرة النظام العام والآداب المستمدة من القيم السائدة بين "شعب" كل دولة هي الأساس الأخلاقي لكيانات القطرية المختلفة، نعم ظلت "القومية" رابطة جامعة لكثير من الدول التي تنتمي شعوبها لثقافة واحدة، ولكن حدود النظام الأخلاقي ظلت – في الغالب – هي حدود الدولة، أو حدود الدولة متداخلة مع حدود "الأمة الواحدة" التي يربطها رباط ثقافي قومي. فماذا إذن يكون الأساس الأخلاقي لعالم متوحد نتيجة توحد السوق، وارتفاع الحواجز وتلاقي الثقافات؟ إنّ النظام الاقتصادي الجديد الذي كان أول ما توحد في هذا العصر.. لا يزال مفتقراً إلى نظام أخلاقي يقوم عليه، كما أنّ النظام السياسي الذي يتشكل الآن – بشيء من البطء – لا يُعرَفُ له هو الآخر أساس أخلاقي معلوم. فإذا ذكرنا أنّ النظام الاقتصادي العالمي الجديد هو – في جوهره – نظام رأسمالي تتحكم فيه الثروات المتراكمة، وتوجهه المؤسسات الخاصة التي تحوز تلك الثروات.. وإذا ذكرنا أنّ المنافسة الحرة يمكن أن تتحول إلى صراع وحشي تمليه المصالح الأنانية التي لا تعرف الشبع.. وإذا ذكرنا أنّ الضعفاء – وهم الكثرة الغالبة – يمكن أن يقعوا صرعى وضحايا في هذا الصراع الوحشي.. ثمّ إذا ذكرنا أنّ المنظومة القانونية والدستورية التي عاش العالم في ظلها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في منتصف الأربعينيات وحتى نهاية هذا القرن، ونعني بذلك منظمة الأمم المتحدة وميثاقها، قد تداعت أركانها واهتزت قوائمها وأصبحت مجرد عباءة ذات هيكل إداري.. ولكن جوهر "السلطة" فيها يكاد يستقر في يد واحدة لا تقبل منافساً ولا شريكاً، وأعني بذلك يد الولايات المتحدة. إذا ذكرنا ذلك كله بدت الحاجة ماسة وملحة إلى توافق الشركاء الجدد في النظام العالمي الجديد على "أساس أخلاقي مشترك".. ولا يكون هذا الأساس مشتركاً إلا إذا استمد مضمونه من "الثقافات المتعددة" التي ينتمي إليها الشركاء.. وإلا إذا مثل الحد الأدنى الذي نستطيع أن نتجاوز به مواضع الخلاف والخصوصية Particularity وأن نلتقي – في ظله – على الأمور المشتركة Commonlities، وهكذا ننبه إلى أنّ البحث عن "منظومة قيم مشتركة" ينبغي أن يكون شاغل أصحاب الثقافات التي تلتقي بعد انهيار الحواجز ليكون من لقائها توافق جديد Entente وليس صراعاً Clash، كما توقع صمويل هانتنجتون، وإن كنا نرى في كتاباته الأخيرة بعض الاستدراك على مقولة حتمية الصراع بين الحضارات. 3- إنّه في مقام البحث عن أساس أخلاقي مشترك، لا يجوز الغفلة عن "الدور الأساسي" الذي تلعبه الأديان في تقديم هذا الأساس المشترك، فقد كانت الأديان منذ فجر التاريخ وإلى يومنا هذا الينبوع الأكبر الذي استمدت منه الشعوب بناءها الأخلاقي.. وإذا كانت مرحلة "الحداثة" التي أعقبت الثورة الصناعية قد فجرت عبادتين جديدتين هما "عبادة المال" و"عبادة الذات" فإنّ الآثار السلبية التي ترتبت على هاتين العبادتين قد ردت الناس من جديد إلى "أديانها" تلتمس منها علاجاً لما تشكو منه، وتستلهم قيمها ومبادئها الكبرى في إيجاد أساس أخلاقي تتحسن عن طريقه "نوعية" العلاقات الإنسانية The Quality of Human Relations بعد أن اكتشف الإنسان الفرد أن سعادته الحقيقية لا تتحقق بحيازته الأشياء وتراكم الأموال، وإنما تتحقق من خلال علاقات حميمة وودية ودافئة مع غيره من الناس. على أنّ الأديان – وأتحدث هنا بوضوح وصراحة عن الأديان السماوية الثلاثة التي هي في مصطلحنا الإسلامي كلها "إسلام"، وهي الأديان التي ترجع إلى عقيدة التوحيد التي جاء بها إبراهيم (ع).. ثمّ نزلت بها كتب ثلاثة هي التوراة والإنجيل والقرآن الذي جاء (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) (المائدة/ 48) – هذه الأديان لن تستطيع – في المدى القريب – أن تؤدي هذا الدور إلا إذا توفر لدعاتها والمبشرين بدورها والحاملين لرسالتها أمران: الأوّل: الوقف الفوري لما يمكن أن نسميه صراع المبشرين The clash of missionaries؛ ذلك أنّ هذا التبشير لم يعد له موضع بعد أن استقر أكثر الناس على أديانهم.. وبعد أن صارت المشكلة الحقيقية التي تواجه المتدينين ليست مشكلة الاستكثار من الداخلين في الدين، وإنما ترشيد حركتهم وتصحيح فهمهم، وإصلاح سلوكهم، في إطار المقاصد الكبرى للدين، كما صارت المشكلة العامة التي تواجه جميع المتدينين هي مواجهة تيار "اللادينية" الذي يعود بالناس – من جديد – إلى دين العبادتين "عبادة الذات" و"عبادة المال". إن ممثلي الأديان السماوية مدعوون إلى التأمل في هذه الصورة بكل قسماتها تفاصيلها؛ ليرسموا أولويات عملهم من جديد، وليبدءوا رحلة حوار طويل يظللهم فيها قوله سبحانه: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) (آل عمران/ 64).. وهو حوار لابدّ أن تحكمه آداب الحوار الإنساني الرفيع، وهي آداب شدد عليها القرآن بقوله سبحانه: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/ 125)، وقوله: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) (البقرة/ 83). الثاني: معاودة النظر في الخطاب الديني السائد بين دعاء كل دين أو المتحدثين باسمه، أو الصفوة من المحسوبين على ثقافته. وسألجأ في هذا الجزء من حديثي إلى درجة من الصراحة والتعدي، ربما لا تكون مألوفة في المحافل والمجامع العلمية، ولكن الأمر – فيما أتصور – أجل وأكبر من كل مداراة أو مجاملة.. وكل ما أقصد إليه من هذه المصارحة هو إثارة التفكير وتنبيه الخواطر، وفتح حوار صريح يشارك فيه الجميع بقوة، نرجو – مع ذلك – ألا تنال من روح الود الذي هو أول آداب الحوار بالتي هي أحسن. (1) فأما اليهودية فلا أملك ولا أحب أن أتعرض من قريب أو بعيد لعناصرها اللاهوتية، فليس هنا مكان هذا.. ولست – على أي حال – مؤهلاً للخوض فيه.. ولكني أتحدث عن مسافة كبيرة صارت تفصل يهود العالم عن مسيحييه ومسلميه، وعن حاجز نفسي يعبر عن نفسه في فترات الصفاء والهدوء بشيء من الفتور الممزوج بالتوجس.. كما يعبر عن نفسه في فترات أخرى سيئة بألوان من العداوة والبغضاء التي صار البعض يسميها خطأ "معاداة السامية".. وأزعم زعماً – أنا وحدي مسؤول عن طرحه – أنّه ما أسهم في خلق هذه المسافة أن قيادات وزعامات يهودية قد بنت علاقة اليهود بغيرهم على أساس محوري هو الإحساس بعدم الأمن Insecurity نتيجة انعزال اختياري أو مفروض في حوزات خاصة Ghettos ونتيجة تشرذم وتفرق في البلاد في نوع من التيه السياسي الجديد New diaspora.. وأخيراً نتيجة ما وقع لهم في التاريخ الأوروبي الحديث من التعرض للمأساة المعروفة باسم Holocaust على يد هتلر وألمانيا النازية.. وحين ظهرت الحركة الصهيونية فإنها عزفت طويلاً وبنبرة عالية وإيقاع متتالٍ ودأب لا يفتر على هذه الأمور الثلاثة.. واستطاعت أن تخلق تعاطفاً شديداً مخلصاً أو غير مخلص مع يهود العالم، ثمّ مع الحركة الصهيونية.. ومارست بعض الدوائر الصهيونية – وأقول بوضوح بعض الدوائر الصهيونية – نوعاً من الابتزاز الذكي لعديد من الدوائر الغربية، بل والشرقية؛ سعياً لتحقيق وخدمة مصالح سياسية واقتصادية لا صلة لها باليهودية كدين سماوي؛ مما يجعلنا نتردد طويلاً في إدانتها كمنهج صالح لإقامة علاقة إيجابية تجعل يهود العالم شركاء أصلاء في السعي لإيجاد "نظام أخلاقي مشترك" يكون بمثابة بنية أساسية للنظام العالمي الجديد.. إن هناك إغراء لا شك فيه بمتابعة هذا النهج الذي حقق لليهود خلال المائة سنة الأخيرة مكاسب عديدة.. ولكن الزمن تغير والخريطة الجديدة ليست هي الخريطة القديمة.. فلا جتو هناك ولا هولو كوست، ولا تيه، ولا تهديد لأمن اليهود.. ومن الضروري – قبل تأخر الوقت وفوات الأوان – أن تعيد القيادات والزعامات الدينية واليهودية النظر في هذا الأمر كله، قبل أن تقع أمور لا تحب لها أن تقع.. (2) وأما المسيحية، فإن أزمتها المعاصرة فيما نرى لا ترجع إلى شيء من مقولاتها اللاهوتية ولا إلى الصراع بين كنائسها المختلفة، خصوصاً الكاثوليكية والبروتستانتية.. وإنما ترجع هذه الأزمة – كما نراها، وفي إطار ما نحن بصدده من بحث دور الأديان في إيجاد أساس أخلاقي مشترك للنظام العالمي الجديد – إلى أنها مهددة بتراجع تأثيرها لمصلحة المكون العقلي المادي المستمد من الحضارة اليونانية القديمة، والذي تطور ونما في أوروبا وأمريكا.. إنّ الصراع التاريخي بين المؤسستين اللتين تنازعتا السيادة في الغرب خلال القرون الوسطى وهما الكنيسة والدولة الملكية.. هذا الصراع قد انتهى إلى مصالحة تاريخية صيغت في شكل مبدأ سياسي ودستوري لم يعد محلّاً للمناقشة أو الجدل في الفكر الغربي، وأعني مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة.. وهو مبدأ له مبرره التاريخي الشرعي بسبب جمود الكنيسة ورجالها من ناحية وتدخلهم في حريات الأفراد من ناحية أخرى.. ويعبر الأمريكيون عن هذا المبدأ بأنّه تقرر إقامة جدار مرتفع يفصل بين الكنيسة والدولة a high wall of separation، ولكن هذا الجدار العالي الذي أريد له – تاريخيّاً – أن يحدد اختصاص مؤسستين من مؤسسات المجتمع الغربي المسيحي قد تحول تدريجيّاً إلى إقصاء لكل ما هو ديني عن مسيرة التطور الإنساني، خصوصاً في ميادين السياسة والتشريع والاقتصاد. ونستطيع تلخيص هذا الوضع في صورته الراهنة بقولنا: إنّ حضارة الغرب تقف على أبواب طلاق بائن بين العنصرين المكونين تاريخيّاً لمضمون هذه الحضارة.. المكوّن المسيحي والمكون العقلاني المادي المستمد من أصول يونانية. ولقد آن الأوان – فيما نرى – لإعادة النظر في هذه الصيغة دون التنازل عن بقاء الحريات السياسية بعيدة عن تدخل رجال الكنيسة.. وبغير إعادة النظر هذه سينطلق التطور السياسي والاجتماعي في الغرب محروماً من قيم الرحمة والسماحة والحب والسلام، وهي القيم التي بشر بها المسيح عليه السلام.. وستحاصر المسيحية في كنائسها.. ولن يقبل عليها إلا الهاربون من الحياة والعاجزون عن التعامل مع نواميس التطور ومتطلباته.. وسيجد الناس أساساً أخلاقيّاً لنظامهم العالمي الجديد بعيداً عن المسيحية وتعاليمها الإنسانية السمحة. (3) أما على الساحة الإسلامية.. فإنّ الأمر يحتاج إلى تصحيح الشأن الداخلي للأُمّة على محاور خمسة: (أ) رسم الخط الفارق بين الإسلام كما يفهمه ويمارسه يتنفسه مئات الملايين من المسلمين، مكونين التيار العريض للإسلام وحضارته ونظامه وبين ما سماه الغربيون حديثاً "الأصولية" (Fundamentalism) – (integrism) وهو ما نسميه نحن المسلمين تيار "الغلو في الدين" وهو غلو تتنوع إفرازاته السلوكية غير السوية، بدءاً من العزلة عن تيار الحياة والفرار إلى التعبد بظواهر النصوص.. وانتهاء إلى ممارسة صور من القسر والعنف وإكراه الناس، وهي صور تصطدم مباشرة بروح الإسلام، ونصوصه القطعية الثابتة في إطاره المرجعي.. نعم، لقد تعمد البعض – من منطلقات سيئة ماكرة – أن يخلطوا بين الظاهرتين، ولكن يظل صحيحاً أن جزءاً كبيراً من المسؤولية عن هذا الخلط تقع على أكتافنا نحن المسلمين، وعلى علمائنا بوجه خاص ممن ترددوا أن تحرجوا أو كانت لهم حسابات لا ندريها أو ندري بعضها حالت بينهم وبين مواجهة تيار الغلو والإنكار عليه وبيان فساد مقولاته، بنبرة عالية، وعبارة واضحة، وصوت جهير. (ب) تصحيح فهم "عالمية الإسلام" باعتباره دعوة إنسانية موجهة للكافة، وليس نظاماً يسعى أتباعه إلى فرضه عنوة وقسراً على سائر الناس.. والحديث في هذا يطول.. وهو يقتضي تصحيحاً وتطويراً جذريّاً لأسلوب الدعوة إلى الإسلام وللخطاب الإسلامي بصفة عامة، ولمفهوم الجهاد في الإسلام بصفة خاصة. (ج) ممارسة الاجتهاد والإقبال على التحديد في الفقه وفي أصوله على نحو يسمح باستيعاب صور التطور العمراني، ويواكب حركة العلم والتقنية، ويسهم فيها كما أسهم المسلمون الأوائل في تطور العلوم والمعارف الإنسانية.. وجدير بالذين تملؤهم الريبة ويستولى عليهم الهلع من كل محاولات التجديد في الفكر الإسلامي أن يسمعوا قول الإمام الحنبلي المشهود له بالعلم والورع تقي الدين ابن تيمية حين يتحدث عن "السياسة الشرعية" فيقول: "إنها قسم من الشريعة وليست قَسيماً لها".. أي إنها جزء من أجزائها وليست أمراً خارجاً عليها.. (د) إعادة قيم الحرية والديمقراطية إلى مكانهما الصحيح من التصور الإسلامي، ومن الحياة اليومية والسياسية والاجتماعية للمسلمين.. بعد أن ساد القمع وغابت الشورى وتراجع الإيمان بفضائل الحرية عند كثير من الرعاة والرعية، وإن قالوا.. وإن قالوا.. (هـ) إعادة النظر في علاقة "المسلمين"، بالآخرين.. فالمسلمون لم يكونوا ولم يرد لهم ربهم أن يكونوا أمة منعزلة منكفئة على نفسها، مرتابة في غيرها.. وإنما الخلق كلهم في منطق الإسلام "عيال الله" والتعددية سنة من سنن الله في خلقه.. (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) (المائدة/ 48).. والأصل في علاقة المسلم بسائر الناس أنها علاقة ود وتعاون على الخير وتراحم (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) (الممتحنة/ 8)، (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) (الأنفال/ 61). ويبقى من وراء ذلك كله، ومن بعده، أنّ الجميع مدعوون إلى ممارسة تواضع حقيقي، وإلى التيقن من أنهم سيدخلون القرن الذي يدق أبوابهم جميعاً.. في موكب واحد.. وأن عليهم – لذلك – أن يواجهوا تحديات هذا المستقبل بعقول تتسع لاختلاف الرأي والنظر، وقلوب تدرك ما بين الأديان السماوية من نسب وثيق "فالأنبياء أبناء علات، أمهاتهم شتى وأبوهم واحد". هذا.. أو الطوفان.. يحمل إلى البشرية من الأخطار الجسام ما لا يعلمه إلا الله، ويلقي على موكبها الواحد المشترك سخائم وبلايا تَسْقُط على رؤوس الجميع كأنها (حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) (هود/ 82).. وعلى الله قصد السبيل. المصدر: مجلة المسلم المعاصر/ العدد 91 لسنة 1999ممقالات ذات صلة
ارسال التعليق